المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

49- لا تعجب من هؤلاء الكافرين الذين يفترون بأعمالهم ، فنبين لهم سوء عملهم فيرونه حسناً ، ويثنون على أنفسهم مزكين لها ، والله - وحده - هو الذي يعلم الخبيث من الطَّيّب ، فيزكي من يشاء ولا يظلم أي إنسان مهما كان قدره ضئيلاً .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

44

ثم يمضي القرآن - وهو يخوض المعركة بالجماعة المسلمة مع اليهود في المدينة - يعجب من أمر هؤلاء الخلق ؛ الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار ؛ ويثنون على أنفسهم ؛ ويزكونها ؛ بينما هم يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويتطاولون على الله ورسوله - كما سبق - وبينما هم يؤمنون بالجبت والطاغوت - كما سيجيء - كاذبين على الله في تزكيتهم لأنفسهم ، وفي زعمهم أنهم مقربون إليه مهما عملوا من السوء ! :

( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ؟ بل الله يزكي من يشاء ، ولا يظلمون فتيلا . انظر كيف يفترون على الله الكذب ! وكفى به إثما مبينًا ) . .

ودعوى اليهود أنهم شعب الله المختار هي دعواهم من قديم . وقد اختارهم الله فعلا لحمل الأمانة وأداء الرسالة ، وفضلهم على العالمين في ذلك الأوان ؛ وأهلك لهم فرعون وملأه ، وأورثهم الأرض المقدسة . . ولكنهم هم انحرفوا بعد ذلك عن منهج الله ؛ وعتوا في الأرض عتوا كبيرا ، واجترحوا السيئات التي تضج منها الأرض ، وأحل لهم أحبارهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحله لهم ، واتبعوهم ؛ ولم ينكروا عليهم حق الألوهية هذا الذي ادعوه عمليا - بهذا التحريم والتحليل - وقد بدل هؤلاء الأحبار في شريعة الله ، ليرضوا ذوي السلطان والشرفاء ؛ وليملقوا كذلك رغبات الجماهير وأهواءهم . وبذلك اتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله . وأكلوا الربا . . ووهنت علاقتهم بدين الله وكتابة الذي أنزله عليهم . . وعل الرغم من ذلك كله - وغيره كثير - فقد ظلوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه . وأن النار لن تمسهم إلا إياما معدودة . وأنه لا يهتدي ولا يقبل عند الله إلا من كان هودا ! كأن المسألة مسألة قرابة ونسب ومحاباة بينهم وبين الله - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - فالله لا تصل بينه وبين أحد من خلقه قرابة ولا نسب ؛ إنما تربط عباده به العقيدة المستقيمة والعمل الصالح ، والاستقامة على منهج الله . . فمن أخل بهذا فقد غضب الله عليه . ويشتد غضبه إذا كان قد آتى الضالين الهدى فانحرفوا عنه ! وما شأن هؤلاء اليهود إلا شأن من يزعمون الإسلام اليوم ، ويحسبون أنهم من أمة محمد [ ص ] وأن الله لا بد ناصرهم ، ومخرج لهم اليهود من أرضهم . . بينما هم ينسلخون انسلاخا كاملا من دين الله الذي هو منهجه للحياة ؛ فينبذونه من حياتهم ؛ ولا يتحاكمون إلى كتاب الله لا في أقضيتهم ولا في اقتصادهم ، ولا في اجتماعهم ، ولا في آدابهم ، ولا في تقاليدهم . وكل ما لهم من الإسلام أسماء المسلمين ! وأنهم ولدوا في أرض كان المسلمون يسكنونها ذات يوم ! ويقيمون فيها دين الله ، ويحكمون منهجه في الحياة !

والله يعجب رسوله [ ص ] من أمر أولئك اليهود الذين يزكون أنفسهم . وأمر " المسلمين " المعاصرين أعجب ، وأشد إثارة للتعجيب والتعجب ! !

إنه ليس الناس هم الذين يزكون أنفسهم ؛ ويشهدون لها بالصلاح والقرب من الله واختيار الله . إنما الله هو الذي يزكي من يشاء . فهو أعلم بالقلوب والأعمال . ولن يظلم الناس شيئا ، وإذا هم تركوا هذا التقدير لله - سبحانه - واتجهوا إلى العمل . لا إلى الادعاء . فلئن عملوا - وهم ساكتون متواضعون في حياء من الله ، وبدون تزكية ولا ادعاء - فلن يغبنوا عند الله ؛ ولن ينسي لهم عمل ؛ ولن يبخس لهم حق .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

قال الحسن وقتادة : نزلت هذه الآية ، وهي قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } في اليهود والنصارى ، حين قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }

وقال ابن زيد : نزلت في قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، وفي قولهم : { وقالوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إَلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : 111 ] .

وقال مجاهد : كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ، ويزعمون أنهم لا ذنب لهم{[7725]} .

وكذا قال عكرمة ، وأبو مالك . روى ذلك ابن جرير .

وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم } وذلك أن اليهود قالوا : إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ، وسيشفعون لنا ويزكوننا ، فأنزل الله على محمد [ صلى الله عليه وسلم ]{[7726]} { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا }{[7727]} رواه ابن جرير .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مصفى ، حدثنا ابن حمير ، عن ابن لهيعة ، عن بشر بن أبي عمرو{[7728]} عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ، ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب . وكذبوا . قال{[7729]} الله [ تعالى ]{[7730]} إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له " وأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ }

ثم قال : وروى عن مجاهد ، وأبي مالك ، والسدي ، وعكرمة ، والضحاك - نحو ذلك .

وقال الضحاك : قالوا : ليس لنا ذنوب ، كما ليس لأبنائنا ذنوب . فأنزل الله ذلك فيهم .

وقيل : نزلت في ذم التمادح والتزكية .

وقد جاء في الحديث الصحيح عند{[7731]} مسلم ، عن المقداد بن الأسود قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب{[7732]} .

وفي الحديث الآخر المخرج في الصحيحين من طريق خالد الحذاء ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على رجل ، فقال : " ويحك . قطعت عنق صاحبك " . ثم قال : " إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا " {[7733]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن نعيم بن أبي هند قال : قال عمر بن الخطاب : من قال : أنا مؤمن ، فهو كافر . ومن قال : هو عالم ، فهو جاهل . ومن قال : هو في الجنة ، فهو في النار{[7734]} .

ورواه ابن مردويه ، من طريق موسى بن عبيدة ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، عن عمر أنه قال : إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه ، فمن قال : إنه مؤمن ، فهو كافر ، ومن قال : إنه عالم فهو جاهل ، ومن قال : إنه في الجنة ، فهو في النار{[7735]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة وحجاج ، أنبأنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن معبد الجهني قال : كان معاوية قلما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : وكان قلما يكاد أن يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإن هذا المال حلو خضر ، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه ، وإياكم والتمادح فإنه الذبح " {[7736]} .

وروى ابن ماجه منه : " إياكم والتمادح فإنه الذبح " عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن غندر ، عن شعبة به{[7737]} .

ومعبد هذا هو ابن عبد الله بن عويم البصري القدري .

وقال ابن جرير : حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : قال عبد الله بن مسعود : إن الرجل ليغدو بدينه ، ثم يرجع وما معه منه شيء ، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول له : والله إنك كيت وكيت{[7738]} فلعله أن يرجع ولم{[7739]} يحل من حاجته بشيء وقد أسخط الله . ثم قرأ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } الآية .

وسيأتي الكلام على ذلك مطولا عند قوله تعالى : { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ النجم : 32 ] . ولهذا قال تعالى : { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } أي : المرجع في ذلك إلى الله ، عز وجل{[7740]} لأنه عالم بحقائق الأمور وغوامضها .

ثم قال تعالى : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا } أي : ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل .

قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد من السلف : هو ما يكون في شق النواة .

وعن ابن عباس أيضا : هو ما فتلت بين أصابعك . وكلا القولين متقارب .


[7725]:في أ: "لا ذنوب لهم".
[7726]:زيادة من أ.
[7727]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[7728]:في أ: "عمرة".
[7729]:في أ: "فقال".
[7730]:زياد من أ.
[7731]:في أ: "عن".
[7732]:صحيح مسلم برقم (3002)
[7733]:صحيح البخاري برقم (2662) وصحيح مسلم برقم (3000).
[7734]:رواه حنبل بن إسحاق عن أحمد به كما في مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحافظ ابن كثير (2/ 574).
[7735]:ذكره ابن كثير في مسند عمر بن الخطاب (2/574) وطلحة لم يدرك عمر فهو منقطع
[7736]:المسند (4/93).
[7737]:سنن ابن ماجة برقم (3743) وقال البوصيري في الزوائد (3/181): "هذا إسناد حسن، معبد مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات".
[7738]:في ر، أ: "إنك لذيت وذيت".
[7739]:في أ: "وما".
[7740]:في أ: "تعالى".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ألم تر يا محمد بقلبك الذين يزكون أنفسهم من اليهود فيبرّئونها من الذنوب ، ويطرونها .

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي كانت اليهود تزكي به أنفسها ، فقال بعضهم : كانت تزكيتهم أنفسهم قولهم : { نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُه } . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتيلاً } وهم أعداء الله اليهود زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه ، فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا : لا ذنوب لنا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } قال : هم اليهود والنصارى ، قالوا : { نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ } وقالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانع هُودا أوْ نَصَارَى } .

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قال : قالت يهود : ليست لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون ، فإن كات لهم ذنوب ، فإن لنا ذنوبا ، فإنما نحن مثلهم ، قال الله تعالى ذكره : { انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وكَفَى بِهِ إثما مُبِينا } .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزكّونَ أنْفُسَهُمْ } قال : قال أهل الكتاب : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَن كانَ هُودا أوْ نَصَارَى } وقالوا : { نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ } وقالوا : نحن على الذي يحبّ الله . فقال تبارك وتعالى : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ } حين زعموا أنهم يدخلون الجنة ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأهل طاعته .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزكّونَ أنْفُسَهُم بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } نزلت في اليهود ، قالوا : إنا نعّلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب ، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ، ما عملنا بالنهار كُفّر عنا بالليل .

وقال آخرون : بل كانت تزكيتهم أنفسهم تقديمهم أطفالهم لإماتهم في صلاتهم زعما منها أنهم لا ذنوب لهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } قال : يهود كانوا يقدّمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم ، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم . فتلك التزكية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن الأعرج ، عن مجاهد ، قال : كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم ، فتلك تزكية . قال ابن جريج : هم اليهود والنصارى .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن أبي مالك في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكُونَ أنْفُسَهُمْ } قال : نزلت في اليهود كانوا يقدّمون صبيانهم يقولون : ليست لهم ذنوب .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي مكين ، عن عكرمة ، في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } قال : كان أهل الكتاب يقدمون الغلمان الذين لم يبلغوا الحنث يصلون بهم ، يقولون ليس لهم ذنوب ، فأنزل الله : { ألَمْ تَرع إلى الّذِينَ يُزَكُونَ أنْفُسَهُمْ } . . . الاَية .

وقال آخرون : بل تزكيتهم أنفسهم كات قولهم : إن أبناءنا سيشفعون لنا ويزكوننا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } وذلك أن اليهود قالوا : إن أبناءنا قد توفوا وهم لنا قربة عند الله ، وسيشفعون ويزكوننا . فقال الله لمحمد : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } . . . إلى { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .

وقال آخرون : بل ذلك كان منهم تزكية من بعضهم لبعض . ذكر من قال ذلك :

حدثني فيحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله : إن الرجل ليغدو بدينه ، ثم يرجع وما معه منه شيء ! يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرّا ، فيقول : والله إنك لذيت وذيت ، ولعلّه أن يرجع ، ولم يحل من حاجته بشيء ، وقد أسخط الله عليه . ثم قرأ : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } . . . الاَية .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى تزكية القوم الذين وصفهم الله بأنهم يزكون أنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا ، وأنهم لله أبناء وأحباء ، كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه ، لأنه ذلك هو أظهر معانيه لإخبار الله عنهم أنها إنما كانوا يزكون أنفسهم دون غيرها .

وأما الذين قالوا : معنى ذلك : تقديمهم أطفالهم للصلاة ، فتأويل لا تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلم . وأما قوله جلّ ثناؤه : { بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ } فإنه تكذيب من الله المزكين أنفسهم من اليهود والنصارى ، المبرئيها من الذنوب ، يقول الله لهم : ما الأمر كما زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا ، وإنكم برآء مما يكرهه الله ، ولكنكم أهل فرية وكذب على الله ، وليس المزكي من زكى نفسه ، ولكنه الذي يزكيه الله ، والله يزكي من يشاء من خلقه ، فيطهره ويبرئه من الذنوب بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معصاصيه إلى ما يرضاه من طاعته .

وإنما قلنا إن ذلك كذلك لقوله جلّ ثناؤه : { انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ } وأخبر أنهم يفترون على الله الكذب بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله قد طهرهم من الذنوب .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولا يظلم الله هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه ، فيبخسهم في تركه تزكيتهم ، وتزكية من ترك تزكيته ، وفي تزكية من زكى من خلقه شيئا من حقوقهم ولا يضع شيئا في غير موضعه ، ولكنه يزكي من يشاء من خلقه ، فيوفقه ، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه¹ كل ذلك إليه وبيده ، وهو في كل ذلك غير ظالم أحدا ممن زكاه أو لم يزكه فتيلاً .

واختلف أهل التأويل في معنى «الفتيل » ، فقال بعضهم : هو ما خرج من بين الإصبعين والكفين من الوسخ إذا فتلت إحداهما بالأخرى . ذكر من قال ذلك :

حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الفتيل : ما خرج من بين أصبعيك .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن التيمي ، قال : سألت ابن عباس ، عن قوله : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال : ما فتلت بين أصبعيك .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زيد بن درهم أبي العلاء ، قال : سمعت أبا العالية ، عن ابن عباس : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال : الفتيل : هو الذي يخرج من بين إصبعي الرجل .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } والفتيل : هو أن تدلك بين أصبعيك ، فما خرج بينهما فهو ذلك .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : خبرنا حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال : الفتيل : الوسخ الذي يخرج من بين الكفين .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : الفتيل : ما فتلت به يديك فخرج وسخ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال : ما تدلكه في يديك فيخرج بينهما .

وأناس يقولون : الذي يكون في بطن النواة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قوله : { فَتِيلاً } قال : الذي في بطن النواة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، قال : الفتيل : الذي في بطن النواة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني طلحة بن عمرو ، أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول ، فذكر مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول : الفتيل : الذي في شقّ النواة .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : الفتيل : في النوى .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال : الفتيل : الذي في شقّ النواة .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : الفتيل : شِقّ النواة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الفتيل : الذي في بطن النواة .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : الفتيل : الذي يكون في شقّ النواة .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } : فتيل النواة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرّة ، عن عطية ، قال : الفتيل : الذي في بطن النواة .

قال أبو جعفر : وأصل الفتيل : المفتول ، صرف من فمفعول إلى فعيل ، كما قيل : صريع ودهين من مصروع ومدهون . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الله جلّ ثناؤه إنما قصد بقوله : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } الخبر عن أنه لا يظلم عباده أقلّ الأشياء التي لا خطر لها ، فكيف بما له خطر ، وكان الوسخ الذي يخرج من بين أصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما على الأخرى ، كالذي هو في شقّ النواة وبطنها ، وما أشبه ذلك من الأشياء التي هي مفتولة ، مما لا خطر له ولا قيمة ، فواجب أن يكون كل ذلك داخلاً في معنى الفتيل ، إلا أن يخرج شيئا من ذلك ما يجب التسليم له مما دلّ عليه ظاهر التنزيل .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } يعني أهل الكتاب قالوا { نحن أبناء الله وأحباؤه } وقيل : ناس من اليهود جاؤوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب قال لا قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل ، وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار . وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها . { بل الله يزكي من يشاء } تنبيه على أن تزكيته تعالى هي المعتد بها دون تزكية غيره ، فإنه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح ، وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين . وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلا أو قولا . { ولا يظلمون } بالذم أو العقاب على تزكيتهم أنفسهم بغير حق . { فتيلا } أدنى ظلم وأصغره ، وهو الخيط الذي في شق النواة يضرب به المثل في الحقارة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

هذا لفظ عام في ظاهره ، ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود ، واختلف في المعنى الذي به «زكوا أنفسهم » ، فقال قتادة والحسن : ذلك قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه }{[4099]} وقولهم : { لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً }{[4100]} وقال الضحاك والسدي : ذلك قولهم : لا ذنوب لنا وما فعلناه نهاراً غفر ليلاً ، وما فعلناه ليلاً غفر نهاراً ، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب ، وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة : تقديمهم أولادهم الصغار للصلاة لأنهم لا ذنوب لهم .

قال المؤلف : وهذا يبعد من مقصد الآية وقال ابن عباس : ذلك قولهم أبناؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا ، وقال عبد الله بن مسعود : ذلك ثناء بعضهم على بعض ، ومدحهم لهم وتزكيتهم لهم .

قال القاضي أبو محمد : فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه ، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل{[4101]} ، والضمير في { يزكون } عائد على المذكورين ممن زكى نفسه أو ممن يزكيه الله تعالى ، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية ، وقرأت طائفة «ولا تظلمون » بالتاء على الخطاب ، «والفتيل » : هو ما فتل ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، وقال ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم : «الفتيل » : الخيط الذي في شق نواة التمرة ، وقال ابن عباس وأبو مالك والسدي : هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفيك إذا فتلتهما ، وهذا كله يرجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره ، وأن الله لا يظلمه ، ولا شيء دونه في الصغر ، فكيف بما فوقه ، ونصبه على مفعول ثان ب { يظلمون }{[4102]} .


[4099]:- من الآية (18) من سورة (المائدة).
[4100]:- من قوله تعالى في الآية (111) من سورة البقرة: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم}.
[4101]:- التزكية هي:التطهير والتبرئة من الذنوب.
[4102]:- يتأتى ذلك بتضمين (يظلمون) معنى ما يتعدى لاثنين.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

تَعْجِيب من حال اليهود إذ يقولون { نحن أبناء الله وأحبّاؤه } [ المائدة : 18 ] وقالوا : { لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً } [ البقرة : 111 ] ونحو ذلك من إدلالهم الكاذب .

وقوله : { بل الله يزكي من يشاء } إبطال لمعتقَدهم بإثبات ضدّه ، وهو أنّ التزكية شهادة من الله ، ولا ينفع أحداً أن يزكّي نفسه . وفي تصدير الجملة ب ( بل ) تصريح بإبطال تزكيتهم . وأنّ الذين زكَّوا أنفسهم لاحظّ لهم في تزكية الله ، وأنّهم ليسوا ممّن يشاء الله تزكيته ، ولو لم يذكر ( بل ) فقيل و { الله يزكّي من يشاء } لكان لهم مطمع أن يكونوا ممّن زكّاه الله تعالى .

ومعنى { ولا يظلمون فتيلاً } أي أنّ الله لم يحرمهم ما هم به أحرياء ، وأنّ تزكية الله غيرهم لا تعدّ ظلماً لهم لأنّ الله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل ولا يظلِم أحداً .

والفتيل : شبه خَيْط في شَقّ نواة التمرة . وقد شاع استعارته للقِلّة إذ هو لا ينتفع به ولا له مرأى واضح .

وانتصب { فتيلا } على النيابة عن المفعول المطلق ، لأنّه على معنى التشبيه ، إذ التقدير : ظلماً كالفتيل ، أي بقَدْره ، فحذفت أداة التشبيه ، وهو كقوله : { إنّ الله لا يظلم مِثقَالَ ذَرَّة } [ النساء : 40 ] .