7 - واعلموا - أيها المؤمنون - أن فيكم رسول الله فاقْدروه حق قدْره واصْدقوه ، لو يطيع ضعاف الإيمان منكم في كثير من الأمور ، لوقعتم في المشقة والهلاك ، ولكن الله حبَّب في الكاملين منكم الإيمان ، وزيَّنه في قلوبكم ، فتصَونوّا عن تزيين ما لا ينبغي ، وبغَّض إليكم جحود نعم الله ، والخروج عن حدود شريعته ومخالفة أوامره ، أولئك هم - وحدهم - الذين عرفوا طريق الهدى وثبتوا عليه تفضلا كريماً ، وإنعاماً عظيماً من الله عليهم ، والله محيط علمه بكل شيء ، ذو حكمة بالغة في تدبير كل شأن .
ويبدو أنه كان من بعض المسلمين اندفاع عند الخبر الأول الذي نقله الوليد بن عقبة ، وإشارة على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يعجل بعقابهم . وذلك حمية من هذا الفريق لدين الله وغضبا لمنع الزكاة . فجاءت الآية التالية تذكرهم بالحقيقة الضخمة والنعمة الكبيرة التي تعيش بينهم ليدركوا قيمتها وينتبهوا دائما لوجودها :
( واعلموا أن فيكم رسول الله ) . .
وهي حقيقة تتصور بسهولة لأنها وقعت ووجدت . ولكنها عند التدبر تبدوا هائلة لا تكاد تتصور ! وهل من اليسير أن يتصور الإنسان أن تتصل السماء بالأرض صلة دائمة حية مشهودة ؛ فتقول السماء للأرض ؛ وتخبر أهلها عن حالهم وجهرهم وسرهم ، وتقوم خطاهم أولا بأول ، وتشير عليهم في خاصة أنفسهم وشؤونهم . ويفعل أحدهم الفعلة ويقول أحدهم القولة ، ويسر أحدهم الخالجة ؛ فإذا السماء تطلع ، وإذا الله - جل جلاله - ينبئ رسوله بما وقع ، ويوجهه لما يفعل وما يقول في هذا الذي وقع . . إنه لأمر . وإنه لنبأ عظيم . وإنها لحقيقة هائلة . قد لا يحس بضخامتها من يجدها بين يديه . ومن ثم كان هذا التنبيه لوجودها بهذا الأسلوب : ( واعلموا أن فيكم رسول الله ) . . اعلموا هذا وقدروه حق قدره ، فهو أمر عظيم .
ومن مقتضيات العلم بهذا الأمر العظيم أن لا يقدموا بين يدي الله ورسوله . ولكنه يزيد هذا التوجيه إيضاحا وقوة ، وهو يخبرهم أن تدبير رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لهم بوحي الله أو إلهامه فيه الخير لهم والرحمة واليسر . وأنه لو أطاعهم فيما يعن لهم أنه خير لعنتوا وشق عليهم الأمر . فالله أعرف منهم بما هو خير لهم ، ورسوله رحمة لهم فيما يدبر لهم ويختار :
( لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ) . .
وفي هذا إيحاء لهم بأن يتركوا أمرهم لله ورسوله ، وأن يدخلوا في السلم كافة ، ويستسلموا لقدر الله وتدبيره ، ويتلقوا عنه ولا يقترحوا عليه .
ثم يوجههم إلى نعمة الإيمان الذي هداهم إليه ، وحرك قلوبهم لحبه ، وكشف لهم عن جماله وفضله ، وعلق أرواحهم به ؛ وكره إليهم الكفر والفسوق والمعصية ، وكان هذا كله من رحمته وفيضه :
( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ؛ وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان . أولئك هم الراشدون . فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم ) . .
واختيار الله لفريق من عباده ، ليشرح صدورهم للإيمان ، ويحرك قلوبهم إليه ، ويزينه لهم فتهفو إليه أرواحهم ، وتدرك ما فيه من جمال وخير . . هذا الاختيار فضل من الله ونعمة ، دونها كل فضل وكل نعمة . حتى نعمة الوجود والحياة أصلا ، تبدو في حقيقتها أقل من نعمة الإيمان وأدنى ! وسيأتي قوله تعالى : ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان )فنفصل القول إن شاء الله في هذه المنة .
وقوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ } أي : اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظِّموه ووقروه ، وتأدبوا معه ، وانقادوا لأمره ، فإنه أعلم بمصالحكم ، وأشفق عليكم منكم ، ورأيه فيكم أتمّ من رأيكم لأنفسكم ، كما قال تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] .
ثم بَيَّن [ تعالى ]{[27074]} أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ } أي : لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحَرَجكم ، كما قال تعالى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ } [ المؤمنون : 71 ] .
وقوله : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم .
قال{[27075]} الإمام أحمد : حدثنا بَهْز ، حدثنا علي بن مَسْعَدة ، حدثنا قتادة ، عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الإسلام علانية ، والإيمان في القلب " قال : ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ، ثم يقول : " التقوى هاهنا ، التقوى هاهنا " {[27076]} .
{ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } أي : وبغض إليكم الكفر والفسوق ، وهي : الذنوب الكبار . والعصيان وهي جميع المعاصي . وهذا تدريج لكمال النعمة .
وقوله : { أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } أي : المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون ، الذين قد آتاهم الله رشدهم .
قال{[27077]} الإمام أحمد : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي ، عن ابن رفاعة الزرقي ، عن أبيه قال : لما كان يوم أحد{[27078]} وانكفأ المشركون ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استووا حتى أثني على ربي ، عز وجل " فصاروا خلفه صفوفًا ، فقال : " اللهم لك الحمد كله . اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مُضل لمن هديت . ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت . ولا مقرب لما باعدت ، ولا مباعد لما قربت . اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك . اللهم ، إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول . اللهم إني أسألك النعيم يوم العَيْلَة ، والأمن يوم الخوف . اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا ، ومن شر ما منعتنا . اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين . اللهم ، توفنا مسلمين ، وأحينا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين . اللهم ، قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك . اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ، إله الحق " .
ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب ، عن مَرْوَان بن معاوية ، عن عبد الواحد بن أيمن ، عن عُبَيْد بن رِفاعة ، عن أبيه ، به{[27079]} .
وفي الحديث المرفوع : " من سرته حسنته ، وساءته سيئته ، فهو مؤمن " {[27080]} .
{ واعلموا أن فيكم رسول الله } أن بما في حيزه ساد مسد مفعولي اعلموا باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله : { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } فإنه حال من أحد ضميري فيكم ، ولو جعل استئنافا لم يظهر للأمر فائدة . والمعنى أن فيكم رسول الله على حال يجب تغييرها وهي أنكم تريدون أن يتبع رأيكم في الحوادث ، ولو فعل ذلك { لعنتم } أي لوقعتم في الجهد من العنت ، وفيه إشعار بأن بعضهم أشار إليه بالإيقاع ببني المصطلق وقوله : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } استدراك ببيان عذرهم ، وهو أنه من فرط حبهم للإيمان وكراهتهم للكفر حملهم على ذلك لما سمعوا قول الوليد ، أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إحمادا لفعلهم وتعريضا بذم من فعل ويؤيده قوله : { أولئك هم الراشدون } أي أولئك المستثنون هم الذين أصابوا الطريق السوي ، { وكره } يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد فإذا شدد زاد له آخر ، لكنه لما تضمن معنى التبعيض نزل كره منزلة بغض فعدي إلى آخر بإلى ، أو نزل إليكم منزلة مفعول آخر . و{ الكفر } : تغطية نعم الله بالجحود . { والفسوق } : الخروج عن القصد { والعصيان } : الامتناع عن الانقياد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم} يقول: لو أطاعكم النبي صلى الله عليه وسلم حين انتدبتم لقتالهم {في كثير من الأمر لعنتم} يعني لأثمتم في دينكم.
ثم ذكرهم النعم، فقال: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان} يعني التصديق {وزينه في قلوبكم} للثواب الذي وعدكم {وكره إليكم الكفر والفسوق} يعني الإثم {والعصيان} يعني بغض إليكم المعاصي للعقاب الذي وعد أهله فمن عمل بذلك منكم وترك ما نهاه عنه {أولئك هم الراشدون} يعني المهتدين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لأصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله،" أنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ "فاتقوا الله أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإن الله يخبره أخباركم، ويعرّفه أنباءكم، ويقوّمه على الصواب في أموره.
وقوله: "لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ" يقول تعالى ذكره: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في الأمور بآرائكم ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم "لَعَنِتّمْ" يقول: لنالكم عنت، يعني الشدّة والمشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم لأنه كان يخطئ في أفعاله كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق: إنهم قد ارتدّوا، ومنعوا الصدقة، وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وأصاب من دمائهم وأموالهم كان قد قتل، وقتلتم من لا يحلّ له ولا لكم قتله، وأخذ وأخذتم من المال ما لا يحلّ له ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين، فنالكم من الله بذلك عنت.
"وَلَكِنّ اللّهَ حَبّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ" بالله ورسوله، فأنتم تطيعون رسول الله، وتأتمون به فيقيكم الله بذلك من العنت ما لو لم تطيعوه وتتبعوه، وكان يطيعكم لنالكم وأصابكم.
وقوله: "وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ" يقول: وحسن الإيمان في قلوبكم فآمنتم.
"وكَرّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ" بالله "وَالفُسُوقَ" يعني الكذب، "والعِصْيانَ" يعني ركوب ما نهى الله عنه في خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضييع ما أمر الله به. "أُولَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ" يقول: هؤلاء الذين حبّب الله إليهم الإيمان، وزيّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون السالكون طريق الحقّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واعلموا أن فيكم رسول الله} يحتمل وجوها:
أحدها: أُرسل إليكم ليُزيل عنكم إشكالكم وشبهاتكم، فلا عذر لكم في الكفر واعتراض الشُّبه لكم بما تقدرون أن تسألوه ما أشكل عليكم، واشتبه، فيُخبركم بذلك، فيُزيل الشُّبه عنكم.
والثاني: يحتمل: {واعلموا أن فيكم رسول الله} يُطلع الله تعالى إياه على ما تُضمرون في أنفسكم وما تولّدون من الأخبار التي لا أصل لها، ولا أثر، ما لو ظهر ذلك لافتضحتم، وهو صلة ما ذكر من قوله: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا} والله أعلم. والثالث: يحتمل أن فيكم رسول الله تسألونه ما أشكل عليكم، فيُخبركم بالحق والأمر على حقيقته كي لا تُصيبوا قوما بجهالة، والله أعلم. والرابع: يحتمل أن يكون قوله {واعلموا أن فيكم رسول الله} فإليه الرأي والتدبير في الأمور، ومن رأيه وتدبيره يجب أن تُصدروا لا عن رأي أنفسكم وتدبيركم. وعلى ذلك يخرج قوله تعالى: {وكيف تكفرون وأنتم تُتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله} [آل عمران: 101] على الوجوه التي ذكرهما، والله أعلم.
وقوله تعالى: {لو يُطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم} أي لو يطيعكم في ما تدعو إليه أنفسكم من التمويهات والشُّبهات وهواها، أو يقول: لو يطيعكم في الصدور عن رأيكم تدبيركم في الأمور لعنتّم.
ثم قوله: {ولكن الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان} هذا في الظاهر كأنه غير موصول بقوله: {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم} لأنه لا يليق ذلك إلا على الإضمار؛ كأنه يقول: {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم} وإن الله قد أرسله إليكم رسولا، وحبّب إليكم الإيمان به، وزيّنه في قلوبكم حتى صار هو في قلوبكم أحب من أنفسكم ومن كل شيء. فالواجب عليكم أن تصرِفوا الأمر إلى رأيه وتدبيره، وأن تصدروا عن رأيه، ولا تعتمدوا على رأي أنفسكم وتدبيركم، والله أعلم. ويحتمل ألا تدعوه إلى أن يطيعكم في ما تهوى بكم أنفسكم ما شبّهت بعد ما حبّب الإيمان به إليكم، وزيّنه في قلوبكم، وكرّه إليكم الكفر وما ذكر، والله أعلم بحقيقة جهته وصلة هذا بالأول.
أحدهما: {لو يطيعكم} الرسول {في كثير من الأمر لعنتّم}: اللهُ تعالى ألزمكم طاعته في كل أمر، فأطيعوه، ولا تطلبوا منه طاعته إياكم في الأمور، ولكن أطيعوه أنتم في الأمور كلها، وقد {حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق} والخروج عن أمره {والعِصيان}.
والثاني: يشبه أن يكون موصولا بقوله تعالى: {إن الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} [الحجرات: 3].
ثم قوله عز وجل: {أولئك هم الراشدون} كأنه يقول: {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} وحبّب إليه الإيمان، وزيّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان {أولئك هم الراشدون}. أخبر، وشهِد لهم بالرشاد، وأخبر أن ذلك فضل منه إليهم ونعمة لا بشيء كان منهم استوجب ذلك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"واعلموا" معاشر المؤمنين "أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم" ومعناه لو فعل ما تريدونه في كثير من الأمور "لعنتم" أي أصابكم عنت ومكروه...
وسمي موافقته لما يريدونه طاعة لهم مجازا لأن الطاعة يراعى فيها الرتبة، فلا يكون المطيع مطيعا لمن دونه، وإنما يكون مطيعا لمن فوقه إذا فعل ما أمره به... وقوله "ولكن الله حبب اليكم الايمان" بما وعد من استحقاق الثواب عليه "وزينه في قلوبكم" بنصب الأدلة على صحته "وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان" بما وصفه من العقاب عليه...
وفي الآية دلالة على أن أضداد الإيمان ثلاثة كفر وفسوق وعصيان. ثم قال "أولئك" يعني الذين وصفهم الله بالإيمان، وزين الإيمان في قلوبهم وأنه كره إليهم الفسوق وغيره "هم الراشدون" أي المهتدون إلى طريق الحق الذين أصابوا الرشد...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي لو وافقكم محمدٌ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في كثير مما تطلبون من لوقعتم في العَنَتِ -وهو الفساد... والرسول صلوات الله عليه لا يطيعكم في أكثر الأمور إذا لم يَرَ في ذلك مصلحة لكم وللدين.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ}: الإسلام والطاعة والتوحد، وزيَّنَها في قلوبكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{واعلموا أن فيكم رسول الله} توبيخ للكذبة ووعيد للفضيحة، أي فليفكر الكاذب في أن الله عز وجل يفضحه على لسان رسوله؛ ثم قال: {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} أي لشقيتم وهلكتم، والعنت: المشقة، أي لو يطيعكم أيها المؤمنون في كثير مما ترونه باجتهادكم وتقدمكم بين يديه.
وقوله تعالى: {ولكن الله حبب إليكم} الآية كأنه قال: ولكن الله أنعم بكذا وكذا، وفي ذلك كفاية وأمر لا تقومون بشكره فلا تتقدموا في الأمور، واقنعوا بإنعام الله عليكم، وحبب الله تعالى الإيمان وزينه بأن خلق في قلوب المؤمنين حبه وحسنه، وكذلك تكريه الكفر والفسق والعصيان، وحكى الرماني عن الحسن أنه قال: حبب الإيمان بما وصف من الثواب عليه وكره الثلاثة المقابلة للإيمان بما وصف من العقاب عليها.
وقوله تعالى: {أولئك هم الراشدون} رجوع من الخطاب إلى ذكر الغيب، كأنه قال: ومن فعل هذا وقبله وشكر عليه فأولئك هم الراشدون...
لو قال قائل: إذا كان المراد بقوله {واعلموا أن فيكم رسول الله} الرجوع إليه والاعتماد على قوله، فلم لم يقل بصريح اللفظ فتبينوا وراجعوا النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما الفائدة في العدول إلى هذا المجاز؟ نقول الفائدة زيادة التأكيد...
{واعلموا أن فيكم رسول الله} يعني لا يخفى عليكم وجوب مراجعته، فإن كان خفي عليكم كونه فيكم، فاعلموا أنه فيكم فيجعل حسن المراجعة أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم...
{في كثير من الأمر} ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقا لفائدة قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} ....
... {حبب إليكم} أي قربه وأدخله في قلوبكم ثم زينه فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم، وهذا لأن من يحب أشياء فقد يمل شيئا منها إذا حصل عنده وطال لبثه والإيمان كل يوم يزداد حسنا، ولكن من كانت عبادته أكثر وتحمله لمشاق التكليف أتم، تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل، ولهذا قال في الأول: {حبب إليكم} وقال ثانيا: {وزينه في قلوبكم} كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{واعلموا} أي أيها الأمة، وقدم الخبر إيذاناً بأن بعضهم باعتراضه أو بإقدامه على ما لا علم له به يعمل عمل من لا يعلم مقدار ما خصه الله به من إنعامه عليه به صلى الله عليه وسلم، فهو يفيد توبيخ من فعل ذلك: {أن فيكم} أي- على وجه الاختصاص لكم ويا له من شرف {رسول الله} أي الملك الأعظم المتصف بالجلال والإكرام على حال هي أنكم تريدونه أن- يتبع أذاكم، وذلك أمر شنيع جداً، فإنه لا يليق أن يتحرك إلا بأمر من أرسله، فيجب عليكم الرجوع عن تلك الحالة، فإنكم تجهلون أكثر مما تعلمون...
. {لو يطيعكم} وهو لا يحب عنتكم ولا شيئاً يشق عليكم {في كثير من الأمر} أي الذي تريدونه على فعله من أنه يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم وتستصوبونه ليكون فعله معكم فعل المطاوع لغيره التابع له، فينقلب حينئذ الحال، ويصير المتبوع تابعاً والمطاع طائعاً {لعنتم} أي لاءمتم وهلكتم، ومن أراد دائماً أن يكون أمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم تابعاً لأمره فقد زين له الشيطان الكفران، فأولئك هم الغاوون، وسياق "لو " معلم قطعاً أن التقدير: ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يطيعكم لكراهة لما يشق عليكم لما هو متخلق به من طاعة الله والوقوف عند حدوده والتقيد في جميع الحركات والسكنات بأمره...
. {ولكن الله} أي الملك الأعظم الذي يفعل ما يريد {حبب إليكم الإيمان} فلزمتم طاعته وعشقتم متابعته...
{وزينه في قلوبكم} أي فلا شيء عندكم أحسن منه ولا- يعادله ولا يقاربه بوجه {وكره إليكم الكفر} وهو تغطية ما أدت إليه الفطرة الأولى والعقول المجردة عن الهوى من الحق بالجحود {والفسوق} وهو المروق من ربقة الدين، ولو من غير تغطية بل بغير تأمل {والعصيان} وهو الامتناع من الانقياد عامة فلم تخالفوه، ورأيتم خلافه هلاكاً، فصرتم والمنة لله أطوع شيء للرسول صلى الله عليه وسلم...
{أولئك} أي- الذين أعلى الله القادر على كل شيء مقاديرهم {هم} أي خاصة {الراشدون} أي الكاملون في الرشد وهو الهدى على أحسن سمت وتقدير...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(واعلموا أن فيكم رسول الله).. اعلموا هذا وقدروه حق قدره، فهو أمر عظيم... (لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم).. وفي هذا إيحاء لهم بأن يتركوا أمرهم لله ورسوله، وأن يدخلوا في السلم كافة، ويستسلموا لقدر الله وتدبيره، ويتلقوا عنه ولا يقترحوا عليه...
. (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم؛ وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان. أولئك هم الراشدون. فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم)...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم}، أي: اعلموا أن بين أظهركم رسول الله، فعظموه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم، ولو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى الحرج الذي ليس من الدين...
{ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم}، وهذه الآيات ترسم في نفس الوقت معالم الإيمان الصحيح لكل من يريد أن يلتحق بركب المؤمنين الصادقين في أي جيل من الأجيال، أو عصر من العصور، ألا وهي محبة الإيمان وكره الكفر، ومحبة التقوى وكره الفسوق، والتزام الطاعة لله ورسوله، وعدم التجرؤ على عصيانهما، فمن كان على هذه الوتيرة خرج من دائرة "السفهاء " ودخل في عداد " الراشدين". ولعل التعبير " بالراشدين " في هذه الآية، هو السند الذي استند إليه السلف الصالح في إطلاق لقب " الخلفاء الراشدين " على خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام الأولين، رضي الله عنهم أجمعين، علاوة على الحديث الوارد في شأنهم بهذا اللقب...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} الذي جعل الله له النبوّة في ما يبلِّغكم به عن الله، والقيادة في ما أوكل إليه من إدارة أموركم وترتيب أوضاعكم لمعرفته بالعمق الخفي من مصالحكم...
{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مّنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي لوقعتم في جهدٍ ومشقة بسبب المشاكل التي تثيرها رغباتكم، تماماً كما حدث في مسألة إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق وامتناعهم عن أداء الصدقة، ورغبتكم في إعلان الحرب عليهم على أساس ذلك، فلو أن النبيّ أطاعكم في ذلك، لوصل الأمر بكم وبالمسلمين إلى ما لا تحمد عقباه، بينما كان الموقف الذي اتخذه النبي سبباً في منع حدوث المشكلة.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} من خلال الفكر الذي انفتحتم فيه على الله، وعرفتم فيه مواقع الخير في حركة القيادة في خط الرسالة...
{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} بما أودعه في وعيكم الروحي والعقلي من معرفة نتائج الأعمال السلبية، التي تفتح لكم أبواب النيران، وتغلق عنكم أبواب الجنان...
{أُوْلَئِكَ هُمُ الراشِدُونَ} الذين انطلقوا من الفطرة التي تلتقي بالحقيقة كلها من خلال ينابيع الصفاء والوجدان...