تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ يُطِيعُكُمۡ فِي كَثِيرٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّـٰشِدُونَ} (7)

الآية 7 وقوله تعالى : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنِتُّم } أي لأثمتم .

من الناس من احتج بهذه الآية على أن الإجماع ليس بحجة ، وقالوا : لو كان لإجماعهم [ حجة لكانوا ]{[19649]} لا يأثمون لو أطاعهم في كثير من الأمر لأن الحق والصواب مما لا يوجب الإثم لصاحبه في من تبعه في ذلك الصواب .

ولكن إن كان لا يوجب الثواب دلّ أنه ليس بحجة يجب اتّباعه . ولكن هذا فاسد لأن الحُجج والبراهين لم تكن انتهت يومئذ غايتُها ، ولا أتت على نهايتها .

والإجماع الذي هو إجماع الحجة عندنا ، ويجب اتباعه والانقياد له ، هو إجماع من استوعب الحجج والبراهين ، وأتى على عامّتها أو على الجميع ، وكان الوقت وقت نزول الوحي ، وإنما تستقر الأحكام بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ينقطع الوحي ، فيُستدل على استيعاب الحُجج ونزول جميع ما يحتاج الناس إليه من حيث الإيداع في النصوص ؛ فمتى اجتمعوا على ذلك يكون حجة ، ولأنه لا إجماع تحقيق دون رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا وُجد رأيه ، استُغني عن رأي الغير لما كان ينطق عن الحِجا . فإذا لم يكن وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم زمان انعقاد الإجماع حجة بطل استدلالُهم بالآية .

ثم قوله تعالى : { واعلموا أن فيكم رسول الله } [ يحتمل وجوها :

أحدها : ]{[19650]} أُرسل إليكم ليُزيل عنكم إشكالكم وشبهاتكم ، فلا عذر لكم في الكفر واعتراض الشُّبه لكم بما تقدرون أن تسألوه ما أشكل عليكم ، واشتبه ، فيُخبركم بذلك ، فيُزيل الشُّبه عنكم .

والثاني : يحتمل : { واعلموا أن فيكم رسول الله } يُطلع الله تعالى إياه على ما تُضمرون في أنفسكم وما تولّدون من الأخبار التي لا أصل لها ، ولا أثر ، ما لو ظهر ذلك لافتضحتم ، وهو صلة ما ذكر من قوله : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا } والله أعلم .

[ والثالث : ]{[19651]} يحتمل أن فيكم رسول الله تسألونه ما أشكل عليكم ، فيُخبركم بالحق والأمر على حقيقته كي لا تُصيبوا{[19652]} قوما بجهالة ، والله أعلم .

[ والرابع : ]{[19653]} يحتمل أن يكون قوله { واعلموا أن فيكم رسول الله } فإليه الرأي والتدبير في الأمور ، ومن رأيه وتدبيره يجب أن تُصدروا{[19654]} لا عن رأي أنفسكم وتدبيركم .

وعلى ذلك يخرج قوله تعالى : { وكيف تكفرون وأنتم تُتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله } [ آل عمران : 101 ] على الوجوه التي ذكرهما ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { لو يُطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم } أي لو يطيعكم في ما تدعو إليه أنفسكم من التمويهات والشُّبهات وهواها ، أو يقول : لو يطيعكم في الصدور عن رأيكم تدبيركم في الأمور لعنتّم .

ثم قوله{[19655]} : { ولكن الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان } هذا في الظاهر كأنه{[19656]} غير موصول بقوله : { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم } لأنه لا يليق ذلك إلا على الإضمار ؛ كأنه يقول : { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم } وإن الله قد أرسله إليكم رسولا ، وحبّب إليكم الإيمان به ، وزيّنه في قلوبكم /522-ب/ حتى صار هو في قلوبكم أحب من أنفسكم ومن كل شيء .

فالواجب عليكم أن تصرِفوا الأمر إلى رأيه وتدبيره ، وأن تصدروا عن رأيه ، ولا تعتمدوا على رأي أنفسكم وتدبيركم ، والله أعلم .

ويحتمل ألا تدعوه إلى أن يطيعكم في ما تهوى بكم أنفسكم ما شبّهت بعد ما حبّب الإيمان به إليكم ، وزيّنه في قلوبكم ، وكرّه إليكم الكفر وما ذكر ، والله أعلم بحقيقة جهته وصلة هذا بالأول .

ثم يحتمل وجهين أيضا :

أحدهما : { لو يطيعكم } الرسول { في كثير من الأمر لعنتّم } الله تعالى ألزمكم طاعته في كل أمر ، فأطيعوه ، ولا تطلبوا منه طاعته إياكم في الأمور ، ولكن أطيعوه أنتم في الأمور كلها ، وقد { حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق } والخروج عن أمره { والعِصيان } .

والثاني : يشبه أن يكون موصولا بقوله تعالى : { إن الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى }{[19657]} [ الحجرات : 3 ] .

ثم قوله{[19658]} عز وجل : { أولئك هم الراشدون } كأنه يقول : { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } وحبّب إليه الإيمان ، وزيّنه في قلوبهم ، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان { أولئك هم الراشدون } .

أخبر ، وشهِد لهم بالرشاد ، وأخبر أن ذلك فضل منه إليهم ونعمة لا بشيء كان منهم [ استوجب ذلك ]{[19659]} .


[19649]:في الأصل وم: لكان.
[19650]:ساقطة من الأصل وم.
[19651]:في الأصل وم: و.
[19652]:من م، في الأصل: يقلبوا.
[19653]:في الأصل وم: و.
[19654]:في الأصل وم: تصدر.
[19655]:في الأصل وم: قال.
[19656]:في الأصل وم: كناية.
[19657]:أدرج بعدها في الأصل وم: {ولكن الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان}.
[19658]:في الأصل وم: قال.
[19659]:في الأصل وم: استوجبوا بذلك.