41- يا أيها الرسول لا يحزنك صنع الكافرين الذين ينتقلون في مراتب الكفر من أدناها إلى أعلاها ، مسارعين فيها ، من هؤلاء المخادعين الذين قالوا : آمنا بألسنتهم ولم تذعن للحق قلوبهم ، ومن اليهود الذين يكثرون الاستماع إلى مفتريات أحبارهم ويستجيبون لها ، ويكثرون الاستماع والاستجابة لطائفة منهم ولم يحضروا مجلسك تكبراً وبغضاً ، وهؤلاء يبدلون ويحرفون ما جاء في التوراة من بعد أن أقامه الله وأحكمه في مواضعه ، ويقولون لأتباعهم : إن أوتيتم هذا الكلام المحرّف المبدّل فاقبلوه وأطيعوه ، وإن لم يأتكم فاحذروا أن تقبلوا غيره ، فلا تحزن ، فمن يرد الله ضلاله لانغلاق قلبه فلن تستطيع أن تهديه أو أن تنفعه بشيء لم يرده الله له ، وأولئك هم الذين أسرفوا في الضلال والعناد لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من دنس الحقد والعناد والكفر ، ولهم في الدنيا ذل بالفضيحة والهزيمة ، ولهم في الآخرة عذاب شديد عظيم .
( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا . . سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا . ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً . أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم . لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخره عذاب عظيم . سماعون للكذب ، أكالون للسحت . فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط . إن الله يحب المقسطين . وكيف يحكمونك - وعندهم التوراه فيها حكم الله - ثم يتولون من بعد ذلك ؟ وما أولئك بالمؤمنين ) . .
هذه الآيات تشي بأنها مما نزل في السنوات الأولى للهجرة ؛ حيث كان اليهود ما يزالون بالمدينه - أي قبل غزوة الأحزاب على الأقل وقبل التنكيل ببني قريظه إن لم يكن قبل ذلك ، أيام أن كان هناك بنو النضير وبنو قينقاع ، وأولاهما أجليت بعد أحد والثانيه أجليت قبلها - ففي هذه الفترة كان اليهود يقومون بمناوراتهم هذه ؛ وكان المنافقون يأرزون إليهم كما تأرز الحيه إلى الجحر ! وكان هؤلاء وهؤلاء يسارعون في الكفر ؛ ولو قال المنافقون بأفواههم : آمنا . . وكان فعلهم هذا يحزن الرسول [ ص ] ويؤذيه . .
والله - سبحانه - يعزي رسوله [ ص ] ويواسيه ؛ ويهون عليه فعال القوم ، ويكشف للجماعه المسلمه حقيقة المسارعين في الكفر من هؤلاء وهؤلاء ؛ ويوجه الرسول [ ص ] إلى المنهج الذي يسلكه معهم حين يأتون إليه متحاكمين ؛ بعد ما يكشف له عما تآمروا عليه قبل أن يأتوا إليه وما بيتوه : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا ، بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا . . سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك . يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا . . . )
روي أن هذه الآيات نزلت في قوم من اليهود ارتكبوا جرائم - تختلف الروايات في تحديدها - منها الزنا ومنها السرقه . . وهي من جرائم الحدود في التوراة ؛ ولكن القوم كانوا قد اصطلحوا على غيرها ؛ لأنهم لم يريدوا أن يطبقوها على الشرفاء فيهم في مبدأ الأمر . ثم تهاونوا فيها بالقياس إلى الجميع ، وأحلوا محلها عقوبات أخرى من عقوبات التعازير [ كما صنع الذين يزعمون أنهم مسلمون في هذا الزمان ! ] . . فلما وقعت منهم هذه الجرائم في عهد الرسول [ ص ] تآمروا على أن يستفتوه فيها . . فإذا أفتى لهم بالعقوبات التعزيريه المخففه عملوا بها ، وكانت هذه حجه لهم عند الله . . فقد أفتاهم بها رسول ! . . وإن حكم فيها بمثل ما عندهم في التوراة لم يأخذوا بحكمه . . فدسوا بعضهم يستفتيه . . ومن هنا حكاية قولهم :
( إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا ) . .
وهكذا بلغ منهم العبث ، وبلغ منهم الاستهتار ، وبلغ منهم الالتواء أيضاً في التعامل مع الله والتعامل مع رسول الله [ ص ] هذا المبلغ . . وهي صورة تمثل أهل كل كتاب حين يطول عليهم الأمد ، فتقسو قلوبهم ؛ وتبرد فيها حرارة العقيده ، وتنطفى ء شعلتها ؛ ويصبح التفصي من هذه العقيده وشرائعها وتكاليفها هو الهدف الذي يبحث له عن الوسائل ؛ ويبحث له عن " الفتاوي " لعلها تجد مخرجاً وحيله ؛ أليس الشأن كذلك اليوم بين الذين يقولون : إنهم مسلمون : ( من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) !
أليسوا يتلمسون الفتوى للاحتيال على الدين لا لتنفيذ الدين ؟ أليسوا يتمسحون بالدين احياناً لكي يقر لهم أهواءهم ويوقع بالموافقه عليها ! فأما إن قال الدين كلمة الحق وحكم الحق فلا حاجة بهم إليه . . ( يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه ؛ وإن لم تؤتوه فاحذروا ) إنه الحال نفسه . ولعله لهذا كان الله - سبحانه _يقص قصة بني إسرائيل بهذا الإسهاب وهذا التفصيل ، لتحذر منها أجيال " المسلمين " وينتبه الواعون منها لمزالق الطريق .
والله سبحانه - يقول لرسوله في شأن هؤلاء المسارعين بالكفر ، وفي شأن هؤلاء المتآمرين المبيتين لهذه الألاعيب : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . فهم يسلكون سبيل الفتنه ، وهم واقعون فيها ، وليس لك من الأمر شيء ، وما أنت بمستطيع أن تدفع عنهم الفتنه وقد سلكوا طريقها ولجوا فيها : ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً )
وهؤلاء دنست قلوبهم ، فلم يرد الله أن يطهرها ، وأصحابها يلجون في الدنس : ( أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) . .
وسيجزيهم بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخره : ( لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . .
فلا عليك منهم ، ولا يحزنك كفرهم ، ولا تحفل بأمرهم . فهو أمر مقضي فيه . .
قرأ جمهور الناس «الكِلم » بفتح الكاف وكسر اللام ، وقرأ بعض الناس «الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة ضعيفة في كلمة ، وقوله تعالى : { يحرفون الكلم } صفة لليهود فيما حرفوا من التوراة ، إذ ذاك أخطر أمر حرفوا فيه . ويحتمل أن يكون صفة لهم وللمنافقين فيما يحرفون من الأقوال عند كذبهم ، لأن مبادىء كذبهم لا بد أن تكون من أشياء قيلت أو فعلت ، وهذا هو الكذب المزين الذي يقرب قبوله ، وأما الكذب الذي لا ُيرَفد{[4546]} بمبدأ فقليل الأثر في النفس ، وقوله : { من بعد مواضعه } أي من بعد أن وضع مواضعه وقصدت به وجوهه القويمة والإشارة بهذا قيل :هي إلى التحميم والجلد في الزنا ، وقيل : هي إلى قبول الدية في أمر القتل ، وقيل إلى إبقاء عزة النضير على قريظة ، وهذا بحسب الخلاف المتقدم في الآية ، ثم قال تعالى لنبيه على جهة قطع الرجاء فيهم { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } أي لا تتبع نفسك أمرهم ، والفتنة هنا المحنة بالكفر والتعذيب في الآخرة ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سبق لهم في علم الله ألا «يطهر قلوبكم » وأن يكونوا مدنسين بالكفر ، ثم قرر تعالى «الخزي في الدنيا » . والمعنى بالذلة والمسكنة التي انضربت عليهم في أقطار الأرض وفي كل أمة ، وقرر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم .
وقوله : { سماعون للكذب } إن كان الأول في بني إسرائيل فهذا تكرار تأكيد ومبالغة ، وإن كان الأول في المنافقين فهذا خبر أيضاً عن بني إسرائيل وقوله تعالى : { أكالون للسحت } فعالون مبالغة بناء أي يتكرر أكلهم له ويكثر . و «السحت » كل ما لا يحل كسبه من المال . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «السحْت » ساكنة الحاء خفيفة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «السحُت » مضمومة الحاء مثقلة . وروي عن خارجة بن مصعب عن نافع «السِّحْت » بكسر السين وسكون الحاء واللفظة مأخوذة من قولهم سحت وأسحت إذا استأصل وأذهب فمن الثلاثي قوله تعالى : { فيسحتكم بعذاب }{[4547]} ومن الرباعي قول الفرزدق :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إلا مسحتاً أو مجلف{[4548]}
والسُّحْت والسُّحُت بضم السين وتخفيف الحاء وتثقيلها لغتان في اسم الشيء المسحوت ، والسحْت بفتح السين وسكون الحاء المصدر ، سمي به المسحوت كما سمي المصيد صيداً في قوله عز وجل { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم }{[4549]} وكما سمي المرهون رهناً ، وهذا كثير .
قال القاضي أبو محمد : فسمي المال الحرام سحتاً لأنه يذهب وتستأصله النوب ، كما قال عليه السلام «من جمع مالاً من تهاوش أذهبه الله في نهابير »{[4550]} ، وقال مكي سمي المال الحرام سحتاً لأنه يذهب من حيث يسحت الطاعات أي يذهب بها قليلا قليلاً ، وقال المهدوي من حيث يسحت أديانهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود لأن السيئات لا تحبط الحسنات اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات فهو سحتها من حيث لا تعمل وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها ، وقال المهدوي سمي أجر الحجام سحتاً لأنه يسحت مروءة آخذه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أشبه ، أصل السحت كلب الجوع ، يقال فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يُلفى أبداً إلا جائعاً يذهب ما في معدته ، فكان الذي يرتشي به من الشره ما بالجائع أبداً لا يشبع .
قال القاضي أبو محمد : وذلك بأن الرشوة تنسحت ، فالمعنى هو كما قدمناه ، وفي عبارة الطبري بعض اضطراب لأن مسحوت المعدة هو مأخوذ من الاستئصال والذهاب ، وليس كلب الغرث اصلاً للسحت ، والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام والأوقاف التي تؤكل ويرفد أكلها بقول الأباطيل وخدع العامة ونحو هذا ، وقال أبو هريرة وعلي بن أبي طالب : مهر البغي سحت وعسب{[4551]} الفحل سحت وكسب الحجام{[4552]} سحت وثمن الكلب والخمر سحت ، وقال ابن مسعود السحت أن يهدي لك من قد أعنته في حاجته أو حقه فتقبل ، قيل لعبد الله ما كنا نعد السحت إلا الرشوة في الحكم قال : ذلك الكفر ، وقد روي عن ابن مسعود وجماعة كثيرة أن السحت هو الرشوة في الحكم ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ، قيل يا رسول الله وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم »{[4553]} .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وكل ما ذكر في معنى السحت فهو أمثلة ، ومن أعظمها الرشوة في الحكم والأجرة على قتل النفس ، وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل ، وقوله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم ولحكام أمته بعده في أن يحكم بينهم إذا تراضوا في نوازلهم ، وقال عكرمة والحسن : هذا التخيير منسوخ بقوله { وأن احكم بينهم بما أنزل } [ المائدة : 49 ] وقال ابن عباس ومجاهد : نسخ من المائدة آيتان ، قوله تعالى : { ولا القلائد } [ المائدة : 2 ] نسختها آية السيف وقوله : { أو أعرض عنهم } نسختها { وأن احكم بينهما بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] .
قال القاضي أبو محمد : وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق ، وهذا هو الأظهر إن شاء الله ، وفقه هذه الآية أن الأمة فيما علمت مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ويتسلط عليهم في تغييره وينقر عن صورته كيف وقع فيغير ذلك ، ومن التظالم حبس السلع المبيعة وغصب المال وغير ذلك ، فأما نوازل الأحكام التي لا ظلم فيها من أحدهم للآخر وإنما هي دعاوي محتملة وطلب ما يحل ولا يحل وطلب المخرج من الإثم في الآخرة فهي التي هو الحاكم فيها مخير ، وإذا رضي به الخصمان فلا بد مع ذلك من رضى الأساقفة أو الأحبار ، قاله ابن القاسم في العتبية ، قال وأما إن رضي الأساقفة دون الخصمين أو الخصمان دون الأساقفة فليس له أن يحكم .
قال القاضي أبو محمد : وانظر إن رضي الأساقفة لأشكال النوازل عندهم دون أن يرضى الخصمان فإنها تحتمل الخلاف ، وانظر إذا رضي الخصمان ولم يقع من الأحبار نكير فحكم الحاكم ثم أراد الأحبار رد ذلك الحكم وهل تستوي النوازل في هذا كالرجم في زانيين والقضاء في مال يصير من أحدهما إلى الآخر ؟ وانظر إذا رضي الخصمان هل على الحاكم أن يستعلم ما عند الأحبار أو يقنع بأن لم تقع منهم معارضته ؟ ومالك رحمه الله يستحب لحاكم المسلمين الإعراض عنهم وتركهم إلى دينهم وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله تعالى : { فإن جاؤوك } يعني أهل نازلة الزانيين .
قال القاضي أبو محمد : ثم الآية بعد تتناول سائر النوازل والله علم .
استئناف ابتدائي لتهوين تألّب المنافقين واليهود على الكذب والاضطراب في معاملة الرّسول صلى الله عليه وسلم وسوء طواياهم معه ، بشرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم ممَّا عسى أن يحزنه من طيش اليهود واستخفافهم ونفاق المنافقين . وافتتح الخطاب بأشرف الصّفات وهي صفة الرّسالة عن الله .
وسبب نزول هذه الآيات حدَث أثناء مدّة نزول هذه السّورة فعقّبت الآيات النّازلة قبلها بها . وسبب نزول هذه الآية وما أشارت إليه هو ما رواه أبو داوود ، والواحدي في « أسباب النّزول » ، والطبري في « تفسيره » ما محصّله : أنّ اليهود اختلفوا في حدّ الزاني ( حين زنى فيهم رجل بامرأة من أهل خيبر أو أهل فَدَك ) ، بَين أن يُرجم وبين أن يجلد ويحمَّم اختلافاً ألجأهم إلى أن أرسلوا إلى يهود المدينة أن يحكِّموا رسول الله في شأن ذلك ، وقالوا : إنْ حكم بالتّحميم قبِلْنا حكمَه وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه ، وأنّ رسول الله قال لأحبارهم بالمدينة : " ما تجدون في التّوراة على من زنى إذا أحْصن " ، قالوا : يحمّم ويُجلد ويطاف به ، وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كذّبهم وأعلمهم بأنّ حكم التّوراة هو الرّجم على من أحصَن ، فأنكروا ، فأمر بالتّوراة أن تنشر ( أي تفتَح طيّاتها وكانوا يلفّونها على عود بشكل اصطواني ) وجعَل بعضُهم يقرأها ويضع يده على آية الرجم ( أي يقرؤها للّذين يفهمونها ) فقال له رسول الله : ارفع يدك فرفع يده فإذا تحتها آية الرّجم ، فقال رسول الله : " لأكونَن أوّل من أحيَى حُكم التّوراة " فحكم بأنّ يُرجم الرجل والمرأةُ . وفي روايات أبي داوود أنّ قوله تعالى : { يأيّها الرّسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر } نزل في شأن ذلك ، وكذلك روى الواحدي والطبري .
ولم يذكروا شيئاً يدلّ على سبب الإشارة إلى ذكر المنافقين في صدر هذه الآية بقوله : { من الّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } . ولعلّ المنافقين ممّن يبطنون اليهوديّة كانوا مشاركين لليهود في هذه القضية ، أو كانوا ينتظرون أن لا يوجد في التّوراة حكم رجم الزّاني فيتّخذوا ذلك عذراً لإظهار ما أبطنوه من الكفر بعلّة تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم .
وأحسب أنّ التجاء اليهود إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ليس لأنّهم يصدّقون برسالته ولا لأنّهم يعُدّون حكمهُ ترجيحاً في اختلافهم ولكن لأنّهم يَعدّونه ولي الأمر في تلك الجهة وما يتبعها . ولهم في قواعد أعمالهم وتقادير أحْبارهم أن يطيعوا ولاة الحكم عَليهم من غير أهل ملّتهم . فلمّا اختلفوا في حكم دينهم جعلوا الحكم لغير المختلفين لأنّ حكم وليّ الأمر مطاع عندهم . فحكَم رسول الله حكماً جمع بين إلزامهم بموجب تحكيمهم وبين إظهار خَطَئهم في العدول عن حكم كتابهم ، ولذلك سمّاه الله تعالى القسط في قوله : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } .
ويحتمل أن يكون ناشئاً عن رأي من يثبت منهم رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ويقول : إنّه رسول للأميّين خاصّة . وهؤلاء هم اليهود العيسوية ، فيكون حكمه مؤيّداً لهم ، لأنّه يعدّ كالإخبار عن التّوراة ، ويؤيّده ما رواه أبو داوود عن أبي هريرة أنّ يهودياً زنى بيهوديّة فقال بعضهم لبعض : اذهبُوا بنا إلى محمّد فإنّه بُعث بالتّخفيف ، فإن أفتى بالجلد دون الرجم قِبلنا واحتججنا بها عند الله وقلنا فُتْيَا نبيء من أنبيائك ، وإمّا أن يكون ذلك من نوع الاعتضاد بموافقة شريعة الإسلام فيكون ترجيح أحد التأويلين بموافقته لشرع آخر . ويؤيّده ما رواه أبو داوود والترمذي أنّهم قالوا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ؛ وإمّا أن يكونوا قد عدلوا عن حكم شريعتهم توقّفاً عند التّعارض فمالوا إلى التّحكيم . ولعلّ ذلك مباح في شرعهم ، ويؤيّده أنّه ورد في حديث البخاري وغيره أنّهم لمّا استفتوا النّبيء صلى الله عليه وسلم انطلق مع أصحابه حتّى جَاء المدارس وهو بيت تعليم اليهود وحاجَّهُم في حكم الرّجم ، وأجابه حَبران منهم يُدعيان بابْنَي صوريا بالاعتراف بثبوت حكم الرجم ، في التّوراة ؛ وإمّا أن يكونوا حكّموا النّبيء صلى الله عليه وسلم قصداً لاختباره فيما يدّعي من العلم بالوحي ، وكان حكم الرجم عندهم مكتوماً لا يعلمه إلاّ خاصّة أحبارهم ، ومنسياً لا يذكر بين علمائهم ، فلمّا حَكم عليهم به بهتوا ، ويؤيّد ذلك ما ظهر من مرادهم في إنكارهم وجود حكم الرّجم . ففي « صحيح البخاري » أنّهم أنكروا أن يكون حكم الرجم في التّوراة وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم جاء المدراس فأمر بالتّوراة فنشرت فجعل قارئهم يقرأ ويضع يده على آية الرجم وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على ذلك فأمره أن يرفع يده وقرئت آية الرجم واعترف ابنَا صوريا بها . وأيّامّا كان فهذه الحادثة مؤذنة باختلال نظام الشّريعة بين اليهود يومئذٍ وضعف ثقتهم بعلومهم .
ومعنى { لا يحزنك الّذين يسارعون } نهيه عن أن يحصل له إحزانٌ مسند إلى الّذين يسارعون في الكفر . والإحزانِ فِعل الّذين يسارعون في الكفر ، والنّهي عن فعل الغير إنّما هو نهي عن أسبابه ، أي لا تجعلْهم يحْزنونك ، أي لا تهتمّ بما يفعلون ممّا شأنه أن يُدخِل الحزن على نفسك . وهذا استعمال شائع وهو من استعمال المركّب في معناه الكِنائي . ونظيره قولهم : لا أعرفَنَّك تفعل كذا ، أي لا تفعل حتّى أعرفَه . وقولهم : لا أُلفينّك هَهنا ، ولاَ أرَيَنّك هنا .
وإسناد الإحزان إلى الّذين يسارعون في الكفر مجاز عقلي ليست له حقيقة لأنّ الّذين يسارعون سبب في الإحزان ، وأمّا مثير الحزن في نفس المحزون فهو غير معروف في العرف ؛ ولذلك فهو من المجاز الّذي ليست له حقيقة .
وأمّا كون الله هو موجد الأشياء كُلّها فذلك ليس ممّا تترتّب عليه حقيقة ومجاز ؛ إذ لو كان كذلك لكان غالب الإسناد مجازاً عقلياً ، وليس كذلك ، وهذا ممّا يغلط فيه كثير من النّاظرين في تعيين حقيقة عقليّة لبعض موارد المجاز العقلي . ولقد أجاد الشيخ عبد القاهر إذ قال في « دلائل الإعجاز » « اعلم أنّه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التّقدير إذا أنتَ نقلت الفعل إليه صار حقيقة فإنّك لا تجد في قولك : أقدمَني بَلَدَك حقّ لي على فلان ، فاعلاً سوى الحقّ » ، وكذلك في قوله :
وصَيّرني هَوَاكِ وبِي *** لِحَيْني يُضرب المثَل
أنْ تزعم أن له فاعلاً قد نُقل عنه الفعل فجُعل للهوى وللوجه » اهـ . ولقد وَهِمَ الإمام الرازي في تبيين كلام عبد القاهر فطفق يجلب الشّواهد الدّالة على أنّ أفعالاً قد أسندت لفاعل مجازي مع أنّ فاعلها الحقيقي هو الله تعالى ، فإنّ الشّيخ لا يعزب عنه ذلك ولكنّه يبحث عن الفاعل الّذي يسند إليه الفعل حقيقة في عرف النّاس من مؤمنين وكافرين . ويدلّ لذلك قوله : « إذا أنتَ نقلت الفعل إليه » أي أسندتَه إليه .
ومعنى المسارعة في الكفر إظهار آثاره عند أدنى مناسبة وفي كلّ فرصة ، فشبّه إظهاره المتكرّرُ بإسراع الماشي إلى الشيء ، كما يقال : أسرع إليه الشيب ، وقوله : إذا نهي السفيه جرى إليه . وعدّي بفي الدالّة على الظرفية للدلالة على أنّ الإسراع مجاز بمعنى التوغّل ، فيكون ( في ) قرينة المجاز ، كقولهم : أسْرع الفساد في الشيء ، وأسْرع الشيب في رأس فلان . فجعل الكفر بمنزلة الظّرف وجعل تخبّطهم فيه وشدّة ملابستهم إيّاه بمنزلة جولان الشّيء في الظرف جولاناً بنشاط وسرعة . ونظيره قوله { يسارعون في الإثم } [ المائدة : 62 ] ، وقوله : { نسارع لهم في الخيرات } المؤمنون : 56 ) ، { أولئك يسارعون في الخيرات } [ المؤمنون : 61 ] . فهي استعارة متكرّرة في القرآن وكلام العرب . وسيجيء ما هو أقوى منها وهو قوله : { يسارعون فيهم } [ المائدة : 52 ] .
وقوله : { من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم } إلخ بيان للّذين يسارعون في الكفر . والّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون .
وقوله : { ومن الّذين هادوا } معطوف على قوله : { من الّذين قالوا آمنّا } والوقفُ على قوله : { ومن الّذين هادوا } .