في هذه السورة دعوة إلى القراءة والتعلم ، وأن من قدر على خلق الإنسان من أصل ضعيف قادر على أن يعلمه الكتبة ، يضبط بها العلوم ويتم بها التفاهم ، ويعلمه ما لم يعلم فهو سبحانه مفيض العلم على الإنسان ، وتنبه السورة إلى أن الثراء والقوة قد يدفعان النفوس إلى مجاوزة حدود الله ، ولكن مصير الكل إلى الله في النهاية ، وتوجه الحديث لكل من يصلح للخطاب منذرة الطغاة الصادين عن الخير . مهددة لهم بأخذهم بالنواصي إلى النار ، فلا تنفعهم الأنصار ، وتختم السورة بدعوة الممتثلين إلى مخالفة المعاندين المكذبين والتقرب بالطاعة إلى رب العالمين .
1- اقرأ - يا محمد - ما يوحى إليك مفتتحاً باسم ربك الذي له - وحده - القدرة على الخلق .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح . ثم حُبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه - وهو : التعبد - الليالي ذواتَ العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد{[30233]} لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : ما أنا بقارئ " . قال : " فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال : فرجع بها تَرجُف بَوادره{[30234]} حتى دخل على خديجة فقال : " زملوني زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع . فقال : يا خديجة ، ما لي : فأخبرها الخبر وقال : " قد خشيت علي " . فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث ، وتحمل الكَلَّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصي - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل{[30235]} ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ - فقالت خديجة : أيّ ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فقال ورقة : ابنَ أخي ، ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى{[30236]} ليتني{[30237]} فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أومخرجيَّ هُم ؟ " . فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به{[30238]} إلا عودي ، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا . [ ثم ] {[30239]} لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي ، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رؤوس شَوَاهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسولُ الله حقًا . فيسكن بذلك جأشه ، وتَقَرُّ نفسه فيرجع . فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري{[30240]} وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده فهو هناك محرر ، ولله الحمد والمنة .
فأول شيء [ نزل ]{[30241]} من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات{[30242]} وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم . وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ولفظي ورسمي ، والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر : قيدوا العلم بالكتابة{[30243]} . وفيه أيضا : " من عمل بما علم رزقه{[30244]} الله علم ما لم يكن [ يعلم ]{[30245]} .
تفسير سورة القلم{[1]}
بسم الله الرحمن الرحيم سورة العلق وهي مكية بإجماع ، وهي أول ما نزل من كتاب الله تعالى ، نزل صدرها في غار حراء حسب ما ثبت في صحيح البخاري وغيره ، وروي من طريق جابر بن عبد الله أن أول ما نزل { يا أيها المدثر }{[2]} وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل{[3]} : إن أول ما نزل فاتحة الكتاب . والقول الأول أصح ، والترتيب في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك
في صحيح البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها ، قال : أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه التحنث{[11900]} في غار حراء ، فكان يخلو فيه فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ثم ينصرف حتى جاءه الملك وهو في غار حراء ، فقال له : { اقرأ } ، فقال : ما أنا بقارىء ، قال : فأخذني فغطني{[11901]} ثم كذلك ثلاث مرات ، فقال له في الثالثة : { اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق } إلى قوله { ما لم يعلم } ، قال : فرجع بها رسول ترجف بوادره{[11902]} الحديث بطوله ، ومعنى هذه الآية : { اقرأ } هذا القرآن { باسم ربك } ، أي ابدأ فعلك بذكر اسم ربك ، كما قال : { اركبوا فيها بسم الله }{[11903]} [ هود : 41 ] هذا وجه . ووجه آخر في كتاب الثعلبي أن المعنى : { اقرأ } في أول كل سورة ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم ، ووجه آخر أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو { باسم ربك الذي خلق } ، كأنه قال له : { اقرأ } هذا اللفظ ، ولما ذكر الرب وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أرباباً جاءه بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها ، وهي قوله تعالى : { الذي خلق } .