هذه السورة خالصة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كسورة الضحى ، وسورة الشرح . يسري عنه ربه فيها ، ويعده بالخير ، ويوعد أعداءه بالبتر ، ويوجهه إلى طريق الشكر .
ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة ، وحياة الداعية في أول العهد بمكة . صورة من الكيد والأذى للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوة الله التي يبشر بها ؛ وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه ؛ ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه .
كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان . وحقيقة الضلال والشر والكفران . . الأولى كثرة وفيض وامتداد . والثانية قلة وانحسار وانبتار . وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك . .
ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء . ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله ، من أمثال العاص ابن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إنه أبتر . يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده . وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره !
وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا . وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وشانئيه ، ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضا .
ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] بالروح والندى ، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه ؛ وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه .
( إنا أعطيناك الكوثر ) . . والكوثر صيغة من الكثرة . . وهو مطلق غير محدود . يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء . . إنا أعطيناك ما هو كثير فائض غزير . غير ممنوع ولا مبتور . . فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور .
هو واجده في النبوة . في هذا الاتصال بالحق الكبير ، والوجود الكبير . الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه . وماذا فقد من وجد الله ?
وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه . وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته ، وينبوع ثر لا نهاية لفيضه وغزارته !
وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه ، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض ، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء .
وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون ، في أرجاء الأرض . وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره ، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه ، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة .
وهو واجده في الخير الكثير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه . سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به ، ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض !
وهو واجده في مظاهر شتى ، محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها !
إنه الكوثر ، الذي لا نهاية لفيضه ، ولا إحصاء لعوارفه ، ولا حد لمدلوله . ومن ثم تركه النص بلا تحديد ، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد . .
وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول . فهو كوثر من الكوثر ! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ * إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } .
يقول تعالى ذكره : { إنّا أعْطَيْناكَ يا محمد الْكَوْثَرَ } .
واختلف أهل التأويل في معنى الكوثر ، فقال بعضهم : هو نهر في الجنة أعطاه الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر : أنه قال : الكوثر : نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب وفضة ، يجري على الدرّ والياقوت ، ماؤه أشدّ بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن محارب بن دثار الباهليّ ، عن ابن عمر ، في قوله : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } قال : نهر في الجنة ، حافتاه الذهب ، ومجراه على الدرّ والياقوت ، وماؤه أشدّ بياضا من الثلج ، وأشدّ حلاوة من العسل ، وتربته أطيب من ريح المسك .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عمر بن عبيد ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : الكوثر : نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب وفضة ، يجري على الياقوت والدرّ ، ماؤه أبيض من الثلج ، وأحلى من العسل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، عن شقيق أو مسروق ، قال : قلت لعائشة : يا أمّ المؤمنين ، وما بُطْنان الجنة ؟ قالت : وسط الجنة : حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت ، ترابه المسك ، وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت .
حدثنا أحمد بن أبي سَريج الرازيّ ، قال : حدثنا أبو النضر وشبابة ، قالا : حدثنا أبو جعفر الرازيّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن رجل ، عن عائشة قالت : الكوثر : نهر في الجنة ، ليس أحد يدخل أصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي جعفر ، وحدثنا ابن أبي سُرَيج ، قال : حدثنا أبو نَعِيم ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازيّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن أنس ، قال : الكوثر : نهر في الجنة .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عائشة قالت : الكوثر نهر في الجنة ، درّ مجوّف .
حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عائشة : الكوثر : نهر في الجنة ، عليه من الآنية عدد نجوم السماء .
قال : ثنا وكيع ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن عائشة قالت : من أحبّ أن يسمع خرير الكوثر ، فليجعل أصبعيه في أُذنيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عائشة ، قالت : نهر في الجنة ، شاطئاه الدرّ المجوّف .
قال : ثنا مهران ، عن أبي معاذ عيسى بن يزيد ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عائشة قالت : الكوثر : نهر في بُطْنان الجنة : وسط الجنة ، فيه نهر شاطئاه درّ مجوّف ، فيه من الآنية لأهل الجنة ، مثلُ عدد نجوم السماء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } قال : نهر أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الجنة .
حدثنا أحمد بن أبي سريج ، قال : حدثنا مسعدة ، عن عبد الوهاب ، عن مجاهد ، قال : الكَوْثَر : نهر في الجنة ، ترابه مسك أذفر ، وماؤه الخمر .
حدثنا ابن أبي سريج ، قال : حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } قال : نهر في الجنة .
حدثنا الربيع ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن سليمان بن بلال ، عن شريك بن أبي نمر ، قال : سمعت أنس بن مالك يحدّثنا ، قال : لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، مضى به جبريل في السماء الدنيا ، فإذا هو بنهر ، عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد ، فذهب يشُمّ ترابه ، فإذا هو مسك ، فقال : «يا جبريل ، ما هذا النهر ؟ » قال : هو الكوثر الذي خبأ لك ربّك .
وقال آخرون : عُنِي بالكوثر : الخير الكثير . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثني هُشَيم ، قال : أخبرنا أبو بشر وعطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس أنه قال في الكوثر : هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه . قال أبو بشر : فقلت لسعيد بن جُبير : فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ، قال : فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن عطاء بن السائب ، قال : قال محارب بن دثار : ما قال سعيد بن جُبير في الكوثر ؟ قال : قلت : قال : قال ابن عباس : هو الخير الكثير ، فقال : صدق والله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : الكوثر : الخير الكثير .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، قال : سألت سعيد بن جُبير ، عن الكوثر ، فقال : هو الخير الكثير الذي آتاه الله ، فقلت لسعيد : إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة ، فقال : هو الخير الذي أعطاه الله إياه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } قال : الخير الكثير .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن عُمارة بن أبي حفصة ، عن عكرِمة ، قال : هو النبوّة ، والخير الذي أعطاه الله إياه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عمارة ، عن عكرِمة في قول الله : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } قال : الخير الكثير ، والقرآن والحكمة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا عُمارة بن أبي حفصة ، عن عكرِمة أنه قال : الكوثر : الخير الكثير .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } قال : الخير الكثير .
قال : ثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن هلال ، قال : سألت سعيد بن جُبير { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } قال : أكثر الله له من الخير ، قلت : نهر في الجنة ؟ قال : نهر وغيره .
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الكوثر : الخير الكثير .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الكوثر : الخير الكثير .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن مجاهد : الكوثر : قال : الخير كله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : خير الدنيا والآخرة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في الكوثر ، قال : هو الخير الكثير .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، قال : الكوثر : الخير الكثير .
قال : ثنا وكيع ، عن بدر بن عثمان ، سمع عكرِمة يقول في الكوثر : قال : ما أُعطي النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخير والنبوّة والقرآن .
حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازيّ ، قال : حدثنا أبو داود ، عن بدر ، عن عكرِمة ، قوله : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } قال : الخير الذي أعطاه الله : النبوّة والإسلام .
وقال آخرون : هو حوض أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن مطر ، عن عطاء { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } قال : حوض في الجنة أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أحمد بن أبي سريج ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مطر ، قال : سألت عطاء ونحن نطوف بالبيت عن قوله : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ } قال : حوض أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي ، قول من قال : هو اسم النهر الذي أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة ، وصفه الله بالكثرة ، لعظَم قدره .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك ، لتتابع الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كذلك . ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا أحمد بن المِقدام العجليّ ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث عن قتادة ، عن أنس قال : لما عُرج بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الجنة- أو كما قال- عَرَض له نهر حافَتاه الياقوت المجوّف- أو قال : المجوّب- فضرب المَلك الذي معه بيده فيه ، فاستخرج مسكا ، فقال محمد للملك الذي معه : «ما هَذَا ؟ » قال : هذا الكوثر الذي أعطاك الله . قال : ورُفِعت له سِدْرة المنتَهَى ، فأبصر عندها أثرا عظيما ، أو كما قال .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «بَيْنَما أنا أسِيرُ فِي الجَنّةِ ، إذْ عَرَضَ لي نَهْرٌ ، حافَتاهُ قِبابُ اللّؤْلُؤِ المُجَوّفِ ، فقالَ المَلكُ الّذِي مَعَهُ : أتَدْرِي ما هَذَا ؟ هَذَا الْكَوْثَرُ الّذِي أعْطاكَ اللّهُ إيّاهُ ، وَضَرَبَ بِيَدِهِ إلى أرْضِهِ ، فأخْرَجَ مِنْ طِينِهِ المِسْكَ » .
حدثني ابن عوف ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا شيبان ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمّا عُرِجَ بِي إلى السّماءِ ، أتَيْتُ عَلى نَهْرٍ حافَتاهُ قِبابُ اللّؤْلُؤِ المُجَوّفِ ، قُلت : ما هَذَا يا جِبْرِيلُ ؟ قال : هَذَا الْكَوْثَرُ الّذِي أعْطاكَ رَبّكَ ، فأَهْوَى المَلَكُ بيَدِهِ ، فاسْتَخْرَجَ طِينَهُ مِسْكا أذْفَرَ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دَخَلْتُ الجَنّة ، فَإذَا أنا بِنَهْرٍ حافَتاهُ خِيامُ اللّؤْلُؤِ ، فَضَرَبْتُ بِيَدِي إلى ما يَجْرِي فِيهِ ، فإذَا مِسْكٌ أذْفَرُ . قال : قُلْتُ : ما هَذَا يا جِبْرِيلُ ؟ قال : هَذَا الْكَوْثَرُ الّذِي أعْطاكَهُ اللّهُ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو حديث يزيد ، عن سعيد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا أحمد بن أبي سريج ، قال : حدثنا أبو أيوب العباس ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم ابن أخي ابن شهاب ، عن أبيه ، عن أنس ، قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر ، فقال : «هُوَ نَهْرٌ أعْطانِيهِ اللّهُ فِي الجَنّةِ ، تُرَابُهُ مِسْكٌ أبْيَضُ مِنَ اللّبَنِ ، وأحْلَى مِنَ العَسَلِ ، تَرِدُهُ طَيرٌ أعْناقُها مِثْلُ أعْناقِ الجُزُرِ » ، قال أبو بكر : يا رسولَ الله ، إنها لناعمة ؟ قال : «آكِلُها أنْعَمُ مِنْها » .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي وقاص الليثي ، عن كثير ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دَخَلْتُ الجَنّةَ حِينَ عُرِجَ بي ، فأُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ ، فإذَا هُوَ نَهْرٌ فِي الجَنّةِ ، عُضَادَتاهُ بُيُوتٌ مُجَوّفَةٌ مِنْ لُؤْلَؤٍ » .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن عبد الله بن مسلم بن شهاب ، عن أنس : أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ما الكوثر ؟ قال : «نَهْرٌ أعْطانِيهِ اللّهُ فِي الجَنّةِ ، لَهُوَ أشَدّ بَياضا مِنَ اللّبنِ ، وأحْلَى مِنَ العَسَلِ ، فِيهِ طُيُورٌ أعْناقُها كأعْناقِ الجُزُرِ » . قال عمر : يا رسول الله إنها لناعمة ، قال : «آكِلُها أنْعَمُ مِنْها » .
حدثنا يونس ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الله ، قال : ثني الليث ، عن ابن الهاد ، عن عبد الوهاب عن عبد الله بن مسلم بن شهاب ، عن أنس ، أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله .
حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن الزهري أن أخاه عبد الله ، أخبره أن أنس بن مالك صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبره : أن رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما الكوثر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هُوَ نَهْرٌ أعْطانِيْهِ اللّهُ فِي الجَنّةِ ، ماؤُهُ أبْيَضُ مِنَ اللّبنِ ، وأحْلَى مِنَ العَسَلِ ، فِيهِ طُيُورٌ أعْناقُها كأعْناقِ الجُزُرِ » ، فقال عمر : إنها لناعمة يا رسول الله ، فقال : «آكِلُها أنْعَمُ مِنْها » .
فقال : عمر بن عثمان : قال ابن أبي أُوَيس : وحدثني أبي ، عن ابن أخي الزهريّ ، عن أبيه ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكوثر ، مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن فضيل ، قال : حدثنا عطاء ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الجَنّةِ ، حافَتاهُ مِنْ ذَهَبٍ ، ومَجْرَاهُ عَلى الْياقُوتِ والدّرّ ، تُرْبَتُهُ أطْيَبُ مِنَ المِسْكِ ، ماؤُهُ أحْلَى مِنَ العَسَلِ ، وأشَدّ بَياضا مِنَ الثّلْجِ » .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، قال : قال لي محارب بن دِثار : ما قال سعيد بن جُبير في الكوثر ؟ قلت : حَدّثنا عن ابن عباس ، أنه قال : هو الخير الكثير ، فقال : صدق والله ، إنه للْخير الكثير ، ولكن حَدّثنا ابن عمر ، قال : لما نزلت : { إنّا أعْطَيْناكَ الكَوْثَرَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الجَنّةِ ، حافَتاهُ منْ ذَهَبٍ ، يَجْرِي عَلى الدّرّ والْياقُوت » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «الكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الجَنّة » ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «رأيْتُ نَهْرا حَافتاهُ اللّؤْلُؤُ ، فَقُلْتُ : يا جِبْرِيلُ ما هَذَا ؟ قال : هَذا الْكَوْثَرُ الّذِي أعْطاكَهُ اللّهُ » .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مَريم ، قال : حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، قال : أخبرنا حزام بن عثمان ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أُسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى حمزة بن عبد المطلب يوما ، فلم يجده ، فسأل امرأته عنه ، وكانت من بني النجّار ، فقالت : خرج ، بأبي أنت آنفا عامدا نحوك ، فأظنه أخطأك في بعض أزقة بني النجّار ، أوَلاَ تدخل يا رسول الله ؟ فدخل ، فقدّمت إليه حَيْسا ، فأكل منه ، فقالت : يا رسول الله ، هنيئا لك ومريئا ، لقد جئت وإني لأريد أن آتيَك فأهنيَك وأَمْرِيَك . أخبرني أبو عمارة أنك أُعطيت نهرا في الجنة يُدعى الكوثر ، فقال : «أجَلْ ، وَعَرْضُهُ -يعني أرضه- ياقُوتٌ وَمَرْجانٌ وَزَبَرْجَدٌ وَلُؤْلُؤٌ » .
بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك } وقرئ ( أنطيناك الكوثر ) ، الخير المفرط الكثرة من العلم والعمل وشرف الدارين . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه " نهر في الجنة وعدنيه ربي ، فيه خير كثير ، أحلى من العسل ، وأبيض من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد . حافتاه الزبرجد ، وأوانيه من فضة . لا يظمأ من شرب منه " . وقيل : حوض فيها . وقيل : أولاده وأتباعه ، أو علماء أمته ، والقرآن العظيم .
وهي مكية{[1]} .
قرأ الحسن : «إنا أنطيناك » ، وهي لغة في أعطى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «واليد المنطية خير من السفلى{[12004]} » ، وقال الأعشى : [ المتقارب ]
جيادك خير جياد الملوك . . . تصان الجلال وتنطى الشعيرا{[12005]}
قال أنس وابن عمر وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين : { الكوثر } : نهر في الجنة ، حافتاه قباب من در مجوف ، وطينه مسك ، وحصباؤه ياقوت ، ونحو هذا من صفاته ، وإن اختلفت ألفاظ الرواة ، وقال ابن عباس أيضاً : { الكوثر } : الخير الكثير .
قال القاضي أبو محمد : كوثر : بناء مبالغة من الكثرة ، ولا مجال أن الذي أعطى الله محمداً عليه السلام من النبوة ، والحكمة ، والعلم بربه ، والفوز برضوانه ، والشرف على عباده ، هو أكثر الأشياء وأعظمها ، كأنه يقول في هذه الآية : { إنا أعطيناك } الحظ الأعظم . قال سعيد بن جبير : النهر الذي في الجنة هو من الخير الذي أعطاه الله إياه ، فنعم ما ذهب إليه ابن عباس ، ونعم ما تمم ابن جبير رضي الله عنهم . وأمر النهر ثابت في الآثار في حديث الإسراء وغيره ، صلى الله عليه وسلم على محمد ، ونفعنا بما منحنا من الهداية . قال الحسن : { الكوثر } ، القرآن . وقال أبو بكر بن عياش : هو كثرة الأصحاب والأتباع . وقال جعفر الصادق : نور في قلبه ، ودله عليه ، وقطعه عما سواه . وقال أيضاً : هو الشفاعة . وقال هلال بن يساف{[12006]} : هو التوحيد .
سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها في جميع التفاسير أيضا { سورة الكوثر } وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه . وعنونها البخاري في صحيحه سورة { إنا أعطيناك الكوثر } ولم يعدها في الإتقان مع السور التي ليس لها أكثر من اسم .
ونقل سعد الله الشهير بسعدي في حاشيته على تفسير البيضاوي عن البقاعي أنها تسمى { سورة النحر } وهل هي مكية أو مدنية? تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا ، فهي مكية عند الجمهور وأقتصر عليه أكثر المفسرين ، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال : أجمع من نعرفه على أنها مكية . قال الخفاجي : وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها .
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وأنحر إن شانئك هو الأبتر } ثم قال : أتدرون ما الكوثر? قلنا الله ورسوله أعلم . قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل ، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة الحديث . وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ { آنفا } في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب ، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا .
ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } أن تكون السورة مكية ، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى { وانحر } من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك .
والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها .
وعلى القول بأنها مكية عدوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة العاديات وقبل سورة التكاثر . وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل : إنها نزلت في الحديبية .
وهي أقصر سور القرآن عدد كلمات وعدد حروف ، وأما في عدد الآيات فسورة العصر وسورة النصر مثلها ولكن كلماتها أكثر .
اشتملت على بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة .
وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة .
وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله ، وغضب الله بتر لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله .
وإن انقطاع الولد الذكر فليس بترا لأن ذلك لا أثر له في كلام الإنسان .
افتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر . والإِشعار بأنه شيء عظيم يستتبع الإِشعار بتنويه شأن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] . والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق .
وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم .
و { الكوثر } : اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زِنة فوْعل ، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو الكوكب ، والجورب ، والحوشب والدوسر{[465]} ، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها ، ولما وقع هنا فيها مادة الكَثْر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى ، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة ، وهو أحسن ما فُسر به وأضبطُه ، ونظيره : جَوْهر ، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوّه ، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها .
ويوصفُ الرجل صاحب الخير الكثير بكَوثر من باب الوصف بالمصدر كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي :
وصاحب ملحوب فُجعنا بفقده *** وعند الرّداع بيتُ آخر كوثر
( ملحوب والرداع ) كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة ، فوصف البيت بكوثر ولاحظ الكميت هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان :
وأنتَ كثيرٌ يا ابنَ مروان طيبٌ *** وكان أبوك ابنُ العقايل كَوْثرا
وسمي نهر الجنة كوثراً كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفاً .
وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير ، وروي عن ابن عباس ، قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس : إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير . وعن عكرمة : الكوثر هنا : النبوءة والكتاب ، وعن الحسن : هو القرآن ، وعن المغيرة : أنه الإِسلام ، وعن أبي بكر بن عَيَّاش : هو كثرة الأمة ، وحكى الماوردي : أنه رفعة الذكر ، وأنه نور القلب ، وأنه الشفاعة ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره .
وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالةُ ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه : هو أبتر ، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر ، إبطالاً لقولهم .