11- يأمركم الله في شأن توريث أولادكم وأبويكم - إذا مُتُّم - بما يحقق العدل والإصلاح وذلك بأن يكون للذكر مثل نصيب الأنثيين إذا كان الأولاد ذكوراً وإناثاً . فإن كان جميع الأولاد إناثاً يزيد عددهن على اثنتين فلهن الثلثان من التركة . ويفهم من مضمون الآية أن الاثنتين نصيبهما كنصيب الأكثر من اثنتين . وإن ترك بنتاً واحدة فلها نصف ما ترك . وإن ترك أباً وأماً فلكل منهما السدس إن كان له ولد معهما - ولد ذكر أو أنثى - فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فقط فلأمه الثلث والباقي للأب . فإن كان له إخوة فلأمه السدس والباقي للأب ولا شيء للأخوة . تُعْطَي هذه الأنصبة لمستحقيها بعد أداء ما يكون عليه من دين ، وتنفيذ ما وصَّى به في حدود ما أجازه الشارع . هذا حكم الله فإنه عدل وحكمة ، وأنتم لا تدرون الأقرب لكم نفعاً من الآباء والأبناء ، والخير فيما أمر الله ، فهو العليم بمصالحكم ، الحكيم فيما فرض لكم .
هذه الآية الكريمة والتي{[6690]} بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض ، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث ، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هي كالتفسير لذلك وَلنذْكُرْ منها ما هو متعلق بتفسير ذلك ، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة ، والحجاج بين الأئمة ، فموضعه كتاب " الأحكام " فالله المستعان{[6691]} .
وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض ، وهذه الفرائض الخاصة{[6692]} من أهم ذلك . وقد روى أبو داود وابن ماجة ، من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنه{[6693]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العِلْمُ ثلاثة ، وما سِوَى ذلك فهو فَضْلٌ : آية مُحْكَمَةٌ ، أو سُنَّةٌ قائمةٌ ، أو فَريضةٌ عَادَلةٌ " {[6694]} .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة ، تَعلَّمُوا الفرائِضَ وعلِّموهُ فإنه نصْف العلم ، وهو يُنْسَى ، وهو أول شيء{[6695]} يُنْتزَع من أمتي " .
رواه ابن ماجة ، وفي إسناده ضعف{[6696]} .
وقد رُوي من حديث عبد الله بن مسعود وأبي سعيد{[6697]} وفي كل منهما نظر . قال [ سفيان ]{[6698]} ابن عيينة : إنما سَمَّى الفرائض نصفَ العلم ؛ لأنه يبتلى{[6699]} به الناس كلهم .
وقال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام : أن ابن جُرَيج أخبرهم قال : أخبرني ابن المُنْكدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سَلمَةَ ماشيين ، فوجَدَني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا ، فدعا بماء فتوضأ منه ، ثم رَش عَلَيَّ ، فأفقت ، فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } .
وكذا رواه مسلم والنسائي ، من حديث حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج{[6700]} به ، ورواه الجماعةُ كُلّهم من حديث سفيان بن عُيَينة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر{[6701]} .
حديث آخر عن جابر في سبب نزول الآية : قال الإمام أحمد : حَدّثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله - هو ابن عَمْرو{[6702]} الرقيّ - عن عبد الله بن محمد بن عَقيل ، عن جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الرَّبيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قُتل أبوهما معك في أحُد شهيدا ، وإن عمهما أخذ مالهما ، فلم يَدَعْ لهما مالا ولا يُنْكَحَان إلا ولهما مال . قال : فقال : " يَقْضِي اللَّهُ في ذلك " . قال : فنزلت آية الميراث ، فأرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : " أعْطِ ابْنَتي سعد الثلثين ، وأُمُّهُمَا الثُّمُنَ ، وما بقي فهو لك " .
وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ، من طرق ، عن عبد الله بن محمد بن عُقَيل ، به . قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه{[6703]} .
والظاهر أن{[6704]} حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي ، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ، ولم يكن له بنات ، وإنما كان يورث كلالة ، ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعا للبخاري ، رحمه الله ، فإنه ذكره هاهنا . والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية ، والله أعلم .
فقوله{[6705]} تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } أي : يأمركم بالعدل فيهم ، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث ، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث ، وفاوت بين الصنفين ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتجشُّم المشقة ، فناسب أن يُعْطَى ضعْفَيْ ما تأخذه{[6706]} الأنثى .
وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم ، فعلم{[6707]} أنه أرحم بهم منهم ، كما جاء في الحديث الصحيح .
وقد رأى امرأة من السَّبْي تدور على ولدها ، فلما وجدته أخذته فألْصَقَتْه بصَدْرها وأرضعته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أتَروْن هذهِ طارحةَ ولدها{[6708]} في النار وهي تَقْدِرُ على ذلك ؟ " قالوا : لا يا رسول الله : قال : " فَوَاللهِ للَّهُ أًرْحَمُ بعبادِهِ من هذه بِوَلَدِهَا " .
وقال البخاري هاهنا : حدثنا محمد بن يوسف ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن عَطاء ، عن ابن عباس قال : كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين ، فنَسَخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث ، وجعل للزوجة الثمن والربع ، وللزوج الشطر والربع{[6709]} .
وقال العَوفي ، عن ابن عباس قوله : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فَرَضَ الله فيها ما فرض ، للولد الذكر والأنثى والأبوين ، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا : تُعطَى المرأة الربع أو الثمن{[6710]} وتعطى البنت{[6711]} النصف . ويعطى الغلام الصغير . وليس أحد من هؤلاء يقاتل القوم ، ولا يحوز الغنيمة . . اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه ، أو نقول له فيغير ، فقال بعضهم : يا رسول الله ، نعطي الجارية نصف ما ترك أبوها ، وليست تركب الفَرَس ، ولا تقاتل القوم ونُعطِي{[6712]} الصبي الميراث وليس يُغني{[6713]} شيئا . . وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ، ويعطونه الأكبر فالأكبر . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا .
وقوله : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } قال بعض الناس : قوله : { فوق } زائدة وتقديره : فإن كنّ نساء اثنتين كما في قوله [ تعالى ]{[6714]} { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ } [ الأنفال : 12 ] وهذا غير مُسَلَّم لا هنا ولا هناك ؛ فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه وهذا ممتنع ، ثم قوله : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } لو كان المراد ما قالوه لقال : فلهما ثلثا ما ترك . وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين{[6715]} من حكم الأختين في الآية الأخيرة ، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين . وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بطريق الأولى{[6716]} وقد تقدم في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين ، فدل الكتاب والسنة على ذلك ، وأيضا فإنه قال : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فلو كان للبنتين النصف [ أيضا ]{[6717]} لنص عليه ، فلما حكم به للواحدة على انفرادها دل على أن البنتين في حكم الثلاث والله أعلم .
وقوله : { وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ ]{[6718]} } إلى آخره ، الأبوان لهما في الميراث أحوال :
أحدها : أن يجتمعا مع الأولاد ، فيفرض لكل واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة ، فرض لها النصف ، وللأبوين لكل واحد منهما السدس ، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب ، فيجمع{[6719]} له - والحالة هذه - بين هذه الفرض والتعصيب .
الحال الثاني : أن ينفرد الأبوان بالميراث ، فيفرض للأم - والحالة هذه - الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض ، ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض{[6720]} للأم ، وهو الثلثان ، فلو كان معهما - والحالة هذه - زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة{[6721]} الربع . ثم اختلف العلماء : ما تأخذ{[6722]} الأم بعد فرض الزوج والزوجة على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين ؛ لأن الباقي كأنه{[6723]} جميع الميراث بالنسبة إليهما . وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ ثلثيه{[6724]} وهو قول عمر وعثمان ، وأصح الروايتين عن علي . وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت ، وهو قول الفقهاء السبعة ، والأئمة الأربعة ، وجمهور العلماء - رحمهم الله .
والقول الثاني : أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ } فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا . وهو قول ابن عباس . وروي عن علي ، ومعاذ بن جبل ، نحوه . وبه يقول شريح وداود بن علي الظاهري واختاره الإمام أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري{[6725]} في كتابه " الإيجاز في علم الفرائض " .
وهذا فيه نظر ، بل هو ضعيف ؛ لأن ظاهر الآية إنما هو [ ما ]{[6726]} إذا استبد بجميع التركة ، فأما في هذه المسألة فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض ، ويبقى الباقي كأنه جميع التركة ، فتأخذ ثلثه ، كما تقدم .
والقول الثالث : أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة ، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة{[6727]} من اثني عشر ، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة ، فيبقى{[6728]} خمسة للأب . وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي ؛ لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال ، فتكون المسألة من ستة : للزوج النصف ثلاثة{[6729]} وللأم ثلث ما بقي{[6730]} وهو سهم ، وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان . ويحكى هذا عن محمد بن سيرين ، رحمه الله ، وهو مركب من القولين الأولين ، موافق كلا منهما في صورة وهو ضعيف أيضا . والصحيح الأول ، والله أعلم .
والحال الثالث من أحوال الأبوين : وهو اجتماعهما مع الإخوة ، وسواء كانوا من الأبوين ، أو من الأب ، أو من الأم ، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئًا ، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ، فيفرض لها مع وجودهم السدس ، فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي .
وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور . وقد روى البيهقي من طريق شُعْبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين لا يَردان الأم عن الثلث ، قال الله تعالى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة . فقال عثمان : لا أستطيع تغيير ما كان قبلي ، ومضى في الأمصار ، وتوارث به الناس .
وفي صحة هذا الأثر نظر ، فإن شُعْبَة هذا تكلَّم فيه مالك بن أنس ، ولو كان هذا صحيحا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به ، والمنقول عنهم خلافه .
وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه أنه قال : الأخوان تسمى إخوة{[6731]} وقد أفردت لهذه المسألة جُزءًا على حدة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة ، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد ، عن قتادة قوله : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ } أضروا بالأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك ، وكان أهل العلم يَرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته{[6732]} عليهم دون أمهم .
وهذا كلام{[6733]} حسن . لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم ، وهذا قول شاذ ، رواه ابن جرير في تفسيره فقال :
حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر عن ابن طاوس ، عن أبيه عن ابن عباس ، قال : السدس الذي حَجَبَتْه الإخوة لأم لهم ، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم .
ثم قال ابن جرير : وهذا قول مخالف لجميع الأمة ، وقد حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، أخبرنا عَمْرو ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس أنه قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .
وقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أجمع العلماء سلفًا وخلفًا : أن الدَّيْن مقدم على الوصية ، وذلك عند إمعان النظر يفهم من فَحْوَى الآية الكريمة . وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وأصحاب التفاسير ، من حديث أبي إسحاق ، عن الحارث بن عبد الله الأعور ، عن علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[6734]} قال : إنكم تقرءون { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العَلات ، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه . ثم قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحارث الأعور ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم{[6735]} .
قلت : لكن كان حافظًا للفرائض معتنياً بها وبالحساب{[6736]} فالله{[6737]} أعلم .
وقوله : { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } أي : إنما فرضنا للآباء وللأبناء ، وساوينا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية ، وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللوالدين{[6738]} الوصية ، كما تقدم عن ابن عباس ، إنما نسخ الله ذلك إلى هذا ، ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم ؛ لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي - أو الأخروي أو هما - من أبيه ما لا يأتيه من ابنه ، وقد يكون بالعكس ؛ فلهذا قال : { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } أي : كأن{[6739]} النفع متوقع ومرجو من هذا ، كما هو متوقع ومرجو من الآخر ؛ فلهذا فرضنا لهذا ولهذا ، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث ، والله أعلم .
وقوله : { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } أي : [ من ]{[6740]} هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث ، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض - هو فرض من الله حكم به وقضاه ، والله{[6741]} عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها ، ويعطي كلا ما يستحقه بحسبه ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا }
{ يوصيكم الله } يأمركم ويعهد إليكم . { في أولادكم } في شأن ميراثهم وهو إجمال تفصيله . { للذكر مثل حظ الأنثيين } أي يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان فيضعف نصيبه ، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه لأن القصد إلى بيان فضله ، والتنبيه على أن التضعيف كاف للتفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة ، والمعنى للذكر منهم فحذف للعلم به . { فإن كن نساء } أي إن كان الأولاد نساء خلصا ليس معهن ذكر ، الضمير فأنث الضمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات . { فوق اثنتين } خبر ثان ، أو صفة للنساء أي نساء زائدات على اثنتين . { فلهن ثلثا ما ترك } المتوفى منكم ، ويدل عليه المعنى . { وإن كانت واحدة فلها النصف } أي وإن كانت المولودة واحدة . وقرأ نافع بالرفع على كان التامة ، واختلف في الثنتين فقال ابن عباس رضي الله عنهما حكمهما حكم الواحدة ، لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما . وقال الباقون حكمهما حكم ما فوقهما لأنه تعالى لما بين أن حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان ، اقتضى ذلك أن فرضهما الثلثان . ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد رد ذلك بقوله : { فإن كن نساء فوق اثنتين } ويؤيد ذلك أن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالحري أن تستحقه مع أخت مثلها . وأن البنتين أمس رحما من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله تعالى : { فلهما الثلثان مما ترك } . { ولأبويه } ولأبوي الميت . { لكل واحد منهما } بدل منه بتكرير العامل وفائدته التنصيص على استحقاق كل واحد منهما السدس ، والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا . { السدس مما ترك إن كان له } أي للميت . { ولد } ذكر أو أنثى غير أن الأب يأخذ السدس مع الأنثى بالفريضة ، وما بقي من ذوي الفروض أيضا بالعصوبة . { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه } فحسب . { فلأمه الثلث } مما ترك وإنما لم يذكر حصة الأب ، لأنه لما فرض أن الوارث أبواه فقط وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب ، وكأنه قال : فلهما ما ترك أثلاثا ، وعلى هذا ينبغي أن يكون لها حيث كان معهما أحد الزوجين ثلث ما بقي من فرضه كما قاله الجمهور ، لا ثلث المال كما قاله ابن عباس ، فإنه يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب وهو خلاف وضع الشرع . { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } بإطلاقه يدل على أن الإخوة يردونها من الثلث إلى السدس ، وإن كانوا لا يرثون مع الأب . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم ، والجمهور على أن المراد بالأخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كان من الإخوة أو من الأخوات ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا يحجب الأم من الثلث ما دون الثلاثة ولا الأخوات الخلص أخذا بالظاهر . وقرأ حمزة والكسائي { فلأمه } بكسر الهمزة اتباعا للكسرة التي قبلها . { من بعد وصية يوصي بها أو دين متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها أي هذه الأنصباء للورثة من بعد ما كان من وصية . أو دين ، وإنما قال بأو التي للإباحة دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدمان على القسمة مجموعين ومنفردين ، وقدم الوصية على الدين وهي متأخرة في الحكم لأنها مشبهة بالميراث شاقة على الورثة مندوب إليها الجميع والدين إنما يكون على الندور . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بفتح الصاد . { آباؤكم وأنباؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم ، فتحروا فيهم ما أوصاكم الله به ، ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه . روي أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل أن يرفع إليه فيرفع بشفاعته . أو من مورثيكم منهم أو من أوصى منهم فعرضكم للثواب بإمضاء وصيته ، أو من لم يوص فوفر عليكم ماله فهو اعتراض مؤكد لأمر القسمة أو تنفيذ الوصية . { فريضة من الله } مصدر مؤكد ، أو مصدر يوصيكم الله لأنه في معنى يأمركم ويفرض عليكم . { إن الله كان عليما } بالمصالح والرتب . { حكيما } فيما قضى وقدر .