( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ، فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا : يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ، مصدقا لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعيالله فليس بمعجز في الأرض ، وليس له من دونه أولياء ، أولئك في ضلال مبين . أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ? بلى إنه على كل شيء قدير ) . .
ومقالة النفر من الجن - مع خشوعهم عند سماع القرآن - تتضمن أسس الاعتقاد الكامل : تصديق الوحي . ووحدة العقيدة بين التوراة والقرآن . والاعتراف بالحق الذي يهدي إليه . والإيمان بالآخرة وما ينتهي إلى المغفرة وما ينتهي إلى العذاب من الأعمال . والإقرار بقوة الله وقدرته على الخلق وولايته وحده للعباد . والربط بين خلق الكون وإحياء الموتى . . وهي الأسس التي تتضمنها السورة كلها ، والقضايا التي تعالجها في سائر أشواطها . . كلها جاءت على لسان النفر من الجن . من عالم آخر غير عالم الإنسان .
ويحسن قبل أن نستعرض هذه المقالة أن نقول كلمة عن الجن وعن الحادثة . .
إن ذكر القرآن لحادث صرف نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وحكاية ما قالوا وما فعلوا . . هذا وحده كاف بذاته لتقرير وجود الجن ، ولتقرير وقوع الحادث . ولتقرير أن الجن هؤلاء يستطيعون أن يستمعوا للقرآن بلفظه العربي المنطوق كما يلفظه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولتقرير أن الجن خلق قابلون للإيمان وللكفران ، مستعدون للهدى وللضلال . . وليس هنالك من حاجة إلى زيادة تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة ؛ فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقررها الله - سبحانه - ثبوتا .
ولكنا نحاول إيضاح هذه الحقيقة في التصور الإنساني .
إن هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار ، حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنها وصفة وأثرا . ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار . نعرف منها القليل ، ونجهل منها الكثير . وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار ، وندرك بعض هذه القوى ، ونتعرف إلى بعض هذه الخلائق تارة بذواتها . وتارة بصفاتها . وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا .
ونحن ما نزال في أول الطريق . طريق المعرفة لهذا الكون ، الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا ويعيش أبناؤنا وأحفادنا ، على ذرة من ذراته الصغيرة الصغيرة . . هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئا يذكر في حجم الكون أو وزنه !
وما عرفناه اليوم - ونحن في أول الطريق - يعد بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن . ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم لظنوه مجنونا ، أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعا !
ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية ، المعدة للخلافة في هذه الأرض ، ووفق مقتضيات هذه الخلافة ، وفي دائرة ما سخره الله لنا ليكشف لنا عن أسراره ، وليكون لنا ذلولا ، كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض . . ولا تتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها وفي مداها - مهما امتد بنا الأجل - أي بالبشرية - ومهما سخر لنا من قوى الكون وكشف لنا من أسراره - لا تتعدى تلك الدائرة . دائرة ما نحتاجه للخلافة في هذه الأرض . وفق حكمة الله وتقديره .
وسنكشف كثيرا ، وسنعرف كثيرا ، وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته ، مما قد تعتبر أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال ! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة . وفي حدود قول الله - سبحانه - ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) . . قليلا بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وقيومه . وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود ، ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) . .
فليس لنا - والحالة هذه - أن نجزم بوجود شيء أو نفيه . وبتصوره أو عدم تصوره . من عالم الغيب المجهول ، ومن أسرار هذا الوجود وقواه ، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي أو تجاربنا المشهودة . ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها ، فضلا على إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا !
وقد تكون هنالك أسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عنه أصلا . وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عن كنهه ، فلا يكشف لنا إلا عن صفته أو أثره أو مجرد وجوده ، لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض .
فإذا كشف الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى ، عن طريق كلامه - لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضا - فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم . نتلقاها كما هي فلا نزيد عليها ولا ننقص منها لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة . وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار !
ومن هذا النص القرآني ، ومن نصوص سورة الجن ، والأرجح أنها تعبير عن الحادث نفسه ، ومن النصوص الأخرى المتناثرة في القرآن عن الجن ، ومن الآثار النبوية الصحيحة عن هذا الحادث ، نستطيع أن ندرك بعض الحقائق عن الجن . . ولا زيادة . .
هذه الحقائق تتلخص في أن هنالك خلقا اسمه الجن . مخلوق من النار . لقول إبليس في الحديث عن آدم : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) . . وإبليس من الجن لقول الله تعالى : ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) . . فأصله من أصل الجن .
وأن هذا الخلق له خصائص غير خصائص البشر . منها خلقته من نار ، ومنها أنه يرى الناس ولا يراه الناس ، لقوله تعالى عن إبليس - وهو من الجن - : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) . .
وأن له تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس . للقول السابق : ( إنه يراكم هو وقبيله . . . ) .
وأن له قدرة على الحياة في هذا الكوكب الأرضي - لا ندري أين - لقوله تعالى : لآدم وإبليس معا : ( اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) . .
والجن الذين سخروا لسليمان عليه السلام كانوا يقومون له بأعمال في الأرض تقتضي أن يكونوا مزودين بالقدرة على الحياة فيها .
وأن له قدرة كذلك على الحياة خارج هذا الكوكب لقول الله تعالى حكاية عن الجن : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . .
وأنه يملك التأثير في إدراك البشر وهو مأذون في توجيه الضالين منهم - غير عباد الله - للنصوص السابقة ، ولقوله تعالى في حكاية حوار إبليس اللعين : ( قال : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) . . وغير هذا من النصوص المماثلة . ولكنا لا نعرف كيف يوسوس ويوجه وبأي أداة .
وأنه يستطيع أن يسمع صوت الإنسان ويفهم لغته ، بدلالة استماع نفر من الجن للقرآن وفهمه والتأثر به .
وأنه قابل للهدى وللضلال بدلالة قول هذا النفر في سورة الجن : ( وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون . فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) . . وبدليل ذهابهم إلى قومهم منذرين يدعونهمإلى الإيمان ، بعدما وجدوه في نفوسهم ، وعلموا أن قومهم لم يجدوه بعد .
وهذا هو القدر المستيقن في أمر الجن ، وهو حسبنا ، بلا زيادة عليه ليس عليها من دليل .
فأما الحادث الذي تشير إليه هذه الآيات ، كما تشير إليه سورة الجن كلها على الأرجح ، فقد وردت فيه روايات متعددة نثبت أصحها :
أخرج البخاري - بإسناده - عن مسدد ، ومسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة . وروى الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة وقال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا إسماعيل القاضي ، أخبرنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " ما قرأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على الجن ولا رآهم . انطلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ . وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ? فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها ، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها ، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء . فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر . فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فهنالك حين رجعوا إلى قومهم : وقالوا يا قومنا ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ) . . وأنزل الله على نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) . . وإنما أوحي إليه قول الجن .
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي - بإسناده - عن علقمة ، قال : قلت لابن مسعود - رضي الله عنه - هل صحب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] منكم أحد ليلة الجن ? قال : ما صحبه أحد منا ولكنا كنا معه ذات ليلة ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب . فقلنا : استطير ، أو اغتيل . فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فلما أصبحنا فإذا هو جاء من قبل حراء . فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال : " أتاني داعي الجن فذهبت معه ، فقرأت عليهم القرآن " . قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . وسألوه الزاد فقال : " لكم كل عظم ذكر اسم الله تعالى عليه ، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم " . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " . .
وقال : ساق ابن إسحاق - فيما رواه ابن هشام في السيرة - خبر النفر من الجن بعد خبر خروج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ، بعد موت عمه أبي طالب ، واشتداد الأذى عليه وعلى المسلمين في مكة . ورد ثقيف له ردا قبيحا ، وإغرائهم السفهاء والأطفال به ، حتى أدموا قدميه [ صلى الله عليه وسلم ] بالحجارة . فتوجه إلى ربه بذلك الابتهال المؤثر العميق الكريم : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي . إلى من تكلني ? إلى بعيد يتجهمني ? أم إلى عدو ملكته أمري ? إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك . لك العتبى حتى ترضى . ولا حول ولا قوة إلا بك " .
قال : ثم إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ، حين يئس من خبر ثقيف . حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي ، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى . وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن نصيبين . فاستمعوا له . فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين . قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا . فقص الله خبرهم عليه [ صلى الله عليه وسلم ] قال الله عز وجل : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن )إلى قوله تعالى : ( ويجركم من عذاب أليم ) . . وقال تعالى : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن )إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة .
ويعقب ابن كثير في التفسير على رواية ابن إسحاق بقوله : ( وهذا صحيح . ولكن قوله : إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر . فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء ، كما دل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور ، وخروجه [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف كان بعد موت عمه . وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره . والله أعلم ) .
وهناك روايات أخرى كثيرة . ونحن نعتمد من جميع هذه الروايات الرواية الأولى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - لأنها هي التي تتفق تماما مع النصوص القرآنية : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) . . وهي قاطعة في أن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إنما علم بالحادث عن طريق الوحي ، وأنه لم ير الجن ولم يشعر بهم . ثم إن هذه الرواية هي الأقوى من ناحية الإسناد والتخريج . وتتفق معها في هذه النقطة رواية ابن إسحاق . كما يقويها ما عرفناه من القرآن من صفة الجن : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) . .
وفي هذا غناء في تحقيق الحادث .
( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ، فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ) . .
لقد كان إذن تدبيرا من الله أن يصرف هؤلاء النفر من الجن إلى استماع القرآن ، لا مصادفة عابرة . وكان في تقدير الله أن تعرف الجن نبأ الرسالة الأخيرة كما عرفت من قبل رسالة موسى ؛ وأن يؤمن فريق منهم وينجو من النار المعدة لشياطين الجن كما هي معدة لشياطين الإنس .
ويرسم النص مشهد هذا النفر - وهم ما بين ثلاثة وعشرة - وهم يستمعون إلى هذا القرآن ، ويصور لنا ما وقع في حسهم منه ، من الروعة والتأثر والرهبة والخشوع . ( فلما حضروه قالوا : أنصتوا ) . . وتلقي هذه الكلمة ظلال الموقف كله طوال مدة الاستماع .
( فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ) . .
وهذه كتلك تصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن . فقد استمعوا صامتين منتبهين حتى النهاية .
وقوله تعالى : { وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن } ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم . و : { صرفنا } معناه : رددناهم عن حال ما ، يحتمل أنها الاستماع في السماء ، ويحتمل أن يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون ، وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء ، فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة ، فضاقت الجن ذرعاً بذلك ، فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك . واختلف الرواة بعد فقالت فرقة : جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهو لا يشعر ، فسمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين ، ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله ، وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ ، وهو يقرأ في صلاة الفجر{[10329]} .
وقالت فرقة : بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك ، ووفد عليه أهل نصيبين منهم{[10330]} .
قال القاضي أبو محمد : والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون أن يعرف بهم ، وهم المتفرقون من أجل الرجم ، وهذا هو قوله تعالى : { قل أوحي إلي }{[10331]} [ الجن : 1 ] ثم بعد ذلك وفد عليه وفد ، وهو المذكور صرفه في هذه الآية{[10332]} . قال قتادة : صرفوا إليه من نينوى ، أشعر به قبل وروده{[10333]} . وقال الحسن : لم يشعر .
واختلف في عددهم اختلافاً متباعداً فاختصرته لعدم الصحة في ذلك ، أما أن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر : كانوا تسعة فيهم زوبعة ، وروي في ذلك أحاديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إني خارج إلى وفد الجن ، فمن شاء يتبعني » ، فسكت أصحابه ، فقالها ثانية ، فسكتوا ، فقال عبد الله أنا أتبعك ، قال فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون ، فأدار لي دائرة وقال لي : لا تخرج منها ، ثم ذهب عني ، فسمعت لغطاً ودوياً كدوي النسور الكاسرة . ثم في آخر الليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ عليهم القرآن وعلمهم وأعطاهم زاداً في كل عظم وروثة ، فقال : يا عبد الله ، ما رأيت ؟ فأخبرته ، فقال : لقد كنت أخشى أن تخرج فيتخطفك بعضهم ، قلت يا رسول الله ، سمعت لهم لغطاً ، فقال : إنهم تدارأوا في قتيل لهم ، فحكمت بالحق . واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود ، وروي عنه ما ذكرنا . وذكر عنه أنه رأى رجالاً من الجن وبهم شبه رجال الزطِّ{[10334]} السود الطوال حين رآهم بالكوفة . وروي عنه أنه قال : ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها .
وقوله : { نفراً } يقتضي أن المصروفين رجالاً لا أنثى فيهم ، والنفر والرهط : القوم الذين لا أنثى فيهم .
وقوله تعالى : { فلما حضروه قالوا أنصتوا } فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرأ جمهور الناس : «قُضِي » على بناء الفعل للمفعول . . وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز : «قضى » على بناء الفعل للفاعل ، أي قضى محمد القراءة .
وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة [ الرحمن ] فكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] قالوا : لا بشيء من آلائك نكذب ، ربنا لك الحمد ، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن . قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم .
قال القاضي أبو محمد : فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباهها{[10335]} صلى الله على محمد عبده ورسوله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مقرّعا كفار قريش بكفرهم بما آمنت به الجنّ:"وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ" يا محمد "نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ "ذكر أنهم صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحادث الذي حدث من رَجْمهم بالشهب... عن سعيد بن جُبير، قال: كانت الجنّ تستمع، فلما رُجِموا قالوا: إن هذا الذي حدث في السماء لِشيء حدث في الأرض، فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم خارجا من سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر، فذهبوا إلى قومهم...
وقوله: "فَلَمّا حَضَرُوهُ" يقول: فلما حضر هؤلاء النفر من الجنّ الذين صرفهم الله إلى رسوله نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف أهل العلم في صفة حضورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال بعضهم: حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتعرّفون الأمر الذي حدث من قبله ما حدث في السماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشعر بمكانهم...
وقال آخرون: بل أمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليهم القرآن، وأنهم جمعوا له بعد أن تقدّم الله إليه بإنذارهم، وأمره بقراءة القرآن عليهم...
وقوله: "فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا" يقول تعالى ذكره: فلما حضروا القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، قال بعضهم لبعض: أنصتوا لنستمع القرآن...
وقوله: "فَلَمّا قُضِيَ" يقول: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القراءة وتلاوة القرآن...
وقوله: "وَلّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ" يقول: انصرفوا منذرين عذاب الله على الكفر به...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الجنِّ كما كان مبعوثاً إلى الإنس. وإن قوماً أتوه ليلة الجن وآمنوا به، ورجعوا إلى قومهم فأخبروهم، وآمن قومٌ منهم، فاليومَ في الجن مؤمنون، وفيهم كافرون...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
وبخ الله عز وجل بهذه الآية كفار قريش بما آمنت به الجن. وفي سبب صرفهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم صُرفوا إليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشهب. روى البخاري ومسلم في "الصحيحين "من حديث ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر، فمر النفر الذين توجهوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ب "نخلة" وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمّعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: {إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد} [الجن: 1-2]. فأنزل الله على نبيه {قُلْ أُوحِي إِلَيّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ} [الجن:1]...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن}: ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما بين أن الإنسي مؤمن وكافر، وذكر أن الجن فيهم مؤمن وكافر...وفيها أيضاً توبيخ لقريش وكفار العرب، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز، فكفروا به، وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن، ومن جنس الرسول الذي أرسل إليهم. وهؤلاء جن، فليسوا من جنسه، وقد أثر فيهم سماع القرآن وآمنوا به وبمن أنزل عليه، وعلموا أنه من عند الله، بخلاف قريش وأمثالها، فهم مصرون على الكفر به...
والذي يجمع اختلاف الروايات، أن قصة الجن كانت مرتين...
إحداهما: حين انصرف من الطائف، وكان خرج إليهم يستنصرهم في قصة ذكرها أصحاب السير...
{والمرة الأخرى}: "أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال: «إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني»، قالها ثلاثاً، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود، قال: لم يحضره أحد ليلة الجن غيري...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإذ} أي واذكر حين {صرفنا إليك} أي وجهنا توجيهاً خالصاً حسناً متقناً فيه ميل إليك وإقبال عليك، وإعراض عن غيرك، بوادي نخلة عند انصرافك من الطائف حين عرضت نفسك الشريفة عليهم بعد موت النصيرين فردوك رداً تكاد تنشق منه المرائر...
{نفراً} وهو اسم يطلق على ما دون العشرة، وهو المراد هنا، ويطلق على الناس كلهم، وحسن التعبير به أن هؤلاء لما خصوا بشرف السبق وحسن المتابعة كانوا كأنهم هم النفر لا غيرهم {من الجن} من أهل نصيبين من الناحية التي منها عداس الذي جبرناك به في الطائف بما شهد به لسيديه عتبة وشيبة ابني ربيعة أنك خير أهل الأرض مع أنه ليس لهؤلاء النفر من جبلاتهم إلا النفرة والاجتنان وهو الاختفاء والستر فجعلناهم ألفين لك ظاهرين عندك لتبلغهم ما أرسلناك به فإنا أرسلناك إلى جميع الخلائق، وهذا جبر لك وبشارة بإيمان النافرين من الإنس كما أيدناك منهم بعد نفرة أهل الطائف بعداس، ثم وصفهم بقوله: {يستمعون القرآن} أي يطلبون سماع الذكر الجامع لكل خير...
{فلما حضروه} أي صاروا بحيث يسمعونه {قالوا} أي قال بعضهم ورضي الآخرون: {أنصتوا} أي اسكتوا و- ميلوا بكلياتكم واستمعوا حفظاً للأدب على بساط الخدمة، وفيه تأدب مع العلم في تعلمه و- أيضاً مع معلمه...
{فلما} أي فأنصتوا فحين {قضي} أي حصل الفراغ من قراءته الدالة على عظمته من أيّ قارئ كان {ولوا} أي أوقعوا التولية -أي القرب- بتوجيه الوجوه والهمم والعزائم {إلى قومهم} الذين فيهم قوة القيام بما يحاولونه، ودل على حسن تقبلهم لما سمعوه ورسوخهم في اعتقاده بقوله تعالى: {منذرين} أي مخوفين لهم ومحذرين عواقب الضلال بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن- عباس رضي الله عنهما: جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
والنفر على المشهور ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال لأنه من النفير والرجال هم الذين إذ حزبهم أمر نفروا لكفايته، والحق أن هذا باعتبار الأغلب فإنه يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح ...
أي واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفراً من الجن مقدراً استماعهم القرآن لعلهم يتنبهون لجهلهم وغلطهم وقبح ما هم عليه من الكفر بالقرآن والإعراض عنه حيث أنهم كفروا به وجهلوا أنه من عند الله تعالى وهم أهل اللسان الذي نزل به ومن جنس الرسول الذي جاء به وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عنده تعالى وآمنوا به وليسوا من أهل لسانه ولا من جنس رسوله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويحسن قبل أن نستعرض هذه المقالة أن نقول كلمة عن الجن وعن الحادثة.. إن ذكر القرآن لحادث صرف نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي [صلى الله عليه وسلم] وحكاية ما قالوا وما فعلوا.. هذا وحده كاف بذاته لتقرير وجود الجن، ولتقرير وقوع الحادث. ولتقرير أن الجن هؤلاء يستطيعون أن يستمعوا للقرآن بلفظه العربي المنطوق كما يلفظه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ولتقرير أن الجن خلق قابلون للإيمان وللكفران، مستعدون للهدى وللضلال.. وليس هنالك من حاجة إلى زيادة تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة؛ فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقررها الله -سبحانه- ثبوتا ...
...وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار! ومن هذا النص القرآني، ومن نصوص سورة الجن، والأرجح أنها تعبير عن الحادث نفسه، ومن النصوص الأخرى المتناثرة في القرآن عن الجن، ومن الآثار النبوية الصحيحة عن هذا الحادث، نستطيع أن ندرك بعض الحقائق عن الجن.. ولا زيادة.. هذه الحقائق تتلخص في أن هنالك خلقا اسمه الجن. مخلوق من النار. لقول إبليس في الحديث عن آدم: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).. وإبليس من الجن لقول الله تعالى: (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه).. فأصله من أصل الجن. وأن هذا الخلق له خصائص غير خصائص البشر. منها خلقته من نار، ومنها أنه يرى الناس ولا يراه الناس، لقوله تعالى عن إبليس -وهو من الجن -: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم).. وأن له تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس. للقول السابق: (إنه يراكم هو وقبيله...). وأن له قدرة على الحياة في هذا الكوكب الأرضي- لا ندري أين -لقوله تعالى: لآدم وإبليس معا: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين).. والجن الذين سخروا لسليمان عليه السلام كانوا يقومون له بأعمال في الأرض تقتضي أن يكونوا مزودين بالقدرة على الحياة فيها. وأن له قدرة كذلك على الحياة خارج هذا الكوكب لقول الله تعالى حكاية عن الجن: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.. وأنه يملك التأثير في إدراك البشر وهو مأذون في توجيه الضالين منهم- غير عباد الله -للنصوص السابقة، ولقوله تعالى في حكاية حوار إبليس اللعين: (قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين).. وغير هذا من النصوص المماثلة. ولكنا لا نعرف كيف يوسوس ويوجه وبأي أداة. وأنه يستطيع أن يسمع صوت الإنسان ويفهم لغته، بدلالة استماع نفر من الجن للقرآن وفهمه والتأثر به. وأنه قابل للهدى وللضلال بدلالة قول هذا النفر في سورة الجن: (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون. فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا).. وبدليل ذهابهم إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى الإيمان، بعدما وجدوه في نفوسهم، وعلموا أن قومهم لم يجدوه بعد. وهذا هو القدر المستيقن في أمر الجن، وهو حسبنا، بلا زيادة عليه ليس عليها من دليل. فأما الحادث الذي تشير إليه هذه الآيات، كما تشير إليه سورة الجن كلها على الأرجح، فقد وردت فيه روايات متعددة نثبت أصحها: أخرج البخاري- بإسناده -عن مسدد، ومسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة. وروى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة وقال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل القاضي، أخبرنا مسدد، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي الله عنهما -قال: "ما قرأ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على الجن ولا رآهم. انطلق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهنالك حين رجعوا إلى قومهم: وقالوا يا قومنا (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا).. وأنزل الله على نبيه [صلى الله عليه وسلم]: (قل: أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن).. وإنما أوحي إليه قول الجن. وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي- بإسناده -عن علقمة، قال: قلت لابن مسعود- رضي الله عنه -هل صحب النبي [صلى الله عليه وسلم] منكم أحد ليلة الجن؟ قال: ما صحبه أحد منا ولكنا كنا معه ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقلنا: استطير، أو اغتيل. فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا فإذا هو جاء من قبل حراء. فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: "أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن". قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وسألوه الزاد فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله تعالى عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم". فقال [صلى الله عليه وسلم] "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم".. وقال: ساق ابن إسحاق- فيما رواه ابن هشام في السيرة -خبر النفر من الجن بعد خبر خروج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، بعد موت عمه أبي طالب، واشتداد الأذى عليه وعلى المسلمين في مكة. ورد ثقيف له ردا قبيحا، وإغرائهم السفهاء والأطفال به، حتى أدموا قدميه [صلى الله عليه وسلم] بالحجارة. فتوجه إلى ربه بذلك الابتهال المؤثر العميق الكريم: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى. ولا حول ولا قوة إلا بك". قال: ثم إن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] انصرف من الطائف راجعا إلى مكة، حين يئس من خبر ثقيف. حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى. وهم- فيما ذكر لي -سبعة نفر من جن نصيبين. فاستمعوا له. فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين. قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. فقص الله خبرهم عليه [صلى الله عليه وسلم] قال الله عز وجل: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن) إلى قوله تعالى: (ويجركم من عذاب أليم).. وقال تعالى: (قل: أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة. ويعقب ابن كثير في التفسير على رواية ابن إسحاق بقوله: (وهذا صحيح. ولكن قوله: إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر. فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، كما دل عليه حديث ابن عباس- رضي الله عنهما -المذكور، وخروجه [صلى الله عليه وسلم] إلى الطائف كان بعد موت عمه. وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره. والله أعلم). وهناك روايات أخرى كثيرة. ونحن نعتمد من جميع هذه الروايات الرواية الأولى عن ابن عباس- رضي الله عنهما -لأنها هي التي تتفق تماما مع النصوص القرآنية: (قل: أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن).. وهي قاطعة في أن الرسول [صلى الله عليه وسلم] إنما علم بالحادث عن طريق الوحي، وأنه لم ير الجن ولم يشعر بهم. ثم إن هذه الرواية هي الأقوى من ناحية الإسناد والتخريج. وتتفق معها في هذه النقطة رواية ابن إسحاق. كما يقويها ما عرفناه من القرآن من صفة الجن: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم).. وفي هذا غناء في تحقيق الحادث. (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا. فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين).. لقد كان إذن تدبيرا من الله أن يصرف هؤلاء النفر من الجن إلى استماع القرآن، لا مصادفة عابرة. وكان في تقدير الله أن تعرف الجن نبأ الرسالة الأخيرة كما عرفت من قبل رسالة موسى؛ وأن يؤمن فريق منهم وينجو من النار المعدة لشياطين الجن كما هي معدة لشياطين الإنس. ويرسم النص مشهد هذا النفر- وهم ما بين ثلاثة وعشرة -وهم يستمعون إلى هذا القرآن، ويصور لنا ما وقع في حسهم منه، من الروعة والتأثر والرهبة والخشوع. (فلما حضروه قالوا: أنصتوا).. وتلقي هذه الكلمة ظلال الموقف كله طوال مدة الاستماع. (فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين).. وهذه كتلك تصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن. فقد استمعوا صامتين منتبهين حتى النهاية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا تأييد للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن سخر الله الجن للإيمان به وبالقرآن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقاً عند الثقلين ومعظَّماً في العالَمَيْن وذلك ما لم يحصل لرسول قبله. والمقصود من نزول القرآن بخبر الجن توبيخ المشركين بأن الجن وهم من عالم آخر عَلِموا القرآن وأيقنوا بأنه من عند الله والمشركون وهم من عالم الإنس ومن جنس الرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث بالقرآن وممن يتكلم بلغة القرآن لم يزالوا في ريب منه وتكذيب وإصرار، فهذا موعظة للمشركين بطريق المضادة لأحوالهم بعد أن جرت موعظتهم بحال مماثليهم في الكفر من جنسهم...
.واذكر إذ صرفنا إليك نفراً من الجن. وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا للمشركين وإن كانوا لا يصدقونه لتسجيل بلوغ ذلك إليهم لينتفع به من يهتدي ولتكتب تبعته على الذين لا يهتدون...
والصرف: البعث. والنفر: عدد من الناس دون العشرين. وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله: {من الجن}...
ولا شك أن الله يسّر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص...