وليس هذا فحسب . ولكنها خصلة أخرى في يهود ، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنضح بالتحقير والمهانة : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) . . أية حياة ، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق ! حياة فقط ! حياة بهذا التنكير والتحقير ! حياة ديدان أو حشرات ! حياة والسلام ! إنها يهود ، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء . وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة . فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس ، وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة . . أي حياة !
( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، والله بصير بما يعملون ) . .
يود أحدهم لو يعمر ألف سنة . ذلك أنهم لا يرجون لقاء الله ، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة . وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها ، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة . . إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة . نعمة يفيضها الإيمان على القلب . نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني . المحدود الأجل الواسع الأمل وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود ، إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة . فالإيمان بالآخرة - فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق ، وجزائه الأوفى - هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية ، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض ؛ إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق ، الذي لا يعلم إلا الله مداه ، وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صعدا إلى جوار الله .
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } : أي : [ أحرص الخلق على حياة أي ]{[2209]} : على طول عُمْر ، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة ؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم . وما يحذرون{[2210]} واقع بهم لا محالة ، حتى وهم أحرص [ الناس ] {[2211]}من المشركين الذين لا كتاب لهم . وهذا من باب عطف الخاص على العام .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } قال : الأعاجم .
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري ، وقال : صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه . قال : وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي{[2212]} . وقال الحسن البصري : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } قال : المنافق أحرص الناس على حياة ، وهو أحرص على الحياة من المشرك { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } أي : أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق .
وقال أبو العالية : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } يعني : المجوس ، وهو يرجع إلى الأول .
{ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو كقول الفارسي : " زه هزارسال " يقول : عشرة آلاف سنة . وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضًا .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال : سمعت أبي يقول : حدثنا أبو حمزة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو الأعاجم : " هزارسال نوروزر مهرجان " .
وقال مجاهد : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : حببت إليهم الخطيئة طول العمر .
قال محمد بن إسحاق ، عن محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } أي : ما هو بمنجيه من العذاب . وذلك أن المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة{[2213]} وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما صنع{[2214]} بما عنده من العلم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } قال : هم الذين عادوا جبريل .
وقال أبو العالية وابن عمر{[2215]} فما ذاك بمغيثه{[2216]} من العذاب ولا منجيه منه .
وقال عبد الرحمن بن زيد{[2217]} بن أسلم [ في هذه الآية ]{[2218]} يهود أحرص على [ هذه ]{[2219]} الحياة من هؤلاء ، وقد ود هؤلاء أن{[2220]} يعمر أحدهم ألف سنة ، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر ، كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا .
{ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : خبير بما يعمل عباده من خير وشر ، وسيجازي كل عامل بعمله .
{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } من وجد بعقله الجاري مجرى علم ، ومفعولاه هم وأحرص الناس ، وتنكير حياة لأنه أريد بها فرد من أفرادها وهي : الحياة المتطاولة ، وقرئ باللام . { ومن الذين أشركوا } محمول على المعنى وكأنه قال : أحرص من الناس على الحياة ومن الذين أشركوا . وإفراده بالذكر للمبالغة ، فإن حرصهم شديد إذ لم يعرفوا إلا الحياة العاجلة ، والزيادة في التوبيخ والتقريع ، فإنهم لما زاد حرصهم -وهم مقرون بالجزاء على حرص المنكرين- دل ذلك على علمهم بأنهم صائرون إلى النار ، ويجوز أن يراد وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف أحرص لدلالة الأول عليه ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف صفته { يود أحدهم } على أنه أريد بالذين أشركوا اليهود لأنهم قالوا : { عزير ابن الله } أي : ومنهم ناس يود أحدهم ، وهو على الأولين بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف . { لو يعمر ألف سنة } حكاية لودادتهم ، ولو بمعنى ليت وكان أصله : لو أعمر ، فأجرى على الغيبة لقوله : يود ، كقولك حلف بالله ليفعلن { وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } الضمير لأحدهم ، وأن يعمر فاعل مزحزحه ، أي وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره ، أو لما دل عليه يعمر . وأن يعمر بدل منه . أو منهم ، وأن يعمر موضحه وأصل سنة سنوة لقولهم سنوات . وقيل سنهة كجبهة لقولهم سانهته وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون ، والزحزحة التبعيد { والله بصير بما يعملون } فيجازيهم .
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }( 96 )
«وجد » في هذا المعنى تتعدى إلى مفعولين لأنها من أفعال النفس( {[976]} ) ، ولذلك صح تعديها إلى ضمير المتكلم في قول الشاعر :
تَلَفَّتُّ نحو الحيِّ حتَّى وجدتُني . . . وَجِعْتُ من الإصغاءِ لِيتاً وأخدعا( {[977]} )
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الضب : «إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه »( {[978]} ) ، وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم وأن لا خير لهم عند الله تعالى .
وقوله تعالى : { ومن الذين أشركوا }( {[979]} ) قيل المعنى وأحرص من الذين أشركوا ، لأن مشركي العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا ، ألا ترى إلى قول امرىء القيس [ الطويل ] :
تمتّعْ من الدنيا فإنك فان( {[980]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والضمير في { أحدهم } يعود في هذا القول على اليهود ، وقيل إن الكلام تم في قوله { حياة } ، ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين أنهم { يود أحدهم } وهي المجوس ، لأن تشميتهم للعاطس لفظ بلغتهم معناه «عِشْ ألف سنة »( {[981]} ) فكأن الكلام : ومن المشركين قوم { يود أحدهم } ، وفي هذا القول تشبيه بني إسرئيل بهذه الفرقة من المشركين ، وقصد «الألف » بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب .
وقوله تعالى : { وما هو بمزحزحه } : اختلف النحاة في { هو } ، فقيل هو ضمير الأحد المتقدم الذكر ، فالتقدير وما أحدهم بمزحزحه وخبر الابتداء في المجرور ، و { أن يعمر } فاعل بمزحزح( {[982]} ) ، وقالت فرقة هو ضمير التعمير ، والتقدير وما التعمير بمزحزحه والخبر في المجرور ، { أن يعمر } بدل من التعمير في هذا القول ، وقالت فرقة { هو } ضمير الأمر والشأن ، وقد رد هذا القول بما حفظ عن النحاة من أن الأمر والشأن إنما يفسر بجملة سالمة من حرف جر ، وقد جوز أبو علي ذلك( {[983]} ) في بعض مسائله الحلبيات( {[984]} ) ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت هو عماد( {[985]} ) ، وقيل { ما } عاملة حجازية و { هو } اسمها والخبر في { بمزحزحه } ، والزحزحة الإبعاد والتنحية .
وفي قوله { والله بصير بما يعملون } وعيد ، والجمهور على قراءة «يعملون » بالياء من أسفل ، وقرأ قتادة والأعرج ويعقوب «تعملون » بالتاء من فوق ، وهذا على الرجوع إلى خطاب المتوعدين من بني إسرائيل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا}، أي: وأحرص الناس على الحياة من الذين أشركوا، أي مشركي العرب.
{لو يعمر} في الدنيا {ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} فيها
{والله بصير بما يعملون} فأبوا أن يتمنوه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله جل ثناؤه: {وَلَتَجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ على حَياةٍ} اليهود؛ يقول: يا محمد لتجدن أشدّ الناس حرصا على الحياة في الدنيا وأشدّهم كراهة للموت اليهود... وإنما كراهتهم الموت لعلمهم بما لهم في الاَخرة من الخزي والهوان الطويل.
{وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا}: وأحرص من الذين أشركوا على الحياة، كما يقال: هو أشجع الناس ومن عنترة، بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة، فكذلك قوله: {وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا} لأن معنى الكلام: ولتجدنّ يا محمد اليهود من بني إسرائيل أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا. فلما أضيف «أحرص» إلى «الناس»، وفيه تأويل «من» أظهرت بعد حرف العطف ردّا على التأويل الذي ذكرناه.
وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة لعلمهم بما قد أعدّ لهم في الاَخرة على كفرهم بما لا يقرّ به أهل الشرك، فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث لأنهم يؤمنون بالبعث، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب، وأن المشركين لا يصدّقون بالبعث، ولا العقاب. فاليهود أحرص منهم على الحياة وأكره للموت.
وقيل: إن الذين أشركوا الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة هم المجوس الذين لا يصدّقون بالبعث.
{يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ}: هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا، الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة، يقول جل ثناؤه: يودّ أحد هؤلاء الذين أشركوا إلا بعد فناء دنياه وانقضاء أيام حياته أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور لو يعمر ألف سنة حتى جعل بعضهم تحية بعض عشرة آلاف عام حِرْصا منهم على الحياة... عن قتادة في قوله: {يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ} قال: حُببت إليهم الخطيئة طول العمر.
{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ}: وما التعمير -وهو طول البقاء- بمُزَحْزِحه من عذاب الله... كأنه قال: يودّ أحدهم لو يعمر ألف سنة، وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب.
وقد قال قوم من أهل التأويل: إن «أن» التي في قوله: «أن يعمر» بمعنى: وإن عمّر، وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف.
" بِمُزَحْزِحِهِ": بمبعده ومُنَحّيه...فتأويل الآية: وما طول العمر بمبعده من عذاب الله ولا منحيه منه لأنه لا بد للعمر من الفناء ومصيره إلى الله... "بِمُزَحْزِحِهِ": فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجّيه.
{واللّهُ بَصِير بِمَا يَعْمَلُونَ}: والله ذو إبصار بما يعملون، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، بل هو بجميعها محيط ولها حافظ ذاكر حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها. وأصل "بصير "مبصر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والله بصير بما يعملون} هو على الوعيد أيضا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال بعض المفسرين: ان تأويل قوله: {لتجدنهم أحرص الناس على حياة} أي: من الناس أجمع، ثم قال وأحرص من الذين أشركوا على وجه التخصيص، لأن من لا يؤمن بالبعث والنشور، يكون حرصه على البقاء في الدنيا أكثر ممن يعتقد الثواب والعقاب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
حُبُّ الحياة في الدنيا نتيجة الغفلة عن الله، وأشد منه غفلة أَحبُّهم للبقاء في الدنيا.. وحالُ المؤمن من هذا على الضدِّ. وأما أهل الغفلة وأصحاب التهتك فإنما حرصهم على الحياة لعلمهم بما فقدوا فيها من طاعتهم؛ فالعبد الآبِق لا يريد رجوعاً إلى سَيِّده. والانقلابُ إلى مَنْ هو خيرُه مَرجوٌ خيرٌ للمؤمنين من البقاء مع مَنْ شَرُّه غيرُ مأمون، ثم إن امتداد العمر مع يقين الموت لا قيمة له إذا فَاجَأ الأمرُ وانقطع العُمْرُ. وكلُّ ما هو آتٍ فقريب، وإذا انقضت المُدَّةُ فلا مردَّ لهجوم الأجل على أكتاف الأمل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم قال: {على حياة} بالتنكير؟ قلت: لأنه أراد حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبيّ «على الحياة»
{وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس: أحرص من الناس.
فإن قلت: ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس؟ قلت: بلى، ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد... وفيه توبيخ عظيم: لأنّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقرّ بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ.
وليس المراد من ذكر ألف سنة قول الأعاجم عش ألف سنة، بل المراد به التكثير وهو معروف في كلام العرب.
[و] اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت أخبر في هذه الآية أنهم في غاية الحرص على الحياة لأن ههنا قسما ثالثا وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنى الموت ولا يتمنى الحياة فقال: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة}...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
{والله بصير بما يعملون} أي بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمر ألف سنة فالتقدير عنده؛ قل لهم يا محمد الله بصير بما تعملون. وقال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور. والبصير في كلام العرب: العالم بالشيء الخبير به.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
هذا المعنى وإن كان موجوداً في الحول والعام والحجة غير أن مأخذ الاشتقاق ملاحظ في الجملة، فلبلاغة القرآن لا يطلق واحد من هذه الألفاظ إلا فيما يناسب السياق من أصل اشتقاق هذه الألفاظ، فهذا السياق لما كان المراد به ذمهم بتهالكهم على بقائهم في الدنيا على أي حالة كانت علماً منهم بأنها ولو كانت أسوأ الأحوال خير لهم مما بعد الموت لتحقق شقائهم، عبر بما منه الإسنات وهو القحط وسوء الزمان. أو ما منه الدوران الذي فيه كد وتعب إن كان أصلها من سنا يسنو إذا دار حول البئر قال السهيلي في الروض: وقد تسمى السنة داراً في الخبر: إن بين آدم ونوح ألف دار -أي سنة، ثم قال: فتأمل هذا فإن العلم بتنزيل الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها يفتح باباً من العلم بإعجاز القرآن والله المستعان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين حقيقة حالهم في الإخلاد إلى الأرض، والفناء في حب البقاء وأنهم ليسوا على بينة مما يدعون، ولا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون، فقال {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} كذلك كانوا وكذلك هم الآن. والظاهر من سيرتهم ونظام معيشتهم أنهم كذلك يكونون إلى ما شاء الله وإن كان الظاهر أن الكلام خاص بمن كانوا في عصر التنزيل يحاجهم النبي صلى الله عليه وسلم ويشاغبونه ويجاحدونه، معتزين بشعبهم مغترين بكتابهم، بل ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد علماؤهم فقط.
{يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} أي يتمنى لو يعمره الله ويبقيه ألف سنة، أو أكثر، فإن لفظ الألف عند العرب منتهى أسماء العدد فيعبر به عن المبالغة في الكثرة لأنه يعرف من نفسه أنه مخالف لكتابه ويتوقع سخط الله وعقابه فيرى أن الدنيا على ما فيها من المنغصات خير له من الآخرة وما يتوقعه فيها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وليس هذا فحسب. ولكنها خصلة أخرى في يهود، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنضح بالتحقير والمهانة:
(ولتجدنهم أحرص الناس على حياة).. أية حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق! حياة فقط! حياة بهذا التنكير والتحقير! حياة ديدان أو حشرات! حياة والسلام! إنها يهود، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء. وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة. فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس، وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة.. أي حياة!