ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية . .
ذلك أن كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء وفيه بساطة على معنى من المعاني . . الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها ، والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها . أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة . وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات ، ومزيد من الخطوط كيما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة . .
على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة ، ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه ؛ كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم ، ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم .
وزيادة في الإيضاح ، يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه الطائفة ويكشف عن طبيعتها ، وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا :
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ( 17 ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( 18 )
إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء ، ولم يصموا آذانهم عن السماع ، وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك ، كما صنع الذين كفروا . ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه . . لقد استوقدوا النار ، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها . عندئذ ( ذهب الله بنورهم ) الذي طلبوه ثم تركوه : ( وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) جزاء إعراضهم عن النور !
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ( 17 )
«المَثَل والمِثْل والمثيل » واحد ، معناه الشبه( {[278]} ) ، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان وقد يكون مثل الشيء جرماً مثله ، وقد( {[279]} ) يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلاً له ، فقوله تعالى : { مثلهم كمثل } معناه أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد ، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى : { مثل الجنة }( {[280]} ) [ الرعد : 35 ، محمد : 15 ] وفي تفسير قوله تعالى : { ليس كمثله شيء }( {[281]} ) [ الشورى : 11 ] لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء ، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل : { ولله المثل الأعلى }( {[282]} ) [ النحل : 6 ] . وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية .
وقوله : { مثلهم } رفع بالابتداء والخبر في الكاف ، وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى : [ البسيط ] .
أتنتهون ولا ينهى ذوي شططٍ . . . كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً( {[283]} ) تقديره مثلهم مستقر كمثل ، فالكاف على هذا حرف ، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن ، والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين ، ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالاً عليه ، وجوز الأخفش حذف الفاعل ، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفاً ووحد الذي( {[284]} ) لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة ، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد ، و { الذي } أيضاً ليس بإشارة إلى واحد ولا بد ، بل إلى هذا الفعل : وقع من واحد أو من جماعة .
قال النحويون ، الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع( {[285]} ) . و { استوقد } قيل معناه أوقد ، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى .
قال أبو علي : وبمنزلة هزىء واستهزأ وسخر واستسخر ، وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه ، وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر( {[286]} ) [ كعب بن سعد الغنوي ] : [ الطويل ] .
وداع دعا يا من يجيب إلى النَّدى . . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وأخلف لأهله واستخلف إذا جلب لهم الماء( {[287]} ) ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ومستخلفات من بلاد تنوفة . . . لمصفرة الأشداق حمر الحواصل( {[288]} )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . سقاها فروّاها من الماء مخلف( {[289]} )
ومنه أوقد واستوقد قاله أبو زيد ، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من باب استفعل ، وذلك يقتضي حاجته إلى النار ، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له . واختلف في { أضاءت } فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء ، ومنه( {[290]} ) قول العباس بن عبد المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم : [ المنسرح ]
وأنت لما ولدت أشرقَتِ الأر *** ضُ وضاءت بنورك الطرق
وعلى هذا ، ف { ما } في قوله : { ما حوله } مفعولة ، وقيل ( أضاءت ) لا تتعدى ، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى ، ف ( ما ) زائدة ، وحوله ظرف .
واختلف المتأولون في على المنافقين الذي يشبه فعل ( الذي استوقد ناراً ) .
فقالت طائفة : هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق ، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت ، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور( {[291]} ) .
وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : «إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله ، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم ، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات » .
وقالت فرقة : إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها .
وقالت فرقة : إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه ، فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة ، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها .
وقالت فرقة منهم قتادة : نطقهم ب «لا إله إلا الله » والقرآن كإضاءة النار ، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها .
قال جمهور النحاة : جواب «لما » ذهب ، ويعود الضمير من «نورهم » في هذا القول على ( الذي ) ( {[292]} ) ، ويصح شبه الآية بقول الشاعر( {[293]} ) : [ الأشهب بن رميلة ] : [ الطويل ] .
وإنّ الذي حانتْ بفلجٍ دماؤهم . . . همُ القومُ كلُّ القومِ يا أمّ خالدِ
وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد ، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم .
وقال قوم : جواب «لما » مضمر ، وهو طفئت ، والضمير في «نورهم » على هذا للمنافقين( {[294]} ) والإخبار بهذا( {[295]} ) هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى : { فضرب بينهم بسور له باب }( {[296]} ) [ الحديد : 13 ] .
قال القاضي أبو محمد : هذا القول غير قوي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في ظلْمات » بسكون اللام ، وقرأ قوم «ظلَمات » بفتح اللام . ( {[297]} )
قال أبو الفتح : في ظلمات وكسرات ثلاثة لغات : اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني ، وكل ذلك جائز حسن ، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل إتباعاً فتقول ثمرة وثمرات .
قال القاضي أبو محمد : وذهب قوم في «ظلَمات » بفتح اللام إلى أنه جمع ظلم فهو جمع الجمع( {[298]} ) .
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } .
أعقبت تفاصيل صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة ، بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة ، وهذه طريقة تشبيه التمثيل ، إلحاقاً لتلك الأحوال المعقولة بالأشياء المحسوسة ، لأن النفس إلى المحسوس أميل .
وإتماماً للبيان بجمع المتفرقات في السمع ، المطالة في اللفظ ، في صورة واحدة لأن للإجمال بعد التفصيل وقعاً من نفوس السامعين .
وتقريراً لجميع ما تقدم في الذهن بصورة تخالف ما صور سالفاً لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها . قال في « الكشاف » : « ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المِثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كالمشاهد » .
واستدلالاً على ما يتضمنه مجموع تلك الصفات من سوء الحالة وخيبة السعي وفساد العاقبة ، فمن فوائد التشبيه قصد تفظيع المشبه .
وتقريباً لما في أحوالهم في الدين من التضاد والتخالف بين ظاهر جميل وباطن قبيح بصفة حال عجيبة من أحوال العالم فإن من فائدة التشبيه إظهار إمكان المشبه ، وتنظير غرائبه بمثلها في المشبه به . قال في « الكشاف » : « ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتابه المبين أمثاله وفشت في كلام رسول صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء قال تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] ا هـ .
والتمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم . وهو هنا من قبيل التشبيه لا من الاستعارة لأن فيه ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي لفظ مثل . فجملة : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } واقعة من الجمل الماضية موقع البيان والتقرير والفذلكة ، فكان بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف ، والحالة التي وقع تمثيلها سيجىء بيانها في آخر تفسير الآية .
وأصل المثل بفتحتين هو النظير والمشابه ، ويقال أيضاً مثل بكسر الميم وسكون الثاء ، ويقال : مثيل كما يقال : شَبَه وشبْهٌ وشبيه ، وبدَل وبِدْل ، وبديل ، ولا رابع لهذه الكلمات في مجيء فَعَل وفِعْل وفَعِيل بمعنى واحد .
وقد اختص لفظ المَثَل ( بفتحتين ) بإطلاقه على الحال الغريبة الشأن لأنها بحيث تمثل للناس وتوضح وتشبه سواء شبهت كما هنا ، أم لم تشبه كما في قوله تعالى : { مثل الجنة } [ الرعد : 35 ] .
وبإطلاقه على قول يصدر في حال غريبة فيحفظ ويشيع بين الناس لبلاغة وإبداع فيه ، فلا يزال الناس يذكرون الحال التي قيل فيها ذلك القول تبعاً لذكره وكم من حالة عجيبة حدثت ونسيت لأنها لم يصدر فيها من قول بليغ ما يجعلها مذكورة تبعاً لذكره فيسمى مثلاً ، وأمثال العرب باب من أبواب بلاغتهم وقد خصت بالتأليف ويعرفونه بأنه قول شبه مضربه بمورده وسأذكره قريباً .
فالظاهر أن إطلاق المثل على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله في حالة عجيبة هو إطلاق مرتب على إطلاق اسم المثل على الحال العجيبة ، وأنهم لا يكادون يضربون مثلاً ولا يرونه أهلاً للتسيير وجديراً بالتداول إلا قولاً فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ وإيجازه ووفرة معنى ، فالمثل قول عزيز غريب ليس من متعارف الأقوال العامة بل هو من أقوال فحول البلاغة فلذلك وصف بالغرابة{[86]} أي العزة مثل قولهم : « الصيف ضيعتِ اللبن » وقولهم : « لا يطاع لقصير أمر » وستعرف وجه ذلك .
ولما شاع إطلاق لفظ المثل ( بالتحريك ) على الحالة العجيبة الشأن جعل البلغاء إذا أرادوا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة أعني وصفين منتزعين من متعدد أتوا في جانب المشبه والمشبه به معاً أو في جانب أحدهما بلفظ المثل وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على المشبه به منهما ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط فلا يقولون مثل فلان كمثل الأسد وقلما شبهوا حالاً مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى : { إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه } [ الرعد : 14 ] بل يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالباً نحو الآية هنا ، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد الجانبين كقوله : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } [ يونس : 24 ] الآية وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات فصار لفظ المثل في تشبيه الهيئة منسياً من أصل وضعه ومستعملاً في معنى الحالة فلذلك لا يستغنون عن الإتيان بحرف التشبيه حتى مع وجود لفظ المثل فصارت الكاف في قوله تعالى : { كمثل } دالة على التشبيه وليست زائدة كما زعمه الرضى في « شرح الحاجبية » ، وتبعه عبد الحكيم عند قوله تعالى : { أو كصيب } [ البقرة : 19 ] وقوفاً مع أصل الوضع وإغضاء عن الاستعمال ألا ترى كيف استغنى عن إعادة لفظ المثل عند العطف في قوله تعالى : { أو كصيب } ولم يستغن عن الكاف .
ومن أجل إطلاق لفظ المثل اقتبس علماء البيان مصطلحهم في تسمية التشبيه المركب بتشبيه التمثيل وتسمية استعمال المركب الدال على هيئة منتزعة من متعدد في غير ما وضع له مجموعه بعلاقة المشابهة استعارة تمثيلية وقد تقدم الإلمام بشيء منه عند قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .
وإنني تتبعت كلامهم فوجدت التشبيه التمثيلي يعتريه ما يعتري التشبيه المفرد فيجىء في أربعة أقسام :
الأول : ما صرح فيه بأداة التشبيه أو حذفت منه على طريقة التشبيه البليغ كما في هذه الآية وقوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] إذا قدرنا أولئك كالذين اشتروا كما قدمنا .
الثاني : ما كان على طريقة الاستعارة التمثيلية المصرحة بأن يذكروا اللفظ الدال بالمطابقة على الهيئة المشبه بها ويحذف ما يدل على الهيئة المشبهة نحو المثال المشهور وهو قولهم : إني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى .
الثالث : تمثيلية مكنية وهي أن تشبه هيئة بهيئة ولا يذكر اللفظ الدال على الهيئة المشبه بها بل يرمز إليه بما هو لازم مشتهر من لوازمه ، وقد كنت أعد مثالاً لهذا النوع خصوص الأمثال المعروفة بهذا اللقب نحو الصيف ضيعت اللبن وبيدي لا بيد عمرو ونحوها من الأمثال فإنها ألفاظ قيلت عند أحوال واشتهرت وسارت حتى صار ذكرها ينبىء بتلك الأحوال التي قيلت عندها وإن لم يذكر اللفظ الدال على الحالة ، وموجب شهرتها سيأتي . ثم لم يحضرني مثال للمكنية التمثيلية من غير باب الأمثال حتى كان يوم حضرت فيه جنازة ، فلما دفنوا الميت وفرغوا من مواراته التراب ضج أناس بقولهم : « اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة » فقلت إن الذين سنوا هذه المقالة في مثل هذه الحالة ما أرادوا إلا تنظير هيئة حفرهم للميت بهيئة الذين كانوا يحفرون الخندق مع النبيء صلى الله عليه وسلم إذ كانوا يكررون هذه المقالة كما ورد في كتب السنة قصداً من هذا التنظير أن يكون حفرهم ذلك شبيهاً بحفر الخندق في غزوة الأحزاب بجامع رجاء القبول عند الله تعالى فلم يذكروا ما يدل على الشبه به ولكنهم طووه ورمزوا إليه بما هو من لوازمه التي عرف بها وهو قول النبيء تلك المقالة ثم ظفرت بقول أحمد بن عبد ربه الأندلسي :
وقُلْ لمن لامَ في التصابي *** خَلِّ قليلاً عن الطريق
فرأيته من باب التمثيلية المكنية فإنه حذف المشبه به وهو حال المتعرض لسائر في طريقه يسده عليه ويمنعه المرور به وأتى بشيء من لوازم هذه الحالة وهو قول السائر للمتعرض : خل عن الطريق .
رابعها : تمثيلية تبعية كقول أبي عطاء السندي :
ذكرتكِ والخطيُّ يخطُر بيننا *** وقد نَهِلت منى المُثَقّفَةُ السُّمْر
فأثبت النهل للرماح تشبيهاً لها بحالة الناهل فيما تصيبه من دماء الجرحى المرة بعد الأخرى كأنها لا يرويها ما تصيبه أولاً ثم أتى بنَهلتْ على وجه التبعية ، ومن هذا القسم عند التفتزاني الاستعارة في { على } من قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] وقد تقدم الكلام عليه هناك .
فأما المثل الذي هو قول شبه مضربه بمورده ، وهو الذي وعدت بذكره آنفاً فمعنى تشبيه مضربه بمورده أن تحصل حالة لها شبه بالحالة التي صدر فيها ذلك القول فيستحضر المتكلم تلك الحالة التي صدر فيها القول ويشبه بها الحالة التي عرضت وينطق بالقول الذي كان صدر في أثناء الحالة المشبه بها ليذكِّر السامع بتلك الحالة ، وبأن حالة اليوم شبيهة بها ويجعل علامة ذِكر ذلك القول الذي قيل في تلك الحالة وإذا حققت التأمل وجدت هذا العمل من قبيل الاستعارة التمثيلية المكنية لأجل كون تلك الألفاظ المسماة بالأمثال قد سارت ونقلت بين البلغاء في تلك الحوادث فكانت من لوازم الحالات المشبه بها لا محالة لمقارنتها لها في أذهان الناس فهي لوازم عرفية لها بين أهل الأدب فصارت من روادف أحوالها وكان ذكر تلك الأمثال رمزاً إلى اعتبار الحالات التي قيلت فيها ، ومن أجل ذلك امتنع تغييرها عن ألفاظها الواردة بها لأنها إذا غيرت لم تبق على ألفاظها المحفوظة المعهودة فيزول اقترانها في الأذهان بصور الحوادث التي قيلت فيها فلم يعد ذكرها رمزاً للحال المشبه به التي هي من روادفها لا محالة وفي هذا ما يغني عن تطلب الوجه في احتراس العرب من تغيير الأمثال حتى تسلموا من الحيرة في الحكم بين صاحب « الكشاف » وصاحب « المفتاح » إذ جعل صاحب « الكشاف » سبب منع الأمثال من التغيير ما فيها من الغرابة فقال : « ولم يضربوا مثلاً ولا رأوه أهلاً للتسيير ، ولا جديراً بالتداول إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه ومن ثم حوفظ عليه وحمي من التغيير » فتردد شراحه في مراده من الغرابة ، وقال الطيبي الغرابة غموض الكلام وندرته وذلك إما أن يكون بحسب المعنى وإما أن يكون بحسب اللفظ ، أما الأول فكأن يرى عليه أثر التناقض وما هو بتناقض نحو قول الحكم بن عبد يغوث : رب رمية من غير رام ، أي رب رمية مصيبة من غير رام أي عارف وقوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] إذ جعل القتل حياة .
وأما الثاني بأن يكون فيه ألفاظ غريبة لا تستعملها العامة نحو قول الحباب بن المنذر : « أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب »{[87]} أو فيه حذف وإضمار نحو رمية من غير رام . أو فيه مشاكلة نحو : « كما تدين تدان » . أراد كما تفعل تجازى . وفسر بعضهم الغرابة بالبلاغة والفصاحة حتى صارت عجيبة وعندي أنه ما أراد بالغرابة إلا أن يكون قولاً بديعاً خاصياً إذ الغريب مقابل المألوف والغرابة عدم الإلف يريد عدم الإلف به في رفعة الشأن . وأما صاحب « المفتاح » فجعل منعها من التغيير لورودها على سبيل الاستعارة فقال : ثم إن التشبيه التمثيلي متى شاع واشتهر استعماله على سبيل الاستعارة صار يطلق عليه المثل لا غير ا هـ . وإلى طريقته مال التفتزاني والسيد . وقد علمت سرها وشرحها فيما بيناه . ولورود الأمثال على سبيل الاستعارة لا تغير عن لفظها الذي ورد في الأصل تذكيراً وتأنيثاً وغيرهما . فمعنى قولهم في تعريف المثل بهذا الإطلاق : « قول شبه مضربه بمورده » أن مضربه هو الحالة المشبهة سميت مضرباً لأنها بمنزلة مكان ضرب ذلك القول أي وضعه أي النطق به يقال ضرب المثل أي شبه ومثل قال تعالى : { أن يضرب مثلاً ما } [ البقرة : 26 ] وأما مورده فهو الحالة المشبه بها وهي التي ورد ذلك القول أي صدر عند حدوثها ، سميت مورداً لأنها بمنزلة مكان الماء الذي يرده المستقون ، ويقال الأمثال السائرة أي الفاشية التي يتناقلها الناس ويتداولونها في مختلف القبائل والبلدان فكأنها تسير من بلد إلى بلد .
و { الذي استوقد ناراً } مفرد مراد به مشبه واحد لأن مستوقد النار واحد ولا معنى لاجتماع جماعة على استيقاد نار ولا يريبك كون الحالة المشبه حالة جماعة المنافقين ، كأن تشبيه الهيئة بالهيئة إنما يتعلق بتصوير الهيئة المشبهة بها لا بكونها على وزن الهيئة المشبهة فإن المراد تشبيه حال المنافقين في ظهور أثر الإيمان ونوره مع تعقبه بالضلالة ودوامه ، بحال من استوقد ناراً .
واستوقد بمعنى أوقد فالسين والتاء فيه للتأكيد كما هما في قوله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } [ آل عمران : 195 ] وقولهم استبان الأمر وهذا كقول بعض بني بولان من طي في « الحماسة » :
نَسْتَوْقِد النبل بالحَضيض ونَصْ *** طَادُ نُفوسا بُنَتْ علَى الكرم
أراد وقوداً يقع عند الرمي بشدة . وكذلك في الآية لإيراد تمثيل حال المنافقين في إظهار الإيمان بحال طالب الوقود بل هو حال الموقد وقوله :
{ فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } .
مفرع على { استوقد } . و { لما } حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره فوقوع جوابها مقارن لوقوع شرطها وذلك معنى قولهم حرف وجود لوجود أي حرف يدل على وجود الجواب لوجود شرطها أي أن يكون جوابها كالمعلول لوجود شرطها سواء كان من ترتب المعلول على العلة أو كان ترتب المسبب العرفي على السبب أم كان ترتب المقارن على مقارنه المهيأ والمقارن الحاصل على سبيل المصادفة وكلها استعمالات واردة في كلام العرب وفي القرآن .
مثال ترتب المعلول على العلة لما تعفنت أخلاطه حُمَّ ، والمسبب على السبب ، { ولما جاءت رسلنا لوطاً شيء بهم وضاق بهم ذرعاً } [ هود : 77 ] ، وقولُ عمرو بن معد يكرب :
لما رأيتُ نساءنـا *** يفحصن بالمعزاء شدا
نازَلْتُ كبشهم ولم *** أر من نزال الكبش بدا
ومثال المقارن المهيأ قول امرىء القيس :
فلما أَجزْنا ساحة الحي وانتحى *** بنا بطن خَبت ذي حقاف عقنقل
هَصَرْتُ بفوْدَيْ رأسها فتمايلت *** عليّ هضيم الكشح ريَّا المخلخَل
ومثال المقارن الحاصل اتفاقاً { ولما جاءت رسلُنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا . . . } [ العنكبوت : 31 ] وقوله : { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه } [ يوسف : 69 ] فمن ظن أن لمّا تؤذن بالسببية اغتراراً بقولهم وجود لوجود حملاً لِلاَّم في عبارتهم على التعليل فقد ارتكب شططاً ولم يجد من كلام الأئمة فرطاً .
و { أضاء } يجىء متعدياً وهو الأصل لأن مجرده ضَاء فتكون حينئذٍ همزته للتعدية كقول أبي الطمحان القيني :
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم *** دُجى الليل حتى ثقب الجزع ثاقبه
ويجىء قاصراً بمعنى ضاء فهمزته للصيرورة أي صار ذا ضوء فيساوي ضاء كقول امرىء القيس يصف البرق :
يُضِىء سنَاه أو مصابيح راهب *** أمال السليط بالذبال المفتل
والآية تحتملهما أي فلما أضاءت النار الجهات التي حوله وهو معنى ارتفاع شعاعها وسطوع لهبها ، فيكون ما حوله موصولاً مفعولاً لأضاءت وهو المتبادر ، وتحتمل أن تكون من أضاء القاصر أي أضاءت النار أي اشتعلت وكثر ضوءها في نفسها ، ويكون ما حوله على هذا ظرفاً للنار أي حصل ضوء النار حولها غير بعيد عنها .
و { حوله } ظرف للمكان القريب ولا يلزم أن يراد به الإحاطة فحوله هنا بمعنى لديه ومن توهم أن { ما حوله } يقتضي ذلك وقع في مشكلات لم يجد منها مخلصاً إلا بعناء .
وجمع الضمير في قوله : { بنورهم } مع كونه بلصق الضمير المفرد في قوله : { ما حوله } مراعاة للحال المشبهة وهي حال المنافقين لا للحال المشبه بها ؛ وهي حال المستوقد الواحد على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي وهو انطماس نور الإيمان منهم ، فهو عائد إلى المنافقين لا إلى { الذي } ، قريباً من رد العجز على الصدر فأشبه تجريد الاستعارة المفردة وهو من التفنين كقول طرفة :
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن *** مظاهرُ سِمطَيْ لؤلؤ وزبرجد
وهذا رجوع بديع ، وقريب منه الرجوع الواقع بطريق الاعتراض في قوله الآتي : { والله محيط بالكافرين } [ البقرة : 19 ] وحسنه أن التمثيل جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به فالمتكلم بالخيار في مراعاة كليهما لأن الوصف لهما فيكون ذلك البعض نوعاً واحداً في المشبه والمشبه به ، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه . وهذا يقتضي أن تكون جملة { ذهب الله بنورهم } جواب { لمّا } فيكون جمع ضمائر بنورهم وتركهم إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ مقتضى الظاهر أن يقول ذهب الله بنوره وتركه ، ولذلك اختير هنا لفظ النور عوضاً عن النار المبتدأ به ، للتنبيه على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة ليدل على أن الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين ، فهذا إيجاز بديع كأنه قيل فلما أضاءت ذهب الله بناره فكذلك ذهب الله بنورهم وهو أسلوب لا عهد للعرب بمثله فهو من أساليب الإعجاز . وقريب منه قوله تعالى : { بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } [ الزخرف : 22 24 ] فقوله : { أرسلتم } حكاية لخطاب أقوام الرسل في جواب سؤال محمد صلى الله عليه وسلم قومه بقوله : { أوَلو جئتكم } وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقاً لما في الآية بعدها من قوله تعالى : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } إذ يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه . وجوز صاحب « الكشاف » أن يكون قوله : { ذهب الله بنورهم } استئنافاً ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله تعالى { فلما أضاءت ما حوله } ويكون جواب { لما } محذوفاً دلت عليه الجملة المستأنفة وهو قريب مما ذكرته إلا أن الاعتبار مختلف .
ومعنى { ذهب الله بنورهم } : أطفأ نارهم فعبر بالنور لأنه المقصود من الاستيقاد ، وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفىء ، والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما تقدم عند قوله : { ويمدهم في طغيانهم } [ البقرة : 15 ] .
و { ذهب } المعدى بالباء أبلغ من أذهب المعدى بالهمزة وهاته المبالغة في التعدية بالباء نشأت من أصل الوضع لأن أصل ذهب به أن يدل على أنهما ذهبا متلازمين فهو أشد في تحقيق ذهاب المصاحب كقوله : { فلما ذهبوا به } [ يوسف : 15 ] وأذهبه جعله ذاهباً بأمره أو إرساله فلما كان الذي يريد إذهاب شخص إذهاباً لا شك فيه يتولى حراسة ذلك بنفسه حتى يوقن بحصول امتثال أمره صار ذهب به مفيداً معنى أذهبه ، ثم تنوسي ذلك بكثرة الاستعمال فقالوا ذهب به ونحوه ولو لم يصاحبه في ذهابه كقوله : { يأتي بالشمس من المشرق } [ البقرة : 258 ] وقوله : { وجاء بكم من البدو } [ يوسف : 100 ] ثم جعلت الهمزة لمجرد التعدية في الاستعمال فيقولون : ذهب القمار بمال فلان ولا يريدون أنه ذهب معه ، ولكنهم تحفظوا ألا يستعملوا ذلك إلا في مقام تأكيد الإذهاب فبقيت المبالغة فيه . وضمير المفرد في قوله { وما حوله } مراعاة للحال المشبهة .
واختيار لفظ النور في قوله : { ذهب الله بنورهم } دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب ؛ لأن الذي يشبه النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها وقد شاع التعبير عن الإسلام بالنور في القرآن فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه أنسب بالحال المشبهة ، وعبّر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو بالمشبه أنسب في اصطلاح المتكلم كما قدمنا الإشارة إليه في وجه جمع الضمير في قوله : { بنورهم }
{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ } .
هذه الجملة تتضمن تقريراً لمضمون { ذهب الله بنورهم } لأن من ذهب نوره بقي في ظلمة لا يبصر ، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية فإن قوله { ذهب الله بنورهم } يفيد أنهم لما استوقدوا ناراً فانطفأت انعدمت الفائدة وخابت المساعي ولكن قد يذهل السامع عما صاروا إليه عند هاته الحالة فيكون قوله بعد ذلك : { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } تذكيراً بذلك وتنبيهاً إليه ، فإنهم لا يقصدون من البيان إلا شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع كما في قول طرفة :
ندامَايَ بيضٌ كالنجوم وقَينة *** تَرُوح إلينا بَيْن بُرد ومِجْسَد
فإن قوله تروح إلينا الخ لا يفيد أكثر من تصوير حالة القينة وتحسين منادمتها ، وتفيد هذه الجملة أيضاً أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد ، على ما في قوله { وتركهم } من إفادة تحقيرهم ، وما في جمع { ظلمات } من إفادة شدة الظلمة وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمناً من جملة { ذهب الله بنورهم } وما يقتضيه جمع { ظلمات } من تقدير تشبيهات ثلاثة لضلالات ثلاث من ضلالاتهم كما سيأتي .
وبهذا الاعتبار الزائد على تقرير مضمون الجملة قبلها عطفت على الجملة ولم تفصل .
وحقيقة الترك مفارقة أحد شيئاً كان مقارناً له في موضع وإبقاؤه في ذلك الموضع . وكثيراً ما يذكرون الحال التي ترك الفاعل المفعول عليها ، وفي هذا الاستعمال يكثر أن يكون مجازاً عن معنى صَيَّر أو جَعَل . قال النابغة :
فلا تتركّني بالوعيد كأنني *** إلى الناس مطليٌّ به القارُ أجرب
أي لا تصيرني بهذه المشابهة ، وقول عنترة :
جادت عليه كل عينٍ ثرةٍ *** فترَكن كل قرارة كالدرهم
يريد صيرن ، والأكثر أن يكنى به في هذا الاستعمال عن الزهادة في مفعوله كما في بيت النابغة ، أو عن تحقيره كما في هذه الآية .
والفرق بين ما يعتبر فيه معنى صيَّر حتى يكون منصوبه الثاني مفعولاً ، وما يعتبر المنصوب الثاني معه حالاً ، أنه إن كان القصد إلى الإخبار بالتخلية والتنحي عنه فالمنصوب الثاني حال وإن كان القصد أولاً إلى ذلك المنصوب الثاني وهو محل الفائدة فالمنصوب الثاني مفعول وهو في معنى الخبر فلا يحتمل واحد منهما غير ذلك معنى وإن احتمله لفظاً .
وجمع { ظلمات } لقصد بيان شدة الظلمة كقوله تعالى : { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } [ الأنعام : 63 ] وقول النبيء صلى الله عليه وسلم « الظلم ظلمات يوم القيامة » فإن الكثرة لما كانت في العرف سبب القوة أطلقوها على مطلق القوة وإن لم يكن تعدد ولا كثرة مثل لفظ كثير كما يأتي عند قوله تعالى : { وادعوا ثبوراً كثيراً } في سورة الفرقان ( 14 ) ، ومنه ذكر ضمير الجمع للتعظيم ، للواحد ، وضمير المتكلم ومعه غيره للتعظيم ، وصيغة الجمع من ذلك القبيل ، قيل لم يرد في القرآن ذكر الظلمة مفرداً ، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقاً في فصيح الكلام وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } في سورة الأنعام ( 1 ) بخلاف قوله تعالى : { في ظلمات ثلاث } [ الزمر : 6 ] فإن التعدد مقصود بقرينة وصفه بثلاث . ولكن بلاغة القرآن وكلام الرسول عليه السلام لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه المفرد ، ويتعين في هذه الآية أن جمع ( ظلمات ) أشير به إلى أحوال من أحوال المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي حالة الكفر ، وحالة الكذب ، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين ، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق .
وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامُه قبل الانتفاع به ، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نوراً وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكَذب وما يتفرع عن النفاق من المذام ، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عوَّد بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم .
وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة : { لا يبصرون } لتصوير حال من انطفأَ نورُه بعد أن استضاء به .
ومفعول { لا يبصرون } محذوف لقصد عموم نفي المبصرات فتنزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدَّر له مفعول كأنه قيل لا إحساس بصر لهم ، كقول البحتري :
شَجْوُ حساده وغيظُ عداه *** أن يَرى مبصرٌ ويسمَعَ واعٍ
وقد أجمل وجه الشبه في تشبيه حال المنافقين اعتماداً على فطنة السامع لأنه يَمْخَضه من مجموع ما تقدم من شرح حالهم ابتداء من قوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] الخ ومما يتضمنه المثَلان من الإشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة المشبه بها ، فإن إظهارهم الإيمان بقولهم : { آمنا بالله } وقولهم : { إنما نحن مصلحون } [ البقرة : 11 ] وقولهم عند لقاء المؤمنين : { آمنا } [ البقرة : 14 ] أحوالٌ ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاةِ والصدقةِ مع المسلمين ويصدر منهم طيِّب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور الإيمان يخترق إلى نفوسهم ولكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبةَ حالةٌ تضادها عند انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء بهم ووصفهم بالسفه ، مُثِّلَ ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد ناراً ثم ذهب عنه نورها .
ومن بدائع هذا التمثيل أنه مع ما فيه من تركيب الهيأة المشبه بها ومقابلتها للهيأة المركبة من حالهم هو قابل لتحليله بتشبيهاتٍ مفردة لكل جزء من هيأة أحوالهم بجزء مفرد من الهيأة المشبه بها فشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار ، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين ، وشبه رجوعهم إلى كفرهم بذهاب نور النار ، وشبه كفرهم بالظلمات ، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم .