{ 2 هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب }- وهم يهود بني النضير - { من ديارهم }عند أول إخراج لهم من جزيرة العرب . { ما ظننتم }- أيها المسلمون-{ أن يخرجوا }من ديارهم لقوتهم ، { وظنوا }- هم - { أنهم مانعتهم حصونهم }من بأس الله ، فأخذهم الله من حيث لم يظنوا أن يؤخذوا من جهته ، وألقى في قلوبهم الفزع الشديد ، يخربون بيوتهم بأيديهم ليتركوها خاوية ، وأيدي المؤمنين ليقضوا على تحصنهم ، فاتعظوا بما نزل بهم يا أصحاب العقول .
ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة :
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . والله هو فاعل كل شيء . ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة ، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر ! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون ، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها .
ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية :
( ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) . .
فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه ! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا . وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون !
( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . وقذف في قلوبهم الرعب ) .
أتاهم من داخل أنفسهم ! لا من داخل حصونهم ! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب ، ففتحوا حصونهم بأيديهم ! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم ، ولا يحكمون قلوبهم ، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم ! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم . وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم . فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها . وهكذا حين يشاء الله أمرا . يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر ، وهو يعلم كل شيء ، وهو على كل شيء قدير . فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة ، مما يعرفه الناس ويقدرونه . فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه ، والوسيلة والغاية من خلقه ؛ ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة ، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . . وهو العزيز الحكيم . .
ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم ، ويمكنون المؤمنين من إخرابها :
( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) . .
وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب ، في تلك الصورة الموحية ، وهذه الحركة المصورة . . والله - سبحانه - يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم ؛ ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين .
هنا يجيء أول تعقيب في ظل هذه الصورة ، وعلى إيقاع هذه الحركة :
( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) . .
وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه . والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار .
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر }أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشام وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إليه أو في أول حشر الناس إلى الشام ، وآخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك أو أن نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب ، والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر . { ما ظننتم أن يخرجوا }لشدة بأسهم ومنعتهم ، { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله }أي أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وتغيير النظم وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها ، واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة بسببها ، ويجوز أن تكون حصونهم فاعلا ل مانعتهم { فأتاهم الله }أي عذابه وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء ، وقيل الضمير ل المؤمنين أي فأتاهم نصر الله وقرىء { فآتاهم الله }أي العذاب أو النصر { من حيث لم يحتسبوا }لقوة وثوقهم ، { وقذف في قلوبهم الرعب }وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها { يخربون بيوتهم بأيديهم }ضنا بها على المسلمين وإخراجا لما استحسنوا من آلاتها ، { وأيدي المؤمنين }فإنهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعا لمجال القتال ، وعطفها على أيديهم من حيث أن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه ، والجملة حال أو تفسير ل الرعب وقرأ أبو عمرو { يخربون } بالتشديد وهو أبلغ لما فيه من التكثير ، وقيل الإخراب التعطيل أو ترك الشيء خرابا ، والتخريب الهدم { فاعتبروا يا أولي الأبصار }فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير الله واستدل به على أن القياس حجة من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له على ما قررناه في الكتب الأصولية .
و { الذين كفروا من أهل الكتاب } هم بنو النضير ، وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل موازية في القدر والمنزلة لبني قريظة ، وكان يقال للقبيلتين الكاهنان ، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون ، وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة ، ولهم نخل وأموال عظيمة ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد خرج إلى بني النضير فحاصرهم وأجلاهم على أن يحملوا من أموالهم ما أقلته إبلهم حاشى الحلقة وهي جميع السلاح ، فخرجوا إلى بلاد مختلفة فذلك قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } . وقوله تعالى : { لأول الحشر } اختلف الناس في معنى ذلك بعد اتفاقهم على أن { الحشر } : الجمع والتوجيه إلى ناحية ما . فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : أراد حشر القيامة أي هذا أوله ، والقيام من القبور آخره ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : «امضوا هذا أول الحشر وإنا على الأثر »{[11017]} . وقال عكرمة والزهري وغيرهما : المعنى { لأول }موضع{ الحشر } وهو الشام ، وذلك أن أكثر بني النضير جاءت إلى الشام ، وقد روي أن حشر القيامة هو إلى بلد الشام وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني النضير{[11018]} «اخرجوا » ، قالوا : إلى أين ؟ قال : «إلى أرض المحشر » ، وقال قوم في كتاب المهدوي : المراد { الحشر } في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج ، فهذا الذي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير أوله ، والذي فعل عمر بن الخطاب بأهل خيبر آخره ، وأخبرت الآية بمغيب وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بجلاء أهل خيبر ، ويحتمل أن يكون آخر الحشر في قول النبي عليه السلام في مرضه : «لا يبقين دينان في جزيرة العرب » ، فإن ذلك يتضمن إجلاء بقاياهم قال الخليل في ما حكى الزجاج : سميت جزيرة لأنه أحاط بها بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات ، وفي هذه الإحاطة نظر . وقوله تعالى : { ما ظننتم أن يخرجوا } معناه : لمنعتهم وكثرة عددهم ، فلم تكن آمالكم وظنونكم تنتهي إلى أنهم يخرجون ويدعون أموالهم لكم ، وبحسب ذلك من المنعة والعدد والتحصن ظنوا هم أن لن يقدر عليهم وقوله تعالى : { من الله } يريد : من جند الله حزب الله وقوله تعالى : { فأتاهم الله } عبارة عن إظهاره تعالى المسلمين عليهم وإلقائهم في حيز الهزم والذل .
وقرأ الجمهور : «الرعْب » بسكون العين ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ، بضم العين ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ، فقال الضحاك والزجاج وغيره : كلما هدم المسلمون من حصنهم في القتال هدموا هم من البيوت وخربوا الحصون دأباً فهذا معنى تخريبهم . وقال الزهراوي وغيره كانوا لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل لا يدعون خشبة حسنة ولا نجافاً{[11019]} ولا سارية إلا قلعوه وخربوا البيوت عنه ، وقوله تعالى : { وأيدي المؤمنين } من حيث فعلهم ، وكفرهم داعية إلى تخريب المؤمنين بيوتهم ، فكأنهم قد خربوها هم بأيدي المؤمنين . وقال جماعة من المفسرين : إنهم لما أزمعوا الجلاء شحوا على ترك البيوت سليمة للمؤمنين فهدموا وخربوا لمعنى الإفساد على من يأتي . قال قتادة : خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا وخربوا هم من داخل . وقرأ جمهور القراء : «يخْرِبون » بسكون الخاء وتخفيف الراء . وقرأ أبو عمرو وحده والحسن بخلاف عنه وقتادة وعيسى بفتح الخاء وشد الراء . فقال فريق من العلماء اللغويين القراءتان بمعنى واحد وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب ، معناه : هدم وأفسد وأخرب معناه ترك الموضع خراباً وذهب عنه ، ثم نبه تعالى المؤمنين وغيرهم ممن له أن ينظر على نصرة رسوله وصنعه له فيمن حاده وناوأه بقوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } أي العيون والأفهام .