حثت هذه السور الكريمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنذار قومه ، وتعظيمه لله تعالى ، وترك ما لا يصح أن يصدر منه ، وتحدثت عن نفخ الصور وشدة العذاب على الكافرين ، وأمرته صلى الله عليه وسلم أن يترك من جحد فضله عليه ثم يطمع في الزيادة بدون اعتراف ولا شكر ، وبينت كيف كان تفكير ذلك الجاحد وإنكاره للقرآن ، وفصلت كيف يكون عذابه في سقر التي وصفت بما يزعج ويخيف ، وذكرت الأنفس بما تكسب من خير أو شر ، وأخبرت عن حال أصحاب اليمين وتبكيتهم للمجرمين بسؤالهم عما سلكهم في سقر ، وختمت بالحديث عن القرآن بأنه لمن شاء أن يتذكر وأن من يتذكر به هم أهل التقوى وأهل المغفرة .
1 - يا أيها المتدثر بثيابه قم من مضجعك فحذر الناس من عذاب الله إن لم يؤمنوا ، وخُصَّ ربك - وحده - بالتعظيم ، وثيابك فطهرها بالماء من النجاسة .
قوله جل ذكره : { بسم الله الرحمان الرحيم } .
" بسم الله " كلمة سماعها نزهة قلوب الفقراء ، كلمة سماعها بهجة أسرار الضعفاء ، راحة أرواح الأحباء ، قوة قلوب الأولياء ، سلوة صدور الأصفياء ، قرة عيون أهل البلاء .
قوله جلّ ذكره : { يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ } .
وهذه السورة من أول ما أُنْزِلَ من القرآن . قيل : إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إلى حِرَاء قبل النُّبُوة ، فَبَدا له جبريلُ في الهواء ، فرجع الرسول إلى بيت خديجة وهو يقول " دثِّروني دثِّروني " فَدُثِّرَ بثوبٍ فنزل عليه جبريل وقال : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأنذِرْ } وقيل : أيها الطالبُ صَرْفَ الأذى عنك بالدثار اطلبْه بالإنذار .
( سورة المدثر مكية ، وآياتها 56 آية ، نزلت بعد سورة المزمل )
وينطبق على سورة المدثر –من ناحية سبب نزولها ، ووقت نزولها- ما ينطبق على سورة المزمل . فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق ، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة ، وإيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم .
ويمكن التوفيق بين هذه الروايات ، بأن صدر سورة المدثر أول ما نزل من القرآن بعد سورة العلق ، وهو من أول السورة إلى قوله تعالى : ولربك فاصبر . ( المدثر : 7 ) .
وأن الآيات التالية قد نزلت بعد الجهر بالدعوة ، وربما كانت تعني شخصا معينا هو الوليد بن المغيرةi .
وأيا ما كان السبب والمناسبة ، فقد تضمنت السورة في مطلعها ذلك النداء العلوي ، بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل ، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة . ( انظر الآيات من 1-7 ) .
ثم تضمنت بعد هذا تهديدا ووعيدا للمكذبين بالآخرة ، وبحرب الله مباشرة ، كما تضمنت سورة المزمل سواء بسواء . ( انظر الآيات من 8-17 ) .
وتعيّن سورة المدثر أحد المكذبين بصفته ، وترسم مشهدا من مشاهد كيده ، على نحو ما ورد في سورة القلم ، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحدا ، وقد قيل إنه الوليد بن المغيرة . ( انظر الآيات من 18-30 ) .
ثم تتحدث السورة عن عالم الغيب ، ووصف سقر ، والملائكة القائمين عليها ، وعددهم وامتحان الله لعباده بذلك العدد ، وذلك في آية واحدة طويلة هي الآية ( 31 ) .
ثم تتحدث عن مشاهد الكون ، وأدلتها على وجود الله . ( انظر الآيات من 32-37 ) .
كما تعرض مقام المجرمين ، ومقام أصحاب اليمين ، حيث يعترف المكذبون اعترافا طويلا ، بأسباب استحقاقهم للارتهان والقيد في يوم الجزاء والحساب ، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم ، الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع . ( انظر الآيات من 38-48 ) .
وفي ظل هذا المشهد المخزي ، والاعتراف المهين ، يتساءل مستنكرا موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير ، ويرسم لهم مشهدا ساخرا يثير الضحك والزراية ، من نفارهم الحيواني الشموس . ( انظر الآيات من 49 -51 ) .
ويكشف السياق عن حقيقة الغرور الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكّر الناصح ، ويبين أنه الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم ، والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة ، والسبب الآخر هو قلة التقوى . ( انظر الآيتين 52 ، 53 ) .
وفي الختام يجئ التقدير الجازم الذي لا مجاملة فيه ، وردّ الأمر كله إلى مشيئة الله وقدره . ( انظر الآيات من 54 -56 ) .
وهكذا تمثل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي ، الذي كافحه القرآن للجاهلية وتصوراتها في قلوب قريش ، كما كافح العناد والكيد ، والإعراض الناشئ عن العمد والقصد بشتى الأساليب . . . والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة ، واتجاهات سورة المزمل ، وسورة القلم ، مما يدل على أنها جميعا نزلت متقاربة ، لمواجهة حالات متشابهة .
وسورة المدثر قصيرة الآيات ، سريعة الجريان ، منوعة الفواصل ، يتئد إيقاعها أحيانا ، ويجري لاهثا أحيانا ، وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب ، وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر . . . وتصوير مشهد سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر .
1- 7- بدأت السورة بنداء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليقوم بأمر جليل هو إنذار البشرية ، وتخليصها من الشر في الدنيا ، ومن النار في الآخرة .
ثم يوجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه ، بأن يكبر ربه وحده ، فهو سبحانه الكبير المتعال ، وهو القوي المتين ، وهو على كل شيء قدير . ويوجهه إلى التطهر بأنواعه ، ويشمل طهارة الثوب ، وطهارة البدن ، وطهارة القلب ، ليكون أهلا للتلقي عن الملأ الأعلى ، ويوجهه إلى هجران الشرك ، وموجبات العذاب ، والتحرز والتطهر من مسّ هذا الدنس .
ويوجهه إلى إنكار ذاته ، وعدم المنّ بما يقدمه من الجهد أو استكثاره أو استعظامه ، فكل ما يقدمه الإنسان من خير هو بتوفيق الله وعونه ، وذلك يستحق الشكر لله لا المنّ والاستكثار .
ويوجهه أخيرا إلى الصبر على الطاعة ، والصبر على الأذى والتكذيب ، وعدم الجزع من أذى المخالفين .
1- 30- حين ينفخ إسرافيل في الصور ، يجد الكافرين أمامهم يوما عسيرا ، لا يسر فيه ولا هوادة ، بل يجدون الحساب السريع ، والجزاء العادل ، والعقاب الرادع .
وقد روى ابن جرير الطبري أن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة ، حين فكر في تهمة يلصقها بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ادعى أن النبي ساحر ، وقد كان الوليد يسمى الوحيد لأنه وحيد في قومه ، فماله كثير ، فيه الزرع والضرع والتجارة ، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع ، أسلم منهم ثلاثة : خالد وهشام والوليد ، وقد بسط الله له الرزق ، وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة في قومه ، وكان يسمى ريحانة قريش .
ويتجه السياق إلى تهديد هذا المشرك فيقول : خلّ بيني وبين هذا المشرك ، الذي أخرجته من بطن أمه وحيدا ، لا مال له ولا ولد ، ثم بسطت له الرزق والجاه العريض ، فكفر بأنعم الله عليه .
لقد أعطيته المال الكثير ، ورزقته بنين من حوله حاضرين شهودا ، فهو منهم في أنس وعزوة ، ومهدت له الحياة ، ويسرتها له تيسيرا ، ثم هو يطمع في مزيد من الثراء والجاه . . كلا ، لن نزيده من نعمنا ، بل سنذهب عنه كل ما أنعمنا به عليه ، لأنه كان معاندا ومعارضا لآيات القرآن الكريم ، سأكلفه ما لا يطيق من كربة وضيق ، كأنما يصعد في السماء ، أو يصعد الجبال الوعرة الشاقة .
إنه فكر وتروى ماذا يقول في القرآن ، وبماذا يصفه حين سئل عن ذلك ، ثم لعن كيف قدر ، ثم نظر إلى قومه في جد مصطنع ، وقطب وجهه عابسا ، وقبض ملامح وجهه باسرا ليستجمع فكره ، فقال : ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن السحرة ، كمسيلمة وأهل بابل ، وليس هذا من كلام الله ، وإنما هو من كلام البشر .
سأدخله سقر ، وما أعلمك بشأنها ، إنها شيء أعظم وأهول من الإدراك ، فهي : لا تبقي ولا تذر . ( المدثر : 28 ) .
فهي تكنس كنسا ، وتبلع بلعا ، وتمحو محوا ، فلا يقف لها شيء ، ولا يبقى وراءها شيء ، ولا يفضل منها شيء ، وهي : لوّاحة للبشر . ( المدثر : 29 ) . تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه .
وعلى النار تسعة عشر ، لا ندري أهم أفراد من الملائكة الغلاظ الشداد ، أم صفوف ، أم أنواع من الملائكة وصنوف .
31- ولم نجعل المدبرين لأمر النار إلا ملائكة ، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم ؟
وما جعلنا عددهم تسعة عشر إلا امتحانا للذين كفروا ، وليستيقن الذين أوتوا الكتاب بصحة القرآن ، لأنهم يرون أن ما يجيء فيه موافق لما في كتبهم ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، وذلك بتصديق أهل الكتاب له ، وتستشعر قلوب المؤمنين حكمة الله في هذا العدد ، وتقديره الدقيق في الخلق ، وتثبت هذه الحقيقة في قلوب أهل الكتاب ، وقلوب المؤمنين ، فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله .
وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق والكافرون : ماذا أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل ؟
كذلك يضل الله من يشاء من المنافقين والمشركين ، لسوء استعدادهم ، ويهدي من يشاء من المؤمنين ، لتزكية نفوسهم ، وتوجيه استعدادهم للخير ، وما يعلم جموع خلق الله إلا هو ، وإن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر ، فإن لهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه ، وما هذه السورة إلا تذكرة للبشر .
32 -37- كلا وحق القمر ، والليل إذا تولى ، والصبح إذا تجلى ، إن الآخرة وما فيها ، أو سقر والجنود التي عليها ، هي إحدى الأمور الكبيرة العجيبة ، المنذرة للبشر ، بما وراءهم من الخطر ، ولكل نفس أن تختار طريقها ، وأن تتقدم في سبيل الخير أو تتخلف عنه .
38- 48- تعرض الآيات مقام أصحاب اليمين ، فهم في جنات يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين .
ويقال لهم : أيها المجرمون ما الذي أدخلكم في جهنم ؟ فيعترفون اعترافا طويلا مفصلا ، يتناول الجرائر الكثيرة التي انتهت بالمجرمين إلى سقر .
قالوا : دخلنا جهنم لأننا لم نك من المؤمنين ، ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض في الباطل مع الخائضين ، وكنا نكذب بيوم الجزاء والحساب ، حتى جاءنا الموت الذي يقطع كل شك ، وينهي كل ريب ، فما تنفعهم بعد ذلك شفاعة الشافعين ، لأنه يكون قد انقضى وقت الإمهال .
49- 56- فما لهم عن التذكرة معرضين ، إذا كان الحال في الآخرة سيكون كما وصفنا في الآيات السابقة ، فما بالهم معرضين عن القرآن ، كأنهم –في هربهم من سماع كلام الله ونفورهم منه- حمير نافرة ، فرت من أسد تطلب النجاة من بطشه ، تلك هيئتهم الظاهرة .
ثم يرسم القرآن نفوسهم من الداخل ، وما يعتلج فيها من المشاعر ، فيبين أن الحسد هو الذي منعهم من الإيمان ، بل يرغب كل منهم أن يكون في منزلة الرسول ، وأن يؤتى صحفا تنشر على الناس وتعلن ، وإنما حملهم على ذلك أنهم لا يصدّقون بالآخرة ، ولا يخافون أهوالها ، إن هذا القرآن تذكرة تنبّه وتذكّر ، فمن أراد الانتفاع بالقرآن قرأه وانتفع به .
وما يهتدون إلا بمشيئة الله ، وهو سبحانه أهل بأن يتقى عذابه ، وترجى مغفرته ، وهو سبحانه صاحب المغفرة يتفضل بها على عباده وفق مشيئته .
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الإيمان ، وتقرير صعوبة القيامة على أهل الكفر والعصيان ، وتهديد الوليد بن المغيرة الذي منحه الله مالا وفيرا ، وعشرة من البنين ، وبسط له في العيش لكنه قابل هذه النعم بالجحود والعناد .
وذكر جل شأنه كيف استهزأ الوليد برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف اتهمه بالسحر ، فأنذره الله تعالى بسقر ، ثم وصفها ووصف زبانية الجحيم ، وعذاب أهل النار ، ثم ذكر تعالى الأبرار ونعيمهم ، والمجرمين وصفاتهم ، وهي البعد عن الصلاة والإيمان ، والبخل بالمال ، والخوض في إيذاء المؤمنين ، لقد سلبوا هداية السماء ، ففروا من سماع القرآن فرار حمر الوحش إذا رأت أسدا ، وحرمت قلوبهم بركة التقوى ، والله تعالى هو الجدير بأن يتقيه العباد ، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة .
إرشادات للنبي صلى الله عليه وسلم في بدء الدعوة
{ يا أيها المدّثر 1 قم فأنذر 2 وربك فكبّر 3 وثيابك فطهّر 4 والرّجز فاهجر 5 ولا تمنن تستكثر 6 ولربك فاصبر 7 فإذا نقر في النّاقور 8 فذلك يومئذ يوم عسير 9 على الكافرين غير يسير 10 }
المدّثر : المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم .
قم : من مضجعك ، أو قم قيام عزم وتصميم .
فأنذر : فحذّر الناس ، وخوفهم من عذاب الله .
1 ، 2- يا أيها المدّثر* قم فأنذر .
روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت ، فنوديت ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء ، فرجعت فقلت : دثروني ، فأنزل الله : يا أيها المدثر* قم فأنذرii .
يا أيها المتلفف بثيابه ، أو المتدثر بالنبوة والكمالات النفسية ، أو المتغشّي بثوبه رعبا من رؤية الملك ، قم من مضجعك ، أو قم قيام عزم وتصميم ، وشمّر عن ساعد الجدّ ، فقد جاء الأمر الإلهي باصطفائك رسولا ، وجاء الأوان لتباشر مهمتك ، لتدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به ، وتحذرهم من عذاب الآخرة .
قل ابن كثير : قم فأنذر . أي : شمّر عن ساق العزم وأنذر الناس .
سور المدثر مكية وآياتها ست وخمسون ، نزلت بعد سورة المزمل . وهي من أوائل ما نزل من القرآن الكريم ، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي ( يعني أنه بعد نزول الوحي بمدة فَتَرَ بعض الوقت ) فقال : بينما أنا أمشي في جبل حراء إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قِبَلَ السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء بين السماء والأرض ، فهويت على الأرض ، وخفت ورجعت إلى أهلي فقلت : دَثّروني دثروني ، وصبّوا عليّ ماء باردا ، فأنزل الله تعالى { يا أيها المدثر قم فأنذر } إلى قوله تعالى { والرّجز فاهجر } .
وقد اشتملت السورة على الإنذار ، وتكبير الله ، وتطهير النفس من دنيء الأخلاق وتطهير الثياب للمؤمن ، وهذا يعني أن النظافة من أهم أصول الإسلام . وفيها الأمر للرسول بالصبر على أذى المشركين وهجر الأوثان وكل ما يؤدي إلى العذاب ، وتهذيب الرسول الكريم وتعليمه أن لا يمنّ على أصحابه بما يعلّمهم من أمر الدين والوحي كالمستكثر بذلك عليهم ، ولا على الفقراء بما يعطيهم استكثارا لتلك العطايا ، وإنما عليه أن يتجه إلى الله تعالى . . . . فإن الخلق عباده والرسول الكريم أب لهم ومعلم ومرشد .
فأما الكفار الجاحدون فإنهم سيلقَون جزاءهم يوم ينفخ في الصور . ثم ذكر أوصاف بعض هؤلاء المعاندين وأحد جبابرتهم ، وهو الوليد بن المغيرة ، وأنه أعطي مالا كثيرا وعشيرة ورياسة ووجاهة ، ووصفه بالعناد والعبوس والاستكبار ، وكيف أنه استهزأ بالقرآن الكريم وقال عنه إنه سحر يؤثَر ،
وما ينتظر هذا الرجل من العذاب يوم القيامة ، يوم يُدخله الله سَقَرَ التي عليها تسعة عشر من الملائكة . . إلى آخر ما سيأتي من عظيم أمرها . ثم ذكر أن كل نفس مرهونة بعملها ، وأن المؤمنين يتمتعون في جنات النعيم ، ويتساءلون عن المجرمين : ما الذي أدخلكم سقر ؟ فيقر أولئك بذنوبهم ، بأنهم لم يؤمنوا ، ولم يتصدّقوا على الفقراء والمساكين ، وكانوا يكذّبون بيوم الدين . ففي ذلك اليوم لا تنفعهم شفاعة ، بل يكونون كالحمير الفارّة من الأسد بفعل الخوف والجزع ، وأن هذا القرآن { تذكرة ، فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة . . . . } .
المدّثر : أصلُه المتدثر وهو الذي يتغطَّى بثيابه ويلتفّ بها .
مكية قال ابن عطية بإجماع وفي التحرير قال مقاتل إلا آية وهي وما جعلنا عدتهم إلا فتنة الخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يشعر بأن قوله تعالى عليها تسعة عشر مدني بما فيه وآيها ست وخمسون في العراقي والمدني الأول وخمس وخمسون في الشامي والمدني الأخير على ما فصل في محله وهي متواخية مع السورة قبلها في الافتتاح بنداء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلهما نازل على المشهور في قصة واحدة وبدئت تلك بالأمر بقيام الليل وهو عبارة خاصة وهذه بالأمر بالإنذار وفيه من تكميل الغير ما فيه وروي أمية الأزدي عن جابر بن زيد وهو من علماء التابعين بالقرآن أن المدثر نزلت عقب المزمل وأخرجه ابن الضريس عن ابن عباس وجعلوا ذلك من أسباب وضعها بعدها والظاهر ضعف هذا القول فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن يحيى بن أبي كثير قالت سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال يا أيها المدثر قلت يقولون اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال أبو سلمة سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت فقال جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال جاورت بحراء فلما قضيت حواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعبا فرجعت فقلت دثروني فدثروني فنزلت يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وفي رواية فجئت أهلي فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر إلى قوله فاهجر فإن القصة واحدة ولو كانت يا أيها المزمل هي النازلة قبل فيها لذكرت نعم ظاهر هذا الخبر يقتضي أن يا أيها المدثر نزل قبل اقرأ باسم ربك والمروي في الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن ذاك أول ما نزل من القرآن وهو الذي ذهب إليه أكثر الأئمة حتى قال بعضهم هو الصحيح ولصحة الخبرين احتاجوا للجواب فنقل في الإتقان خمسة أجوبة الأول أن السؤال في حديث جابر كان عن نزول سورة كاملة فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل تمام سورة اقرأ فإن أول ما نزل منها صدرها الثاني إن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي لا أولية مطلقة الثالث أن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار وعبر بعضهم عن هذا بقوله أولما نزل للنبوة اقرأ باسم ربك وأول ما نزل للرسالة يا أيها المدثر الرابع أن المراد أول ما نزل بسبب متقدم وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب وأما اقرأ فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم الخامس أن جابر استخرج ذلك باجتهاده وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها ثم قال وأحسن هذه الأجوبة الأول والأخير انتهى وفيه نظر فتأمل ولا تغفل .
{ يأَيُّهَا المدثر } أصله المتدثر فأدغم وهو على الأصل في حرف أبي من تدثر لبس الدثار بكسر الدال وهو ما فوق القميص الذي يلي البدن ويسمى شعاراً لاتصاله بالبشرة والشعر ومنه قوله عليه الصلاة والسلام الأنصار شعار والناس دثار والتركيب على ما قيل دائر مع معنى الستر على سبيل الشمول كان الدثار ستر بالغ مكشوف نودي صلى الله عليه وسلم باسم مشتق من صفته التي كان عليها تأنيساً له وملاطفة كما سمعت في { يأَيُّهَا المزمل } [ المزمل : 1 ] وتدثره عليه الصلاة والسلام لما سمعت آنفاً وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً فلما أكلوا قال ما تقولون في هذا الرجل فاختلفوا ثم اجتمع رأيهم على أنه سحر يؤثر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر أي كما يفعل المغموم فأنزل الله تعالى : { يأَيُّهَا المدثر } إلى قوله تعالى : { وَلِرَبّكَ فاصبر } [ المدثر : 1-7 ] . وقيل المراد بالمدثر المتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية على معنى المتحلي بها والمتزين بآثارها وقيل أطلق المدثر وأريد به الغائب عن النظر على الاستعارة والتشبيه فهو نداء له بما كان عليه في غار حراء وقيل الظاهر أن يراد بالمدثر وكذا بالمزمل الكناية عن المستريح الفارغ لأنه في أول البعثة فكأنه قيل له عليه الصلاة والسلام قد مضى زمن الراحة وجاءتك المتاعب من التكاليف وهداية الناس وأنت تعلم أنه لا ينافي إرادة الحقيقة وأمر التلطيف على حاله وقال بعض السادة أي { يا أيها الساتر } للحقيقة المحمدية بدثار الصورة الآدمية أو يا أيها الغائب عن أنظار الخليقة فلا يعرفك سوى الله تعالى على الحقيقة إلى غير ذلك من العبارات والكل إشارة إلى ما قالوا في الحقيقة المحمدية من أنها حقيقة الحقائق التي لا يقف على كنهها أحد من الخلائق وعلى لسانها قال من قال :
وإني وإن كنت ابن آدم صورة *** فلي فيه معنى شاهد بابوتي
وإنها التعين الأول وخازن السر المقفل وأنها وأنها إلى أمور هيهات أن يكون للعقل إليها منتهى .
أعيا الورى فهم معناه فليس يرى *** في القرب والبعد منه غير منفحم
كالشمس تظهر للعينين من بعد *** صغيرة وتكل الطرف من أمم
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته *** قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر *** وأنه خير خلق الله كلهم
وقرأ عكرمة المدثر بتخفيف الدال وتشديد الثاء المكسورة على زنة الفاعل وعنه أيضاً المدثر بالتخفيف والتشديد على زنة المفعول من دثره وقال دثرت هذا الأمر وعصب بك أي شد والمعنى أنه المعول عليه فالعظائم به منوطة وأمور حلها وعقدها به مربوطة فكأنه قيل يا من توقف أمور الناس عليه لأنه وسيلتهم عند الله عز وجل .
{ يا أيها المدثر } : أي يا أيها المدثر أي المُتلفف في ثيابه وهو النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى { يا أيها المدثر } أي المتلفف في ثيابه والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم روى الزهري قال فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة فحزن حزناً فجعل يعدو شواهق رؤوس لجبال ليتردّى منها فكلما أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل عليه السلام فيقول إنك نبيّ الله فيسكن جأشه وتسكن نفسه ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن ذلك فقال " بينما أنا أمشي يوما إذ رأيت الملك الذي كان يأتيني بحراء على كرسيّ بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت إلى خديجة فقلت زملوني " فزملناه أي فدثرناه فأنزل الله يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر قال الزهري فأول شيء أنزل عليه { اقرأ باسم ربّك الذي خلق خلق الإِنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإِنسان ما لم يعلم } . وعليه فهذا النداء الإِلهي كان بعد فترة الوحي الأولى ناداه ملقبا له بهذا اللقب الجميل تكريما وتلطفا معه ليقوم بأعباء الدعوة وما أشد ثقلها ، ومن يقدر عليها إنها أعباء ثقيلة اللهم لقد أُعنت عليها رسولك فأعني على قدر ما أقوم به منها ، وإن كان ما أقوم به منها لا يساوي جمرة من لظى ولا قطرة من ماء السماء . يا أيها المدثر في ثيابه يا محمد رسولنا .
{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }
تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد ، وأن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالاجتهاد في عبادة الله القاصرة والمتعدية ، فتقدم هناك الأمر له بالعبادات الفاضلة القاصرة ، والصبر على أذى قومه ، وأمره هنا بإعلان الدعوة{[1274]} ، والصدع بالإنذار ، فقال : { قُمِ }