وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير . . حتى تجيء مرحلة العظام . . ( فخلقنا المضغة عظاما )فمرحلة كسوة العظام باللحم : ( فكسونا العظام لحما ) . . وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة التشريحي . ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم . وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين . ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام ، وتمام الهيكل العظمي للجنين . وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني : ( فخلقنا المضغة عظاما ، فكسونا العظام لحما ) . . فسبحان العليم الخبير !
( ثم أنشأناه خلقا آخر ) . . هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة . فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية . ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقا آخر ، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة ، المستعدة للارتقاء . ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان ، مجردا من خصائص الارتقاء والكمال ، التي يمتاز بها جنين الإنسان .
إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد . وهو ينشأ ( خلقا آخر )في آخر أطواره الجنينية ؛ بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص . ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية ، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطورا آليا - كما تقول النظريات المادية - فهما نوعان مختلفان . اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنسانا . واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني ( خلقا آخر ) . إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني ؛ ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه لا يتعداه . ويتحول الإنسان خلقا آخر قابلا لما هو مهيأ له من الكمال . بواسطة خصائص مميزة ، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلى من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان .
( فتبارك الله أحسن الخالقين ) . . وليس هناك من يخلق سوى الله . فأحسن هنا ليست للتفضيل ، إنما هي للحسن المطلق في خلق الله .
( فتبارك الله أحسن الخالقين ) . . الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار ، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف ، حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني ، على أدق ما يكون النظام !
وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه " معجزات العلم " حين يصنع الإنسان جهازا يتبع طريقا خاصا في تحركه ، دون تدخل مباشر من الإنسان . . فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته ، وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها ، وتحولات كاملة في ماهيتها ? غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون ، مغلقي القلوب ، لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب . . وإن مجرد التفكر في أن الإنسان - هذا الكائن المعقد - كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة ؛ وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقا آخر . فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة أخرى . وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة . هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة . . إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب . . .
{ ثم خلقنا النطفة علقة } بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء . { فخلقنا العلقة مضغة } فصيرناها قطعة لحم . { فخلقنا المضغة عظاما } بأن صلبناها . { فكسونا العظام لحما } مما بقي من المضغة أو مما أنبتنا عليها مما يصل إليها ، واختلاف العواطف لتفاوت الاستحالات والجمع لاختلافها في الهيئة والصلابة ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر على التوحيد فيهما اكتفاء باسم الجنس عن الجمع ، وقرئ بإفراد أحدهما وجمع الآخر . { ثم أنشأناه خلقا آخر } وهو صورة البدن أو الروح أو القوى بنفخة فيه أو المجموع ، و { ثم } لما بين الخلقين من التفاوت ، واحتج به أبو حنيفة على أن من غصب بيضة أفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر . { فتبارك الله } فتعالى شأنه في قدرته وحكمته . { أحسن الخالقين } المقدرين تقديرا فحذف المميز لدلالة { الخالقين } عليه .
حرف ( ثم ) في قوله : { ثم خلقنا النطفة علقة } للترتيب الرتْبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجبَ من خلق النطفة إذ قد صُير الماء السائل دَماً جامداً فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عواملَ أودعها الله في الرحم .
ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم العلَقة فإنه وضْع بديع لهذا الاسم إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن له قوة امتصاص القوة من دم الأم بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم ، والعلقة : قطعة من دم عاقد .
والمضغة : القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ . وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلق الجنين .
وعطف جَعل العَلقةِ مُضغةً بالفاء لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء إذ اللحم والدم الجامد متقاربان فتطورهما قريب وإن كان مكث كل طورٍ مدة طويلة .
وخلق المضغة عظاماً هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم ، وقد دل عليه قوله : { فكسونا العظام لحماً } بفاء التفريع على الوجه الذي قرر في عطف { فخلقنا المضغة } بالفاء .
فمعنى { فَكَسَوْنا } أن اللحم كانَ كالكسوة للعظام ولا يقتضي ذلك أن العظام بقيت حيناً غير مكسوة ، وفي الحديث الصحيح : « إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثلَ ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملَك فَيَنْفُخُ فيه الروحَ » الحديث ، فإذا نُفخ فيه الروح فقد تهيأ للحياة والنماء وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى : { ثم أنشأناه خلقاً آخر } لأن الخلق المذكور قبله كان دون حياة ثم نشأ فيه خَلق الحياة وهي حالة أخرى طرأت عليه عبر عنها بالإنشاء .
وللإشارة إلى التفاوت الرتبي بين الخلقين عطف هذا الإنشاء ب ( ثم ) الدالة على أصل الترتيب في عطف الجمل ب ( ثم ) .
وهذه الأطوار التي تعرضت لها الآية سبعة أطوار فإذا تمت فقد صار المتخلِّق حياً ، وفي « شرح الموطأ » : « تناجى رجلان في مجلس عمر بن الخطاب وعليٌّ حاضر فقال لهما عمر : ما هذه المناجاة ؟ فقال أحدهما : إن اليهود يزعمون أن العزل هو الموءودة الصغرى ، فقال علي : لا تكون موءودة حتَّى تمرّ عليها التارات السبع { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الآية ، فقال عُمرُ لعليّ : صدقت أطال الله بقاءك » . فقيل : إن عمر أول من دعا بكلمة « أطال الله بقاءك » .
وقرأ الجمهور { فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام } بصيغة جمع { العظام } فيهما . وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم { عظماً . . والعَظْمَ } بصيغة الإفراد .
وفُرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه { أحسن الخالقين } أي أحسن المنشئين إنشاءً ، لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه .
ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقاً من البركة وهي الزيادة .
وصيغة تفاعَل صيغة مطاوعة في الأصل ، وأصل المطاوعة قبول أثر الفعل ، وتستعمل في لازم ذلك وهو التلبس بمعنى الفعل تلبساً مكيناً لأن شأن المطاوعة أن تكون بعد معالجة الفعل فتقتضي ارتساخ معنى الفعل في المفعول القابل له حتى يصير ذلك المفعول فاعلاً فيقال : كسرته فتكسر ، فلذلك كان تفاعَل إذا جاء بمعنى فَعَل دالاًّ على المبالغة كما صرح به الرضيّ في « شرح الشافية » ، ولذلك تتفق صيغ المطاوعة وصيغ التكلف غالباً في نحو : تثنَّى . وتكبَّرَ ، وتشامخ ، وتقاعس . فمعنى { تبارك الله } أنه موصوف بالعظمة في الخير ، أي عظمةِ ما يقدره من خير للناس وصلاح لهم .
وبهذا الاعتبار تكون الجملة تذييلاً لأن { تبارك } لما حذف متعلقه كان عاماً فيشمل عظمة الخير في الخلق وفي غيره . وكذلك حذف متعلق { الخالقين } يعم خلق الإنسان وخلق غيره كالجبال والسماوات .