الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ يُطِيعُكُمۡ فِي كَثِيرٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّـٰشِدُونَ} (7)

الجملة المصدّرة بلولا تكون كلاماً مستأنفاً ، لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور . وكلاهما مذهب سديد . والمعنى : أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها . أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها : وهي أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأى ، واستصواب فعل المطواع لغيره التابع له فيما يرتثيه ، المحتذى على أمثلته ؛ ولو فعل ذلك { لَعَنِتُّمْ } أي لوقعتم في العنت والهلاك . يقال : فلان يتعنت فلاناً ، أي : يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك . وقد أعنت العظم : إذا هيض بعد الجبر . وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد . وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله تعالى : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان } أي إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض : صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة ، التي لا يفطن لها إلا الخواص . وعن بعض المفسرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . وقوله : { أُوْلَئِكَ هُمُ الراشدون } والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : أولئك المستثنون هم الراشدون يصدق ما قلته .

فإن قلت : ما فائدة تقديم خبر إن على اسمها ؟ قلت : القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن الله منهم من استتباع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لآرائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه .

فإن قلت : فلم قيل { يُطِيعُكُمْ } دون : أطاعكم ؟ قلت : للدلالة على أنه كان في أرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه . وأنه كلما عنّ لهم رأى في أمر كان معمولاً عليه ، بدليل قوله : { فِى كَثِيرٍ مّنَ الأمر } كقولك : فلان يقري الضيف ويحمي الحريم ، تريد : أنه مما اعتاده ووجد منه مستمرّاً .

فإن قلت : كيف موقع { ولكن } وشريطتها مفقودة : من مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً ؟ قلت : هي مفقودة من حيث اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى ؛ لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدّم ذكرهم ، فوقعت ، لكنّ في حاق موقعها من الاستدراك . ومعنى تحبيب الله وتكريهه للطف والإمداد بالتوفيق ، وسبيله الكتابة كما سبق ، وكل ذي لب وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبي عليه أن الرجل لا يمدح بغير فعله ؛ وحمل الآية على ظاهرها يؤدّي إلى أن يثني عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [ آل عمران : 188 ]

فإن قلت : فإنّ العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه ، وذلك فعل الله ، وهو مدح مقبول عند الناس غير مردود . قلت : الذي سوّغ ذلك لهم أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب ، يسفر عن مخبر مرضى وأخلاق محمودة ومن ثم قالوا : أحسن ما في الدميم وجهه ، فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته ، ولكن لدلالته على غيره ، على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به ، وقصر المدح على النعت بأمّهات الخير : وهي الفصاحة والشجاعة والعدل والعفة ، وما يتشعب منها ويرجع إليها ، وجعل الوصف بالجمال والثروة وكثرة الحفدة والأعضاد وغير ذلك مما ليس للإنسان فيه عمل غلطاً ومخالفة عن المعقول و { الكفر } تغطية نعم الله تعالى وغمطها بالجحود .

و { الفسوق } الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب الكبائر { والعصيان } ترك الانقياد والمضي لما أمر به الشارع . والعرق العاصي : العاند . واعتصت النواة : اشتدّت . والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة . قال أبو الوازع : كل صخرة وشادة . وأنشد :

وَغَيْرُ مُقَلَّدٍ وَمُوَشَّمَات *** صَلينَ الضَّوْءَ مِنْ صُمِّ الرَّشَادِ