يقول تعالى مخبرا عنهما : إنهما انطلقا بعد المرتين الأوليين{[18349]} { حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } روى ابن جرير{[18350]} عن ابن سيرين أنها الأيلة{[18351]} وفي الحديث : " حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما " {[18352]} أي : بخلاء { فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة ، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل . والانقضاض هو : السقوط .
وقوله : { فَأَقَامَهُ } أي : فردّه إلى حالة الاستقامة وقد تقدم في الحديث أنه ردّه بيديه ، ودعمه حتى رد ميله . وهذا خارق فعند ذلك قال موسى له { لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا }{[18353]} أي : لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانًا{[18354]}
القول في تأويل قوله تعالى : { فَانطَلَقَا حَتّىَ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } .
يقول تعالى ذكره : فانطلق موسى والعالم حَتّى إذَا أتَيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعمَا أهْلَها من الطعام فلم يطعموهما واستضافاهم فَأبَوْا أن يُضَيّفُوهُما فَوَجَدَا فِيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ يقول : وجدا في القرية حائطا يريد أن يسقط ويقع يقال منه : انقضّت الدار : إذا انهدمت وسقطت ومنه انقضاض الكوكب ، وذلك سقوطه وزواله عن مكانه ومنه قول ذي الرّمة :
*** فانْقَضّ كالكَوْكَبِ الدّرّي مُنْصَلِتا ***
وقد رُوي عن يحيى بن يعمر أنه قرأ ذلك : «يُرِيدُ أنْ يَنْقاضّ » .
وقد اختلف أهل العلم بكلام العرب إذا قرىء ذلك كذلك في معناه ، فقال بعض أهل البصرة منهم : مجاز ينقاضّ : أي ينقلع من أصله ، ويتصدّع ، بمنزلة قولهم : قد انقاضت السنّ : أي تصدّعت ، وتصدّعت من أصلها ، يقال : فراق كقبض السنّ : أي لا يجتمع أهله . وقال بعض أهل الكوفة منهم : الانقياض : الشقّ في طول الحائط في طيّ البئر وفي سنّ الرجل ، يقال : قد انقاضت سنة : إذا انشقّت طولاً . وقيل : إن القرية التي استطعم أهلها موسى وصاحبه ، فأبوا أن يضيفوهما : الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا عمران بن المعتمر صاحب الكرابيسي ، قال : حدثنا حماد أبو صالح ، عن محمد بن سيرين ، قال : انتابوا الأيلة ، فإنه قلّ من يأتيها فيرجع منها خائبا ، وهي الأرض التي أبوا أن يضيفوهما ، وهي أبعد أرض الله من السماء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فانْطَلَقا حتى إذَا أتيَا أهْلَ قَرْيَةٍ ، وتلا إلى قوله لاتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا شرّ القرى التي لا تُضِيف الضيف ، ولا تعرف لابن السبيل حقه .
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قول الله عزّ وجلّ يَرِيدُ أنْ يَنْقَضّ فقال بعض أهل البصرة : ليس للحائط إرادة ولا للمَوَات ، ولكنه إذا كان في هذه الحال من رثة فهو إرادته . وهذا كقول العرب في غيره :
يُرِيدُ الرّمْحُ صَدْرَ أبي بَرَاءٍ *** وَيَرْغَبُ عَنْ دِماءه بَنِي عُقَيْلِ
وقال آخر منهم : إنما كلم القوم بما يعقلون ، قال : وذلك لما دنا من الانقضاض ، جاز أن يقول : يريد أن ينقضّ ، قال : ومثله تَكادُ السّمَواتُ يَتَفَطّرْنَ وقولهم : إني لأكاد أطير من الفرح ، وأنت لم تقرب من ذلك ، ولم تهمّ به ، ولكن لعظيم الأمر عندك . وقال بعض الكوفيين منهم : من كلام العرب أن يقولوا : الجدار يريد أن يسقط قال : ومثله من قول العرب قول الشاعر :
إنّ دهْرا يَلُفّ شَمِلي بِجُمْلٍ *** لَزَمانٌ يَهُمّ بالإِحْسانِ
يَشْكُو إليّ جَمَلِي طُولَ السّرَى *** صَبْرا جَمِيلاً فَكِلانا مُبْتَلَى
قال : والجمل لم يشك ، إنما تكلّم به على أنه لو تكلم لقال ذلك قال : وكذلك قول عنترة :
وَازْوَرّ مِنْ وَقْعِ القَنا بِلَبانِهِ *** وشَكا إليّ بعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ
قال : ومنه قول الله عزّ وجلّ : ولَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ والغضب لا يسكت ، وإنما يسكت صاحبه . وإنما معناه : سكن . وقوله : فَإذَا عَزَمَ الأَمْرُ إنما يعزم أهله . وقال آخر منهم : هذا من أفصح كلام العرب ، وقال : إما إرادة الجدار : ميله ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تَرَاءى نارَاهُما » وإنما هو أن تكون ناران كلّ واحدة من صاحبتها بموضع لو قام فيه إنسان رأى الأخرى في القُرب قال : وهو كقول الله عزّ وجلّ في الأصنام : وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال : والعرب تقول : داري تنظر إلى دار فلان ، تعني : قرب ما بينهما واستشهد بقول ذي الرّمّة في وصفه حوضا أو منزلاً دارسا :
*** قَدْ كادَ أوْ قَدْ هَمّ بالبُيُودِ ***
قال : فجعله يهمّ ، وإنما معناه : أنه قد تغير للبلى . والذي نقول به في ذلك أن الله عزّ ذكره بلطفه ، جعل الكلام بين خلقه رحمة منه بهم ، ليبين بعضهم لبعض عما في ضمائرهم . مما لا تحسّه أبصارهم ، وقد عقلت العرب معنى القائل :
فِي مَهْمَةٍ قَلِقَتْ بِهِ هاماتُها *** قَلَقَ الفُؤُوسِ إذَا أرَدْنَ نُصُولا
وفهمت أن الفؤوس لا توصف به بنو آدم من ضمائر الصدور مع وصفها إياهما بأنها تريد . وعلمت ما يريد القائل بقوله :
كمِثْلِ هَيْلِ النّقا طافَ المُشاةُ بِهِ *** يَنْهالُ حِينا ويَنْهاهُ الثّرَى حِينا
وإنما لم يرد أن الثرى نطق ، ولكنه أراد به أنه تلبّد بالندى ، فمنعه من الانهيال ، فكان منعه إياه من ذلك كالنهي من ذوي المنطق فلا ينهال . وكذلك قوله : جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقُضّ قد علمت أن معناه : قد قارب من أن يقع أو يسقط ، وإنما خاطب جلّ ثناؤه بالقرآن من أنزل الوحي بلسانه ، وقد عقلوا ما عنى به وإن استعجم عن فهمه ذوو البلادة والعمى ، وضلّ فيه ذوو الجهالة والغبا .
وقوله : فَأقامَهُ ذكر عن ابن عباس أنه قال : هدمه ثم قعد يبنيه .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عُمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وقال آخرون في ذلك ما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير فوجدا فيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ قال : رفع الجدار بيده فاستقام .
والصواب من القول في ذلك أن يُقال : إن الله عزّ ذكره أخبر أن صاحب موسى وموسى وجدا جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه صاحب موسى ، بمعنى : عَدَل مَيَله حتى عاد مستويا . وجائز أن يكون كان ذلك بإصلاح بعد هدم . وجائز أن يكون كان برفع منه له بيده ، فاستوى بقدرة الله ، وزال عنه مَيْلُه بلطفه ، ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر للعذر قاطع بأيّ ذلك كان من أيّ .
وقوله : قالَ لَوْ شِئْتَ لتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا يقول : قال موسى لصاحبه : لو شئت لم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتى يعطوك على إقامتك أجرا ، فقال بعضهم : إنما عَنَى موسى بالأجر الذي قال له لَوْ شِئْتَ لتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا القِرى : أي حتى يَقْرُونا ، فإنهم قد أبوا أن يضّيفونا .
وقال آخرون : بل عنى بذلك العِوَض والجزاء على إقامته الحائط المائل .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والكوفة لَوْ شِئْتَ لاتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا على التوجيه منهم له إلى أنه لافتعلت من الأخذ . وقرأ ذلك بعض أهل البصرة «لَوْ شَئِتَ لَتَخِذْتَ » بتخفيف التاء وكسر الخاء ، وأصله : لافتعلت ، غير أنهم جعلوا التاء كأنهم من أصل الكلمة ، ولأن الكلام عندهم في فعل ويفعل من ذلك : تخِذ فلان كذا يَتْخَذُهُ تَخْذا ، وهي لغة فيما ذكر لهُذَيل . وقال بعض الشعراء :
وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي لَدَى جَنْبِ غَرْزِها *** نَسِيفا كأُفُحُوصِ القَطاةِ المُطَرّقِ
والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، غير أني أختار قراءته بتشديد التاء على لافتعلت ، لأنها أفصح اللغتين وأشهرهما ، وأكثرهما على ألسن العرب .
وقوله : { فانطلقا } يريد انطلق الخضر وموسى يمشيان لارتياد الخضر أمراً ينفذ فيه ما عنده من علم الله فمرا بقرية فطلبا من أهلها أن يطعموهما فأبوا ، وفي حديث : أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم ، وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله ، واختلف الناس في «القرية » : فقال محمد بن سيرين هي الأبلة . وهي أبخل قرية وأبعدها من السماء ، وقالت فرقة هي أنطاكية ، وقالت فرقة هي برقة ، وقالت فرقة هي بجزيرة الأندلس ، روي ذلك عن أبي هريرة وغيره ، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء ، وقالت فرقة هي أبو حوران ، وهي بناحية أذربيجان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى والله أعلم بحقيقة ذلك ، وقرأ الجمهور «يضَيّفوهما » بفتح الضاد وشد الياء ، وقرأ أبو رجاء «يضيفوهما » ، بكسر الضاد وسكون الياء وهي قراءة ابن محيصن ، وابن الزبير ، والحسن وأبي رزين ، والضيف مأخوذ من ضاف إلى المكان إذا مال إليه ، ومنه الإضافة ، وهي إمالة شيء إلى شيء ، وقرأ الأعمش «فأبوا أن يطعموهما » ، وقوله في الجدار { يريد } استعارة ، وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة ، أي لو كان مكان الجماد إنسان لكان ممتثلاً لذلك الفعل ، فمن ذلك قول الأعشى : [ البسيط ]
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط . . . كالطعن يذهب فيه الزيت والقتل
فأسند النهي إلى الطعن . ومن ذلك قول الشاعر : [ الوافر ]
يريد الرمح صدر أبي براء . . . ويرغب عن دماء بني عقيل{[7860]}
وشكا إلي بعبرة وتحمحم . . . وقد فسر هذا المعنى بقوله لو كان يدري ما المحاورة البيت{[7861]} ، ومنه قول الناس : داري تنظر إلى دار فلان{[7862]} ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ، لا تتراءى نارهما{[7863]} ، وهذا كثير جداً . وقرأ الجمهور «ينقض » أي يسقط ، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه «أن يُنقض » بضم الميم وتخفيف الضاد وهي قراءة أبي ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعكرمة «أن يناقص » ، بالصاد غير منقوطة بمعنى ينشق طولاً ، يقال انقاص الجدار وطي البير ، وانقاصت السن ، إذا انشقت طولاً ، وقيل إذا تصدعت كيف كان ، ومنه قول أبي ذؤيب : [ الطويل ]
فراق كقيص السن فالصبر انه . . . لكل أناس عبرة وحبور
ويروى عثرة وجبور بالثاء والجيم ، وقرأ ابن مسعود والأعمش «يريد لينقض » واختلف المفسرون في قوله { فأقامه } فقالت فرقة هدمه وقعد يبنيه ، ووقع هذا في مصحف ابن مسعود ، ويؤيد هذا التأويل قول ، { لو شئت لتخذت عليه أجراً } لأنه فعل يستحق أجراً ، وقال سعيد بن جبير مسحه بيده وأقامه فقام .
قال القاضي أبو محمد : وروي في هذا الحديث وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم السلام فقال موسى للخضر : { لو شئت لتخذت عليه أجراً } أي طعاماً تأكله ، وقرأ الجمهور «لتخذت » وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لتخذت » وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة وأدغم بعض القراء الذال في التاء ، ولم يدغمها بعضهم{[7864]} ، ومن قولهم تخذ قول الشاعر : [ المزق ] : [ الطويل ]
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها . . . نسيقاً كأفحوص القطاة المطرق{[7865]}
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فانطلق موسى والعالم "حَتّى إذَا أتَيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعمَا أهْلَها "من الطعام، فلم يطعموهما، واستضافاهم "فَأبَوْا أن يُضَيّفُوهُما فَوَجَدَا فِيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ" يقول: وجدا في القرية حائطا يريد أن يسقط ويقع يقال منه: انقضّت الدار: إذا انهدمت وسقطت... واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قول الله عزّ وجلّ يَرِيدُ أنْ يَنْقَضّ فقال بعض أهل البصرة: ليس للحائط إرادة ولا للمَوَات، ولكنه إذا كان في هذه الحال من رثة فهو إرادته...
وقال آخر منهم: إنما كلم القوم بما يعقلون، قال: وذلك لما دنا من الانقضاض، جاز أن يقول: يريد أن ينقضّ، قال: ومثله "تَكادُ السّمَواتُ يَتَفَطّرْنَ" وقولهم: إني لأكاد أطير من الفرح، وأنت لم تقرب من ذلك، ولم تهمّ به، ولكن لعظيم الأمر عندك... والذي نقول به في ذلك أن الله عزّ ذكره بلطفه، جعل الكلام بين خلقه رحمة منه بهم، ليبين بعضهم لبعض عما في ضمائرهم... وكذلك قوله: "جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقضّ" قد علمت أن معناه: قد قارب من أن يقع أو يسقط، وإنما خاطب جلّ ثناؤه بالقرآن من أنزل الوحي بلسانه، وقد عقلوا ما عنى به وإن استعجم عن فهمه ذوو البلادة والعمى، وضلّ فيه ذوو الجهالة والغبا.
وقوله: "فَأقامَهُ" ذكر عن ابن عباس أنه قال: هدمه ثم قعد يبنيه...
وقال آخرون في ذلك:... عن سعيد بن جبير "فوجدا فيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ" قال: رفع الجدار بيده فاستقام.
والصواب من القول في ذلك أن يُقال: إن الله عزّ ذكره أخبر أن صاحب موسى وموسى وجدا جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه صاحب موسى، بمعنى: عَدَل مَيَله حتى عاد مستويا، وجائز أن يكون كان ذلك بإصلاح بعد هدم، وجائز أن يكون كان برفع منه له بيده، فاستوى بقدرة الله، وزال عنه مَيْلُه بلطفه، ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر للعذر قاطع بأيّ ذلك كان من أيّ.
وقوله: "قالَ لَوْ شِئْتَ لاتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا" يقول: قال موسى لصاحبه: لو شئت لم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتى يعطوك على إقامتك أجرا، فقال بعضهم: إنما عَنَى موسى بالأجر الذي قال له "لَوْ شِئْتَ لاتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا" القِرى: أي حتى يَقْرُونا، فإنهم قد أبوا أن يضّيفونا.
وقال آخرون: بل عنى بذلك العِوَض والجزاء على إقامته الحائط المائل...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فانْطَلَقا حتّى إذا أَتَيَا أهْلَ قريةٍ} سُمّي قريةً، وهي كانت مدينةً. ألا ترى أنه قال في آخره: {وأمّا الجِدارُ فكان لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المدينةِ} (الكهف: 82) دَلّ أنها كانت مدينةً. والعربُ قد تُسمِّي المدينةَ قريةً...
{اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفوهُما فَوَجَدَا فيها جِداراً يُريدُ أَنْ يَنْقَضَّ فأَقامَهُ} قال الحسن: كان الجِدارُ بهَيْئة عند الناظر أنّه يَسْقُط. وقال أبو بكر الأصم: {يُريدُ أَنْ يَنْقَضَّ} الإرادةُ صفةُ كلِّ فاعلٍ له حقيقةُ الفعلِ، أو ليس له حقيقةُ الفعلِ بعد أن يُضافَ إليه الفعلُ. ألا تَرى أنه (يقال عن الجِدار) سَقَطَ، وإن كان، في الحقيقة (لم) يَسقُطْ. وعندنا أنه إنما يقال ذلك لِقُرْبِ الحال وعند الإشراف على الهلاك والسُّقوط. ألا تَرى أن الرَّجل يقول: إني أردتُ أن أموتَ، وأردتُ أنْ أَهْلِكَ، وأردتُ أنْ أَسْقُطَ، وهو لا يريد الموتَ ولا السُّقوطَ، ولكنه يَذْكُر ذلك لإشرافه على الهلاك وقُرْبِ الحال إليه ليس على حقيقة الإرادة. فعلى ذلك قوله: {يُريدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي أَشْرَفَ، وقَرُبَ، على حال السُّقوطِ، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كان واجباً في مِلَّتِهم على أهل القرية إطعامُهما، ولم يَعلَم موسى أنه لا جدوى من النَّكير عليهم؛ ولو كان أَغْضَى على ذلك منهم لكان أحسَن. فلمَّا أقام الخضرُ جدارَهم ولم يَطلب عليه أجراً لم يَقُل موسى إنك قُمْتَ بمَحظورٍ، ولكنه قال له: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي إنْ لم تَأخذْ بسببك فلو أخذتَ بسببِنا لَكان أَخْذُكَ خيراً لنا من ترْكك ذلك، ولئن وَجَبَ حقُّهم فَلِمَ أخللتَ بحقِّنا؟ ويقال إنَّ سَفَرَه ذلك كان سفرَ تأديبٍ فَرُدَّ إلى تَحَمُّلِ المشقّة، وإلاَّ فهو حين سَقى لِبَنات شُعَيْبٍ فإنَّ ما أصابه من التعبِ وما كان فيه من الجوع كان أكثرَ، ولكنه كان في ذلك الوقت محمولاً وفي هذا الوقت مُتَحَمِّلاً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم، ولقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة، فلم يجدا مواسياً، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} وطلبت على عملك جعلاً حتى ننتعش ونستدفع به الضرورة...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَصَلَا إلَى الْقَرْيَةِ مُحْتَاجَيْنِ إلَى الطَّعَامِ، فَعَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً، فَأَبَوْا عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهَذَا سُؤَالٌ، وَهُوَ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الشَّرْعِ، وَمَنَازِلَ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ. وَهَذَا السُّؤَالُ من تِلْكَ الْأَقْسَامِ هُوَ سُؤَالُ الضِّيَافَةِ، وَهِيَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ، وَسُؤَالُهَا جَائِزٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِقَوْمٍ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُهُمْ، فَسَأَلُوهُمْ: هَلْ من رَاقٍ، فَجَعَلُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ من الْغَنَمِ.. الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ. وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَوَّزَ الْكُلَّ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى حِينَ سَقَى لِبِنْتَيْ شُعَيْبٍ أَجْوَعَ مِنْهُ حِينَ أَتَى الْقَرْيَةَ مَعَ الْخَضِرِ، وَلَمْ يَسْأَلْ قُوتًا؛ بَلْ سَقَى ابْتِدَاءً، وَفِي الْقَرْيَةِ سَأَلَا الْقُوتَ، وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ انْفِصَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا أَنَّ مُوسَى كَانَ فِي حَدِيثِ مَدْيَنَ مُنْفَرِدًا، وَفِي قِصَّةِ الْقَرْيَةِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا سَفَرَ تَأْدِيبٍ فَوُكِلَ إلَى تَكْلِيفِ الْمَشَقَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَفَرَ هِجْرَةٍ فَوُكِلَ إلَى الْعَوْنِ وَالْقُوَّةِ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فانطلقا} بعد قتله {حتى إذا أتيا أهل قرية} عبر عنها هنا بالقرية دون المدينة لأنه أدل على الذم، لأن مادة قرا تدور على الجمع الذي يلزمه الإمساك كما تقدم في آخر سورة يوسف عليه السلام؛ ثم وصفها ليبين أن لها مدخلاً في لؤم أهلها بقوله تعالى: {استطعما} وأظهر ولم يضمر في قوله: {أهلها} لأن الاستطعام لبعض من أتوه، أو كل من الإتيان والاستطعام لبعض ولكنه غير متحد، وهذا هو الظاهر، لأنه هو الموافق للعادة... {فأبوا} أي فتسبب عن استطعامهما أن أبى المستطعمون من أهل القرية {أن يضيفوهما} أي ينزلوهما ويطعموهما فانصرفا عنهم {فوجدا فيها} أي القرية، ولم يقل: فيهم، إيذاناً بأن المراد وصف القرية بسوء الطبع {جداراً} مشرفاً على السقوط، وكذا قال مستعيراً لما لا يعقل صفة ما يعقل: {يريد أن ينقض} أي يسقط سريعاً فمسحه الخضر بيده {فأقامه}. ولما انقضى وصف القرية وما تسبب عنه أجاب "إذا "بقوله: {قال} أي له موسى عليه السلام: {لو شئت لاتخذت} لكوننا لم يصل إلينا منهم شيء {عليه} أي على إقامة الجدار {أجراً} نأكل به، فلم يعترض عليه في هذه المرة لعدم ما ينكر فيها، وإنما ساق ما يترتب عليها من ثمرتها مساق العرض والمشورة غير أنه يتضمن السؤال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وينطلق السياق فإذا نحن أمام المشهد الثالث: (فانطلقا. حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه). إنهما جائعان، وهما في قرية أهلها بخلاء، لا يطعمون جائعا، ولا يستضيفون ضيفا. ثم يجد أن جدارا مائلا يهم أن ينقض. والتعبير يخلع على الجدار حياة وإرادة كالأحياء فيقول: (يريد أن ينقض) فإذا الرجل الغريب يشغل نفسه بإقامة الجدار دون مقابل!!! وهنا يشعر موسى بالتناقض في الموقف. ما الذي يدفع هذا الرجل أن يجهد نفسه ويقيم جدارا يهم بالانقضاض في قرية لم يقدم لهما أهلها الطعام وهما جائعان، وقد أبوا أن يستضيفوهما؟ أفلا أقل من أن يطلب عليه أجرا يأكلان منه؟ (قال: لو شئت لاتخذت عليه أجرا)!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
نظم قوله: {فانطَلَقا حَتَّى إذا أَتَيَا أهْلَ قَرْيةٍ استَطْعَمَا أهْلَهَا} كنظم نظيريه السابقين.
والاستطعام: طلب الطعام. وموقع جملة {استَطْعَمَا أَهْلَهَا} كموقع جملة (خرقها) وجملة (فقتله)، فهو متعلق (إذَا). وإظهار لفظ {أَهْلَهَا} دون الإتيان بضميرهم بأن يقال: استطعماهم، لزيادة التصريح، تشنيعاً بهم في لؤمهم، إذ أبوا أن يضيفوهما. وذلك لؤم، لأنّ الضيافة كانت شائعة في الأمم من عهد إبراهيم عليه السلام وهي من المواساة المتبعة عند الناس. ويقوم بها من ينتدب إليها ممن يمر عليهم عابر السبيل ويسألهم الضيافة، أو من أعدّ نفسه لذلك من كرام القبيلة؛ فإباية أهل قرية كلهم من الإضافة لؤم لتلك القرية...
وفي الآية دليل على إباحة طلب الطعام لعابر السبيل لأنه شَرْع من قبلنا، وحكاه القرآن ولم يرد ما ينسخه.
ودلّ لَوْم موسى الخضرَ، على أن لم يأخذ أجر إقامة الحائط على صاحبه من أهل القرية، على أنه أراد مقابلة حرمانهم لحق الضيافة بحرمانهم من إقامة الجدار في قريتهم.
وفي الآية مشروعية ضيافة عابر السبيل إذا نزل بأحد من الحيّ أو القرية... والجدار: الحائط المبني. ومعنى {يُرِيدُ أن يَنقَضَّ} أشرف على الانقضاض، أي السقوط، أي: يكاد يسقط، وذلك بأن مال، فعبر عن إشرافه على الانقضاض بإرادة الانقضاض على طريقة الاستعارة المصرحة التبعية بتشبيه قرب انقضاضه بإرادة من يعقل فعلَ شيء فهو يوشك أن يفعله حيث أراده، لأن الإرادة طلب النفس حصول شيء وميل القلب إليه.
وقول موسى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرَاً} لَوْم، أي كان في مكنتك أن تجعل لنفسك أجراً على إقامة الجدار تأخذه ممن يملكه من أهل القرية ولا تقيمه مجاناً لأنهم لم يقوموا بحق الضيافة ونحن بحاجة إلى ما ننفقه على أنفسنا، وفيه إشارة إلى أن نفقة الأتباع على المتبوع.
وهذا اللوم يتضمن سؤالاً عن سبب ترك المشارطة على إقامة الجدار عند الحاجة إلى الأجر، وليس هو لوماً على مجرد إقامته مجاناً، لأن ذلك من فعل الخير وهو غير ملوم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... فقد نسي موسى (عليه السلام) عهده مرّة أُخرى وبدأ بالاعتراض، إِلاَّ أنَّ اعتراضه هذه المرَّة بدا خفيفاً فقال:"قال لو شئت لاتّخذت عليه أجراً". وفي الواقع فإِنَّ موسى يعتقد بأنَّ قيام الإِنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجاف لروح العدالة؛ بعبارة أُخرى: إِنَّ الجميل جيِّد وحسن، بشرط أن يكون في محلّه...