وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة ، ذَكَر صفات المؤمنين الحميدة ، فقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ }
قال ابن عباس ، وأنس ، وسعيد بن المسيب ، وأبو عثمان النّهدي ، وعكرمة ، وجماعة : نزلت في صُهيب بن سنَان الرومي ، وذلك أنَّه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة ، منعه الناس أن يهاجر بماله ، وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر ، فَعَل . فتخلص منهم وأعطاهم ماله ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرّة . فقالوا{[3715]} : رَبح البيع . فقال : وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم ، وما ذاك ؟ فأخبروه أنّ الله أنزل فيه هذه الآية . ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ربِح البيع صهيب ، ربح البيع صهيب " .
قال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن رُسْتَة ، حدثنا سليمان ابن داود ، حدثنا جعفر بن سليمان الضَبَعي ، حدثنا عوف ، عن أبي عثمان النهدي ، عن صهيب قال : لما أردتُ الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش : يا صهيبُ ، قَدمتَ إلينا ولا مَالَ لك ، وتخرج أنت ومالك ! والله لا يكون ذلك أبدًا . فقلت لهم : أرأيتم إن دَفَعْتُ إليكم مالي تُخَلُّون عني ؟ قالوا : نعم . فدفعتُ إليهم مالي ، فخلَّوا عني ، فخرجت حتى قدمتُ المدينة . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " رَبح صهيبُ ، ربح صهيب " مرتين{[3716]} .
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال : أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نَفَر من قريش ، فنزل عَنْ راحلته ، وانتثل ما في كنانته . ثم قال{[3717]} يا معشر قريش ، قد علمتم أنّي من أرماكم رجلا وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي كُلّ سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شَيْء ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي وقُنْيتي بمكة وخلَّيتم سبيلي ؟ قالوا : نعم . فلما قَدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ربح البيع ، ربح البيع " . قال : ونزلت : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
وأما الأكثرون فحمَلوا ذلك على أنها نزلت في كل مُجَاهد في سبيل الله ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة : 111 ] . ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين ، أنكر عليه بعضُ الناس ، فردّ عليهم عُمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما ، وتلوا هذه الآية : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } .
{ ومن الناس من يشري نفسه } يبيعها أي يبذلها في الجهاد ، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل { ابتغاء مرضاة الله } طلبا لرضاه . قيل إنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال : إني شيخ كبير لا ينفعكم إن كنت معكم ولا يضركم إن كنت عليكم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي فقبلوه منه وأتى المدينة . { والله رؤوف بالعباد } حيث أرشدهم إلى مثل هذا الشراء وكلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الغزاة والشهداء .
هذا قسيم { ومن الناس من يعجبك قوله } [ البقرة : 204 ] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعاباً لقسمي الناس ، فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى وإنما رضا الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به .
و ( يشري ) معناه يبيع كما أن يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [ البقرة : 41 ] . واستعمل ( يشري ) هنا في البذل مجازاً ، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكاً في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان ، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان .
و { مرضاة الله } رضاه فهو مصدر رَضيَ على وزن المفعل زيدت فيه التاء سماعاً كالمَدْعاة والمَسْعاة ، في أسباب النزول قال سعيد بن المسيب نزلت في صهيب بن سنان النَّمرَى بن النمر بن قاسط الملقب بالرومي ؛ لأنه كان أسَرَه الرومُ في الجاهلية في جهات الموصل واشتراه بنو كلب فكان مولاهم وأثرى في الجاهلية بمكة وكان من المسلمين الأولين فلما هاجر النبي خرج صهيب مهاجراً فلحق به نفر من قريش ليوثقوه فنزل عن راحلته وانتثل كنانته وكان رامياً وقال لهم لقد علمتم أني من أرماكم وأَيْمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيءٌ فقالوا : لا نتركك تخرج من عندنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً ، ولكن دلنا على مالك وتخلي عنك وعاهدوه على ذلك فدلهم على ماله ، فلما قدم على النبي قال له حين رآه رَبِحَ البيعُ أيا يحْيى وتلا عليه هذه الآية ، وقيل إن كفار مكة عذَّبوا صهيباً لإسلامه فافتدى منهم بماله وخرج مهاجراً ، وقيل : غير ذلك ، والأظهر أنها عامة ، وأن صهيباً أو غيره ملاحظ في أول من تشمله .
وقوله { والله رؤوف بالعباد } تذييل أي رؤوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة .
والظاهر أن التعريف في قوله ( العباد ) تعريف استغراق ، لأن الله رؤوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته ، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون ؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرِّزق ، ويجوز أن يكون التعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله .
ويجوز أن يكون ( أَلْ ) عوضاً عن المضاف إليه كقوله { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] ، والعباد إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } في [ سورة الحجر : 42 ] .
ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان مَا صْدَق ( مَنْ ) عاماً كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله ، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلاً بنفسه وهو من لوازم التذييل ، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عباداً له ، وإن كان ما صْدَق ( مَنْ ) صهيباً رضي الله عنه فالمعنى والله رءوف بالعباد الذين صهيب منهم ، والجملة تذييل على كل حال ، والمناسبة أن صهيباً كان عبداً للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به ، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به .
وفي هذه الآية وهي قوله : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } [ البقرة : 204 ] إلى قوله { رؤوف بالعباد } معان من معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلِّم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار بالظواهر إلاّ بعد التجربة والامتحان ، فإن من الناس من يغُر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري :
وقد يُخْلِفُ الإنسانُ ظَنَّ عَشِيرةٍ *** وإن رَاقَ منه مَنْظَرٌ ورُوَاء
وقد شمل هذا الحالَ قول النبي صلى الله عليه وسلم « إن من البيان لسحرا » بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكَلِم وتبلغ هلهلة دينه إلى حد أن يُشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية .
وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب ، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة ، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبىء خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به .