فإذا انتهى من تقرير حال الذين كفروا وقولهم التفت إلى " الذين آمنوًا يقرر لهم انفصالهم وتميزهم ؛ ويبين لهم تكاليفهم وواجبهم ؛ ويحدد لهم موقفهم ممن سواهم ؛ ويكلهم إلى حساب الله وجزائه لا إلى أي مغنم في هذه الأرض أو مأرب .
( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، إلى الله مرجعكم جميعا ، فينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
إنه التميز والمفاصلة بينهم وبين من عداهم . ثم إنه التضامن والتواصي فيما بينهم بوصفهم أمة واحدة . ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )
أنتم وحدة منفصلون عمن سواكم ، متضامنون متكافلون فيما بينكم . فعليكم أنفسكم . . عليكم أنفسكم فزكوها وطهروها ؛ وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها ؛ ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم . فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم ؛ وأنتم أمة متضامنة فيما بينها بعضكم أولياء بعض ، ولا ولاء لكم ولا ارتباط بسواكم .
إن هذه الآية الواحدة تقرر مبادى ء أساسية في طبيعة الأمة المسلمة ، وفي طبيعة علاقاتها بالأمم الأخرى .
إن الأمة المسلمة هي حزب الله . ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان . ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن ، لأنه لا اشتراك في عقيدة ؛ ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة ؛ ولا اشتراك في تبعة أو جزاء .
وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها ؛ وأن تتناصح وتتواصى ، وأن تهتدي بهدي الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها . . ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئا أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى .
ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى . والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها . فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة ، وأن تحاول هدايتهم ، وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم ؛ ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم . .
إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت ، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا ، ثم في الأرض جميعا . وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته ؛ وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته . وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت ، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه . . والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولا ؛ وعلى البشرية كلها أخيرا .
وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديما - وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثا - أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إذا اهتدى هو بذاته - ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض - إذا هي اهتدت بذاتها - وضل الناس من حولها .
إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر ، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان - وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته ، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم .
ولقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر - رضي الله عنه - قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . . وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " إن الناس إذا رأوا المنكر ، ولا يغيرونه ، يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه " .
وهكذا صحح الخليفة الأول - رضوان الله عليه - ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة . ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح ، لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق . فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه ، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه !
وكلا والله ! إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد . ولا يصلح إلا بعمل وكفاح . ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه ، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ولتقرير ألوهيةالله في الأرض ، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان ، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس ، وإقامة الناس عليها . . لا بد من جهد . بالحسنى حين يكون الضالون أفرادا ضالين ، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة . وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى ؛ وتعطل دين الله أن يوجد ، وتعوق شريعة الله أن تقوم .
وبعد ذلك - لا قبله - تسقط التبعة عن الذين آمنوا ، وينال الضالون جزاءهم من الله حين يرجع هؤلاء وهؤلاء إليه :
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } أي احفظوها والزموا إصلاحها ، والجار مع المجرور جعل اسما لإلزموا ولذلك نصب أنفسكم . وقرئ بالرفع على الابتداء . { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين ، ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسلام " من رأى منكم منكرا واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه " . والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم ، وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت . و{ لا يضركم } يحتمل الرفع على أنه مستأنف ويؤيده أن قرئ " لا يضيركم " والجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء إتباعا لضمه الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة وتنصره قراءة من قرأ { لا يضركم } بالفتح ، و{ لا يضركم } بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره . { إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } اختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فقال أبو أمية الشعباني سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآيةا فقال : لقد سألت عنها خبيراً ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بُخَويصة نفسك ، وذر عوامهم فإن وراءكم أياماً أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم{[4762]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل الذي لا نظر لأحد معه لأنه مستوف للصلاح صادر عن النبي عليه السلام ، ويظهر من كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض الناس تأول الآية أنها لا يلزم معها أمر بمعروف ونهي عن منكر ، فصعد المنبر فقال أيها الناس لا تغتروا بقول الله { عليكم أنفسكم } فيقول أحدكم عليَّ نفسي ، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فليسومنّكم سوء العذاب{[4763]} ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : ليس هذا بزمان هذه الآية ، قولو الحق ما ُْقِبل منكم ، فإذا ُرَّد عليكم فعليكم أنفسكم{[4764]} ، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : ليبلغ الشاهد الغائب ، ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم ، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل{[4765]} .
قال القاضي أبو محمد : وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين متى ُرجي القبول أو ُرجي رد المظالم ولو بعنف ما لم يخف المرء ضرراً يلحقه في خاصيته أو فتنة يدخلها على المسلمين إما بشق عصا وإما بضرر يلحق طائفة من الناس ، فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم بحكم واجب أن يوقف عنده ، وقال سعيد بن جبير معنى هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } فالتزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف وغيره ، ولا يضركم ضلال أهل الكتاب إذا اهتديتم وقال ابن زيد : معنى الآية : يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين ولا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم ، قال : وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت أباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك .
قال القاضي أبو محمد : ولم يقل أحد فيما علمت أنها آية موادعة للكفار ، وكذلك ينبغي أن لا يعارض أنها شيء مما أمر الله به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف ، قال المهدوي : وقد قيل هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ولا يعلم قائله ، وقال بعض الناس نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم كابن أبي سرح وغيره ، فقيل للمؤمنين لا يضركم ضلالهم ، وقرأ جمهور الناس «لا يضُرُّكم » بضم الضاد وشد الراء المضمومة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «لا يضُرْكم » بضم الضاد وسكون الراء ، وقرأ إبراهيم «لا يضِرك » بكسر الضاد وهي كلها لغات بمعنى ضر يضر وضار يضور وضير ، وقوله تعالى : { إلى الله مرجعكم جميعاً } الآية ، تذكير بالحشر وما بعده ، وذلك مسل عن أمور الدنيا ومكروهها ومحبوبها ، وروي عن بعض الصالحين أنه قال : ما من يوم إلا يجيء الشيطان فيقول : ما تأكل وما تلبس وأين تسكن ؟ فأقول له آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر .
قال القاضي أبو محمد : فمن فكر في مرجعه إلى الله تعالى فهذه حاله .