مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ يُطِيعُكُمۡ فِي كَثِيرٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّـٰشِدُونَ} (7)

قوله تعالى : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون } .

ولنذكر في تفسير هذه الآية ما قيل وما يجوز أن يقال ، أما ما قيل فلنختر أحسنه وهو ما اختاره الزمخشري فإنه بحث في تفسير هذه الآية بحثا طويلا ، فقال قوله تعالى : { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } ليس كلاما مستأنفا لأدائه إلى تنافر النظم ، إذ لا تبقى مناسبة بين قوله { واعلموا } وبين قوله { لو يطيعكم } ثم وجه التعلق هو أن قوله { لو يطيعكم } في تقدير حال من الضمير المرفوع في قوله { فيكم } كان التقدير كائن فيكم ، أو موجود فيكم ، على حال تريدون أن يطيعكم أو يفعل باستصوابكم ، ولا ينبغي أن يكون في تلك الحال ، لأنه لو فعل ذلك { لعنتم } أو لوقعتم في شدة أو أولمتم به .

قوله تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } خطابا مع بعض من المؤمنين غير المخاطبين بقوله { لو يطيعكم } قال الزمخشري اكتفى بالتغاير في الصفة واختصر ولم يقل حبب إلى بعضكم الإيمان ، وقال أيضا بأن قوله تعالى : { لو يطيعكم } دون أطاعكم يدل على أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ، ودوام النبي صلى الله عليه وسلم على العمل باستصوابهم ، ولكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها ، وهاهنا كذلك وإن لم يكن تحصل المخالفة بتصريح اللفظ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك لأن المخاطبين أولا بقوله { لو يطيعكم } هم الذين أرادوا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بمرادهم ، والمخاطبين بقوله { حبب إليكم الإيمان } هم الذين أرادوا عملهم بمراد النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا ما قاله الزمخشري واختاره وهو حسن ، والذي يجوز أن يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى لما قال : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } أي فتثبتوا واكشفوا قال بعده : { واعلموا أن فيكم رسول الله } أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه فيكم مبين مرشد ، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ شيخ في مسألة : هذا الشيخ قاعد لا يريد بيان قعوده ، وإنما يريد أمرهم بالمراجعة إليه ، وذلك لأن المراد منه أنه لا يطيعكم في كثير من الأمر ، وذلك لأن الشيخ فيما ذكرنا من المثال لو كان يعتمد على قول التلاميذ لا تطمئن قلوبهم بالرجوع إليه ، أما إذا كان لا يذكر إلا من النقل الصحيح ، ويقرره بالدليل القوي يراجعه كل أحد ، فكذلك هاهنا قال استرشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحدا فلا يوجد فيه حيف ولا يروج عليه زيف ، والذي يدل على أن المراد من قوله { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } بيان أنه لا يطيعكم هو أن الجملة الشرطية في كثير من المواضع ترد لبيان امتناع لشرط لامتناع الجزاء كما في قوله تعالى :

{ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وقوله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فإنه لبيان أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله .

قوله تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } إشارة إلى جواب سؤال يرد على قوله { فتبينوا } وهو أن يقع لواحد أن يقول إنه لا حاجة إلى المراجعة وعقولنا كافية بها أدركنا الإيمان وتركنا العصيان فكذلك نجتهد في أمورنا ، فقال ليس إدراك الإيمان بالاجتهاد ، بل الله بين البرهان وزين الإيمان حتى حصل اليقين ، وبعد حصول اليقين لا يجوز التوقف والله إنما أمركم بالتوقف عند تقليد قول الفاسق ، وما أمركم بالعناد بعد ظهور البرهان ، فكأنه تعالى قال : توقفوا فيما يكون مشكوكا فيه لكن الإيمان حببه إليكم بالبرهان فلا تتوقفوا في قبوله ، وعلى قولنا المخاطب بقوله { حبب إليكم } هو المخاطب بقوله { لو يطيعكم } إذا علمت معنى الآية جملة ، فاسمعه مفصلا ولنفصله في مسائل :

المسألة الأولى : لو قال قائل إذا كان المراد بقوله { واعلموا أن فيكم رسول الله } الرجوع إليه والاعتماد على قوله ، فلم لم يقل بصريح اللفظ فتبينوا وراجعوا النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وما الفائدة في العدول إلى هذا المجاز ؟ نقول الفائدة زيادة التأكيد وذلك لأن قول القائل فيما ذكرنا من المثال هذا الشيخ قاعد آكد في وجوب المراجعة إليه من قوله راجعوا شيخكم ، وذلك لأن القائل يجعل وجوب المراجعة إليه متفقا عليه ، ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده ، فكأنه يقول : إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ ، وأن الواجب مراجعته فإن كنتم لا تعلمون قعدوه فهو قاعد فيجعل حسن المراجعة أظهر من أمر القعود كأنه يقول خفي عليكم قعوده فتركتم مراجعته ، ولا يخفى عليكم حسن مراجعته ، فيجعل حسن مراجعته أظهر من الأمر الحسي ، بخلاف ما لو قال راجعوه ، لأنه حينئذ يكون قائلا بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق ، وبين الكلامين بون بعيد ، فكذلك قوله تعالى : { واعلموا أن فيكم رسول الله } يعني لا يخفى عليكم وجوب مراجعته ، فإن كان خفي عليكم كونه فيكم ، فاعلموا أنه فيكم فيجعل حسن المراجعة أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم ، وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصريح .

المسألة الثانية : إذا كان المراد من قوله { لو يطيعكم } بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو متبع للوحي فلم لم يصرح به ؟ نقول بيان نفي الشيء مع بيان دليل النفي أتم من بيانه من غير دليل ، والجملة الشرطية بيان النفي مع بيان دليله فإن قوله ( ليس فيهما آلهة ) لو قال قائل : لم قلت إنه ليس فيهما آلهة يجب أن يذكر الدليل فقال : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فكذلك هاهنا لو قال لا يطيعكم ، وقال قائل لم لا يطيع لوجب أن يقال لو أطاعكم لأطاعكم لأجل مصلحتكم ، لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تعنتون وتأثمون وهو يشق عليه عنتكم ، كما قال تعالى : { عزيز عليه ما عنتم } فإن طاعتكم لا تفيده شيئا فلا يطيعكم ، فهذا نفي الطاعة بالدليل وبين نفي الشيء بدليل ونفيه بغير دليل فرق عظيم .

المسألة الثالثة : قال { في كثير من الأمر } ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقا لفائدة قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } .

المسألة الرابعة : إذا كان المراد بقوله تعالى { حبب إليكم الإيمان } ، فلا تتوقفوا فلم لم يصرح به ؟ قلنا لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه ، إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ تلك المرتبة لأن من بلغ إلى درجة الظن فإنه يتوقف إلى أن يبلغ درجة اليقين ، فلما كان عدم التوقف في اليقين معلوما متفقا عليه لم يقل فلا تتوقفوا بل قال حبب إليكم الإيمان ، أي بينه وزينه بالبرهان اليقيني .

المسألة الخامسة : ما المعنى في قوله { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } نقول قوله تعالى : { حبب إليكم } أي قربه وأدخله في قلوبكم ثم زينه فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم ، وهذا لأن من يحب أشياء فقد يمل شيئا منها إذا حصل عنده وطال لبثه والإيمان كل يوم يزداد حسنا ، ولكن من كانت عبادته أكثر وتحمله لمشاق التكليف أتم ، تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ، ولهذا قال في الأول : { حبب إليكم } وقال ثانيا : { وزينه في قلوبكم } كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم .

المسألة السادسة : ما الفرق بين الأمور الثلاثة وهي الكفر والفسوق والعصيان ؟ فنقول هذه أمور ثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل لأن الإيمان الكامل المزين ، هو أن يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان ( أحدها ) قوله تعالى : { وكره إليكم الكفر } وهو التكذيب في مقابلة التصديق بالجنان والفسوق هو الكذب ( وثانيها ) هو ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ } سمي من كذب فاسقا فيكون الكذب فسوقا ( ثالثها ) ما ذكره بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } فإنه يدل على أن الفسوق أمر قولي لاقترانه بالاسم ، وسنبين تفسيره إن شاء الله تعالى ( ورابعها ) وجه معقول وهو أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة على ما علم في قول القائل : فسقت الرطبة إذا خرجت ، وغير ذلك لأن الفسوق هو الخروج زيد في الاستعمال كونه الخروج عن الطاعة ، لكن الخروج لا يكون له ظهور بالأمر القلبي ، إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا لله تعالى ، ولا يظهر بالأفعال لأن الأمر قد يترك إما لنسيان أو سهو ، فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطئ أو متعمد ، وأما الكلام فإنه حصول العلم بما عليه حال المتكلم ، فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب ، وأما العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق ، فإذا علم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن ، وهو أنه تعالى كره إليكم الكفر وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } .

قوله تعالى : { والفسوق } يعني ما يظهر لسانكم أيضا ، ثم قال : { والعصيان } وهو دون الكل ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان ، وقال بعض الناس الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة ، والعصيان هو الصغيرة ، وما ذكرناه أقوى .

ثم قال تعالى : { أولئك هم الراشدون } .

خطابا مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيه معنى لطيف : وهو أن الله تعالى في أول الأمر قال : { واعلموا أن فيكم رسول الله } أي هو مرشد لكم فخطاب المؤمنين للتنبيه على شفقته بالمؤمنين ، فقال في الأول كفى النبي مرشدا لكم ما تسترشدونه فأشفق عليهم وأرشدهم ، وعلى هذا قوله { الراشدون } أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم وينتهون عما ينهاهم .