51- هؤلاء الجاحدون الذين لم يسعوا في طلب الدين الحق ، بل كان دينهم اتِّباع الهوى والشهوات ، فكان لهواً يتلهون به وعبثاً يعبثونه وخدعتهم الحياة الدنيا بزخرفها فظنوها - وحدها - الحياة ، ونسوا لقاءنا ، فيوم القيامة ننساهم ، فلا يتمتعون بالجنة ، ويذوقون النار ، بسبب نسيانهم يوم القيامة ، وجحودهم بالآيات البينات الواضحات المثبتات للحق .
ثم إذا صوت البشر عامة يتوارى ، لينطق رب العزة والجلالة ، وصاحب الملك والحكم :
( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا . وما كانوا بآياتنا يجحدون . ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ، هدى ورحمة لقوم يؤمنون . هل ينظرون إلا تأويله ؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل : قد جاءت رسل ربنا بالحق ، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل . قد خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . .
وهكذا تتوالى صفحات المشهد جيئة وذهوباً . . لمحة في الآخرة ولمحة في الدنيا . لمحة مع المعذبين في النار ، المنسيين كما نسوا لقاء يومهم هذا وكما جحدوا بآيات الله ، وقد جاءهم بها كتاب مفصل مبين . فصله الله - سبحانه - على علم - فتركوه واتبعوا الأهواء والأوهام والظنون . . ولمحة معهم - وهم بعد في الدنيا - ينتظرون مآل هذا الكتاب وعاقبة ما جاءهم فيه من النذير ؛ وهم يُحذّرون أن يجيئهم هذا المآل . فالمآل هو مايرون في هذا المشهد من واقع الحال !
إنها خفقات عجيبة في صفحات المشهد المعروض ؛ لا يجليها هكذا إلا هذا الكتاب العجيب !
وهكذا ينتهي ذلك الاستعراض الكبير ؛ ويجيء التعقيب عليه متناسقاً مع الابتداء . تذكيراً بهذا اليوم ومشاهده ، وتحذيراً من التكذيب بآيات الله ورسله ، ومن انتظار تأويل هذا الكتاب فهذا هو تأويله ، حيث لا فسحة لتوبة ، ولا شفاعة في الشدة ، ولا رجعة للعمل مرة أخرى .
نعم . . هكذا ينتهي الاستعراض العجيب . فنفيق منه كما نفيق من مشهد أخاذ كنا نراه .
ونعود منه إلى هذه الدنيا التي فيها نحن ! وقد قطعنا رحلة طويلة طويلة في الذهاب والمجيء !
إنها رحلة الحياة كلها ، ورحلة الحشر والحساب والجزاء بعدها . . ومن قبل كنا مع البشرية في نشأتها الأولى ، وفي هبوطها إلى الأرض وسيرها فيها !
وهكذا يرتاد القرآن الكريم بقلوب البشر هذه الآماد والأكوان والأزمان . يريها ما كان وما هو كائن وما سيكون . . كله في لمحات . . لعلها تتذكر ، ولعلها تسمع للنذير :
( كتاب أنزل إليك ، فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين . اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ، ولا تتبعوا من دونه أولياء ، قليلاً ما تذكرون ) . .
ثم وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا من اتخاذهم الدين لهوا ولعبا ، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للدار الآخرة .
قوله{[11802]} { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } أي : نعاملهم معاملة من نَسيهم ؛ لأنه تعالى لا يشذ عن{[11803]} علمه شيء ولا ينساه ، كما قال تعالى : { فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } [ طه : 52 ]
وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة ، كما قال : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] وقال : { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [ طه : 126 ] وقال تعالى : { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } [ الجاثية : 34 ]
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في [ قوله ]{[11804]} { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } قال : نسيهم الله من الخير ، ولم ينسهم من الشر .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : نتركهم ، كما تركوا لقاء يومهم هذا . وقال مجاهد : نتركهم في النار . وقال السُّدِّي : نتركهم من الرحمة ، كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا .
وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : " ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذَرْك ترأس وتَرْبَع ؟ فيقول : بلى . فيقول : أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا . فيقول الله : فاليوم أنساك كما نسيتني " {[11805]}
وقوله تعالى : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } الآية ، أضيف «الدين » إليهم من حيث قولهم أن يلتزموه إذ هو دين الله من حيث أمر به ، ودين جميع الناس من حيث أمروا به ، { وغرتهم الحياة الدنيا } يحتمل أن يكون من كلام أهل الجنة ، ويكون ابتداء كلام الله من قوله : { فاليوم } ، ويحتمل أن يكون الكلام من أوله من كلام الله عز وجل ، ومعنى قوله : { اتخذوا دينهم لهواً } أي بالإعراض والاستهزاء لمن يدعوهم إلى الإسلام ، { وغرتهم الحياة الدنيا } أي خدعتهم بزخرفها واعتقادهم أنها الغاية القصوى ، ويحتمل أن يكون اللفظ من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم وأبطرتهم ، وأما قوله { فاليوم ننساهم } فهو من إخبار الله عز وجل عما يفعل بهم ، والنسيان في هذه الآية هو بمعنى الترك ، أي نتركهم في العذاب كما تركوا النظر للقاء هذا اليوم ، قاله ابن عباس وجماعة من المفسرين ، قال قتادة نسوا من الخير ولم ينسوا من الشر ، وإن قدر النسيان بمعنى الذهول من الكفرة فهو في جهة ذكر الله تسمية العقوبة باسم الذنب ، وقوله : { وما كانوا } عطف على «ما » من قوله : { كما نسوا } ويحتمل أن تقدر { ما } الثانية زائدة ويكون قوله : «وكانوا » عطفاً على قوله { نسوا } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.