واستجاب الله دعاء عبده الصالح عيسى بن مريم ؛ ولكن بالجد اللائق بجلاله سبحانه . . لقد طلبوا خارقة . واستجاب الله . على أن يعذب من يكفر منهم بعد هذه الخارقة عذابا شديدا بالغا في شدته لا يعذبه أحدا من العالمين :
( قال الله : إني منزلها عليكم ، فمن يكفر بعد منكم ، فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) . .
فهذا هو الجد اللائق بجلال الله ؛ حتى لا يصبح طلب الخوارق تسلية ولهوا . وحتى لا يمضي الذين يكفرون بعد البرهان المفحم دون جزاء رادع !
وقد مضت سنة الله من قبل بهلاك من يكذبون بالرسل بعد المعجزة . . فأما هنا فإن النص يحتمل أن يكون هذا العذاب في الدنيا ، أو أن يكون في الآخرة .
{ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ } أي : فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها { فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } أي : من عالمي زمانكم ، كقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] ، {[10531]} وكقوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [ النساء : 145 ] .
وقد روى ابن جرير ، من طريق عَوْف الأعرابي ، عن أبي المغيرة القوَّاس ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون . {[10532]}
وجملة { قال الله إنّي منزّلها } جواب دعاء عيسى ، فلذلك فصلت على طريقة المحاورة . وأكّد الخبر ب { إنّ } تحقيقاً للوعد . والمعنى إنّي منزّلها عليكم الآن ، فهو استجابة وليس بوعد .
وقوله : { فَمنْ يكفرْ } تفريع عن إجابة رغبتهم ، وتحذير لهم من الوقوع في الكفر بعد الإيمان إعلاماً بأهمّية الإيمان عند الله تعالى ، فجعل جزاء إجابته إيّاهم أن لا يعودوا إلى الكفر فإن عادوا عُذّبوا عذاباً أشدّ من عذاب سائر الكفَّار لأنّهم تعاضد لديهم دليل العقل والحسّ فلم يبق لهم عُذر .
والضمير المنصوب في قوله { لا أعذّبه } ضمير المصدر ، فهو في موضع المفعول المطلق وليس مفعولاً به ، أي لا أعذّب أحداً من العالمين ذلك العذاب ، أي مثل ذلك العذاب .
وقد وقفت قصّة سؤال المائدة عند هذا المقدار وطُوي خبر ماذا حدث بعد نزولها لأنّه لا أثر له في المراد من القصّة ، وهو العبرة بحال إيمان الحواريَّين وتعلّقهم بما يزيدهم يقيناً ، وبقربهم إلى ربّهم وتحصيل مرتبة الشهادة على من يأتي بعدهم ، وعلى ضراعة المسيح الدالّة على عبوديته ، وعلى كرامته عند ربّه إذْ أجاب دعوته ، وعلى سعة القدرة . وأمّا تفصيل ما حوته المائدة وما دار بينهم عند نزولها فلا عبرة فيه . وقد أكثر فيه المفسَّرون بأخبار واهية الأسانيد سوى ما أخرجه الترمذي في أبواب التفسير عن الحسن بن قزعة بسنده إلى عمّار بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً » الحديث . قال الترمذي : هذا الحديث رواه غير واحد عن عمّار بن ياسر موقوفاً ولا نعرفه مرفوعاً إلاّ من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلاً .
واختلف المفسّرون في أنّ المائدة هل نزلت من السماء أو لم تنزل . فعن مجاهد والحسن أنّهم لمّا سمعوا قوله تعالى : { فَمَن يكفر بعد منكم } الآية خافوا فاستعفوا من طلب نزولها فلم تنزل . وقال الجمهور : نزلت . وهو الظاهر لأنّ قوله تعالى : { إنّي منزّلها عليكم } وعد لا يخلف ، وليس مشروطاً بشرط ولكنه معقّب بتحذير من الكفر ، وذلك حاصل أثره عند الحواريّين وليسوا ممّن يخشى العود إلى الكفر سواء نزلت المائدة أم لم تنزل .
وأمّا النصارى فلا يعرفون خبر نزول المائدة من السماء ، وكم من خبر أهملوه في الأناجيل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.