وهنا يواجههم ببأس الله الذي قد يأخذهم بعد النجاة ! فما هي مرة وتنتهي ، ثم يفلتون من القبضة كما يتصورون :
( قل : هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ، أو من تحت أرجلكم ، أو يلبسكم شيعا ، ويذيق بعضكم بأس بعض . انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) . .
وتصور العذاب الغامر من فوق ، أو النابع من تحت ، أشد وقعا في النفس من تصوره آتيا عن يمين أو شمال . فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال ! أما العذاب الذي يصب عليه من فوق ، أو يأخذه من تحت ، فهو عذاب غامر قاهر مزلزل ، لا مقاومة له ولا ثبات معه ! والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه ، وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء .
ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله ؛ والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء ؛ لونا آخر بطيئا طويلا ؛ لا ينهي أمرهم كله في لحظة ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار :
( أو يلبسكم شيعا ، ويذيق بعضكم بأس بعض ) . .
وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد ؛ الذي يذوقونه بأيديهم ، ويجرعونه لأنفسهم ؛ إذ يجعلهم شيعا وأحزابا ، متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض ، ولا يفاصل بعضها بعضا ، فهي أبدا في جدال وصراع ، وفي خصومة ونزاع ، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك . .
ولقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب ، كلما انحرفت عن منهج الله وتركت لأهواء البشر ونزواتهم وشهواتهم وجهالتهم وضعفهم وقصورهم . . تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالة والضعف والقصور . وكلما تخبط الناس وهم يضعون أنظمة للحياة وأوضاعا وشرائع وقوانين وقيما وموازين من عند أنفسهم ؛ يتعبد بها الناس بعضعهم بعضا ؛ ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وشرائعه وقوانينه البعض الآخر ، والبعض الآخر يأبى ويعارض ، وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض . وتتصارع رغباتهم وشهواتهم وأطماعهم وتصوراتهم . فيذوق بعضهم بأس بعض ، ويحقد بعضهم على بعض ، وينكر بعضهم بعضا ، لأنهم لا يفيئون جميعا إلى ميزان واحد ؛ يضعه لهم المعبود الذي يعنوا له كل العبيد ، حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكبارا عن الخضوع له ، ولا يحس في نفسه صغارا حين يخضع له .
إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم ، ثم يزاول هذا الحق فعلا ! إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعا ملتبسة ؛ لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعا واحدا ، ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيدا لبعض ؛ ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها - لأنها غير مقيدة بشريعة من الله - ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص . . ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض ! وهم شيع ؛ ولكنها ليست متميزة ولا منفصله ولا مفاصلة ! والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد !
وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض . وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة بها - والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها ، ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية - وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها ؛ باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذي يؤثرون البقاء في الجاهلية ، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها .
إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب : ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) . . إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديا وشعوريا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها - حتى يأذن الله لها بقيام " دار إسلام " تعتصم بها - وإلا أن تشعر شعورا كاملا بأنها هي " الأمة المسلمة " وأن ما حولها ومن حولها ، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه ، جاهلية وأهل جاهلية . وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج ؛ وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين .
فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة ، ولم تتميز هذا التميز ، حق عليها وعيد الله هذا . وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع ، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع ، ولا تتبين نفسها ، ولا يتبينها الناس مما حولها . وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد ؛ دون أن يدركها فتح الله الموعود !
إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات . . غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه ، ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها . .
ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله ، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره ، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم . . لم يقع في مرة واحدة ، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتهالقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة - أي الدين - وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها - أي نظام حياتها - وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعا .
وطريق هذه الدعوة واحد . ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعا ، صلوات الله عليهم وسلامه :
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىَ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاَيَاتِ لَعَلّهُمْ يَفْقَهُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء العادلين بربهم غيره من الأصنام والأوثان يا محمد : إن الذي ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر ومن كلّ كرب ثم تعودون للإشراك به ، وهو القادر على أن يرسل عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم ، لشرككم به وادّعائكم معه إلها آخر غيره وكفرانكم نعمه مع إسباغه عليكم آلاءه ومننه .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى العذاب الذي توعد الله به هؤلاء القوم أن يبعثه عليهم من فوقهم أو من تحت أرجلهم ، فقال بعضهم : أما العذاب الذي توعدهم به أن يبعثه عليه من فوقهم : فالرجم وأما الذي توعدهم أن يبعثه عليهم من تحتهم : فالخسف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك : قُلْ هُوَ القَادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ قال : الخسف .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن الأشجعي ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك وسعيد بن جبير ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا قال : أبو سلمة ، عن شبل ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : قُلْ هُوَ القَادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ قال الخسف .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قُلْ هُوَ القَادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ فعذاب السماء ، أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ فيخسف بكم الأرض .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : قُلْ هُوَ القَادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ قال : كان ابن مسعود يصيح وهو في المجلس أو على المنبر : ألا أيها الناس إنه نزل بكم ، إن الله يقول : قُلْ هُوَ القَادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ لو جاءكم عذاب من السماء لم يبق منكم أحدا ، أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ لو خسف بكم الأرض أهلككم ولم يبق منكم أحدا ، أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بأْسَ بَعْضٍ ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث .
وقال آخرون : عَنَى بالعذاب من فوقكم : أئمة السوء ، أو من تحت أرجلكم : الخَدَمَ وسفلةَ الناس . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت خلادا يقول : سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول : إن ابن عباس كان يقول في هذه : قُلْ هُوَ القَادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ فأما العذاب من فوقكم : فأئمة السوء . وأما العذاب من تحت أرجلكم : فخدم السوء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قُلْ هُوَ القَادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ يعني : من أمرائكم ، أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ يعني : سفلتكم .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي قول من قال : عنى بالعذاب من فوقهم الرجم أو الطوفان وما أشبه ذلك مما ينزل عليهم من فوق رءوسهم ، ومن تحت أرجلهم : الخسف وما أشبهه . وذلك أن المعروف في كلام العرب من معنى «فوق » و «تحت » الأرجل ، هو ذلك دون غيره ، وإن كان لما رُوي عن ابن عباس في ذلك وجه صحيح ، غير أن الكلام إذا تنوزع في تأويله فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحقّ وأولى من غيره ما لم يأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها .
القول في تأويل قوله تعالى : أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بأْسَ بَعْضٍ .
يقول تعالى ذكره : أو يخلطكم شيعا : فرقا ، واحدتها شيعة ، وأما قوله : يَلْبِسَكُمْ فهو من قولك : لَبَسْتُ عليه الأمر ، إذا خلطت ، فأنا ألبِسُه . وإنما قلت إن ذلك كذلك ، لأنه لا خلاف بين القرّاء في ذلك بكسر الباء ، ففي ذلك دليل بَيّنٌ على أنه من لَبَسَ يَلْبِسُ ، وذلك هو معنى الخلط . وإنما عنى بذلك : أو يخلطكم أهواء مختلفة وأحزابا مفترقة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا الأهواء المفترقة .
حدثنا حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا قال : يفرّق بينكم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا قال : ما كان منكم من التفرّق والاختلاف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا قال : الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف والأهواء وسفك دماء بعضهم بعضا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا قال : الأهواء والاختلاف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا يعني بالشيع : الأهواء المختلفة .
وأما قوله : وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بأْسَ بَعْضٍ فإنه يعني : بقتل بعضكم بيد بعض ، والعرب تقول للرجل ينال بسلاح فيقتله به : قد أذاق فلان فلانا الموت وأذاقه بأسه . وأصل ذلك من ذوق الطعام وهو يطعمه ، ثم استعمل ذلك في كلّ ما وصل إلى الرجل من لذّة وحلاوة أو مرارة ومكروه وألم . وقد بينت معنى البأس في كرم العرب فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أإهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَيُذِيقَ بَعْضَكمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالسيوف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان عارم ، قال : حدثنا حماد ، عن أبي هارون العبدي ، عن عوف البكالي ، أنه في قوله : وَيُذِيقَ بَعْضَكمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال : هي والله الرجال في أيديهم الحراب يطعنون في خواصركم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَيُذِيقَ بَعْضَكمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال : يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب .
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : عذاب هذه الأمة أهل الإقرار بالسيف ، أوْ يَلْبِسُكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكمْ بَأْسَ بَعْضٍ وعذاب أهل التكذيب : الصيحة والزلزلة .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذ الاَية ، فقال بعضهم : عُني بها المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفيهم نزلت . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : قُلْ هُوَ القادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ . . . الاَية ، قال : فهنّ أربع وكلهنّ عذاب ، فجاء منهنّ اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ، فألبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض ، وبقيت اثنتان ، فهما لا بدّ واقعتان ، يعني : الخسف والمسخ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعفاكم منه ، وأعفاكم منه . أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا قال : ما كان فيكم من الفتن والاختلاف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قُلْ هُوَ القادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا . . . الاَية ، ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات يوم الصبح فأطالها ، فقال له بعض أهله : يا نبيّ الله لقد صليت صلاة ما كنت تصليها قال : «إنّها صَلاة رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ ، وإنّي سألْتُ ربّي فِيها ثَلاثا : سألْتُه أنْ لا يُسَلّط على أمّتي عَدوّا مِنْ غيرِهِمْ فَيُهْلِكَهُمْ فَأعْطانِيها وسألْتُهُ أنْ لا يُسَلّطَ على أُمّتِي السّنَةَ فأعْطانِيها وسألْتُهُ أنْ لا يَلْبِسَهُمْ شِيَعا وَلاَ يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، فَمَنَعنِيها » ، ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «لا تَزَال طائفَةٌ مِنْ أمّتِي يُقاتِلُونَ على الحَقّ ظاهرَينَ لا يَضُرّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حتى يَأتِيَ أمْرَ اللّهِ » .
حدثنا أحمد بن الوليد القرشيّ وسعيد بن الربيع الرازي ، قالا : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو ، سمع جابرا يقول : لما أنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم : قُلْ هُوَ القادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ قال : «أعُوذ بِوَجْهِكَ » ، أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال : «هَاتَانِ أيْسَرٌ » ، أو «أهْوَنُ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن جابر ، قال : لما نزلت : قُلْ هُوَ القادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْقال : «نَعُوذ بِكَ ، نَعُوذ بِكَ » أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيعا قال : «هُوَ أهْوَنٌ » .
حدثني زياد بن عبيد الله المزني ، قال : حدثنا مروان بن معاوية الفزاريّ ، قال : حدثنا أبو مالك ، قال ثني نافع بن خالد الخزاعي ، عن أبيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم خفيفة تامة الركوع والسجود فقال : «قَدْ كَانَتْ صَلاةَ رَغْسَةٍ وَرهْبَةٍ ، فَسألْتُ اللّهَ فِيها ثَلاثا فأعْطَانِي اثْنَتَيْنِ ، وبَقِيَ وَاحِدَةٌ . سألْتُ اللّهَ أنْ لا يُصِيبَكُمْ بِعَذَابِ أصَابَ بِهِ مَنْ قَبْلَكُمْ فأعْطانيها ، وسألْتُ اللّهَ أنْ لا يُسَلّطَ عَلَيْكُمْ عَدوّا يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَكُمْ فأعْطانِيها ، وسألْتُهُ أنْ لا يَلْبِسُكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضُكُمْ بأْسَ بَعْضٍ ، فَمَنَعنِيها » . قال أبو مالك : فقلت له : أبوك سمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : نعم سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، عن أبي أسماء الرّحبيّ ، عن شدّاد بن أوس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : «إنّ اللّهَ زَوَى ليَ الأرْضَ حتى رأيْتُ مَشارِقَها ومَغَارِبَها ، وَإنّ مُلْكَ أُمّتي سَيَبْلُغَ ما زُوِيَ لي مِنْها ، وإنّي أُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ الأحْمَرَ والأبْيَضَ ، وإنّي سألْتُ رَبي أنْ لا يُهْلَكَ قَوْمي بِسَنَةٍ عامّةٍ وأنْ لا يَلْبَسَهُمْ شِيَعا وَلا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بأْسَ بَعْضٍ ، فقال : يا محمد ، إنّي إذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فإنّهُ لا يُرَدّ ، وإنّي أعْطَيْتُكَ لأُمّتِكَ أنْ لا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عامّةٍ وَلا أُسَلّطَ عَلَيْهمْ عَدُوّا مِمّنْ سِوَاهُمْ فَيُهْلِكَهُمْ بِعامّةِ حتى يَكُونَ بَعْضُهُم يُهْلِكُ بَعْضا وبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضا وبَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضا » ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنّي أخافُ على أُمّتِي الإئمّةَ المُضلّينَ ، فإذا وُضِعَ السّيُفُ فِي أُمّتِي لَمْ يَرْفَعْ عَنْهُمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن شدّاد بن أوس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنّي لا أخافُ على أُمّتِي إلاّ الأئمّةَ المُضِلّينَ » .
حدثنا محمد بن عبد اوعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن الزهري ، قال : راقب خباب بن الأرَثّ ، وكان بدريا ، النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، حتى إذا فرغ وكان في الصبح قال له : يا رسول الله ، لقد رأيتك تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها قال : «أجَلْ ، إنّها صَلاةُ رَغَبَ وَرَهَبٍ ، سألْتُ رَبي ثَلاثَ خِصَالٍ فأعْطَانِي اثْنَتَيْنِ ومَنَعَنِي وَاحِدَةً سألْتُهُ أنْ لا يُهْلِكَنَا بِمَا أهْلَكَ بِهِ الأمَمَ فأعْطَانِي ، وسألْتُهُ أنْ لا يُسَلّطَ عَلَيْنَا عَدُوّا فأعْطَانِي ، وسَأَلْتُهُ أنْ لا يَلْبِسْنَا شِيَعا ، فَمَنَعَنِي » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله : أوْ يُلْبِسَكُمْ شِيَعا قال : راقب خباب بن الأرث ، وكان بدريا ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : ثَلاثَ خصلاتٍ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : قُلْ هُوَ القادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أعُوذُ بِوَجْهِكَ » أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ قال النبي صلى الله عليه وسلم : أعُوذُ بِوَجْهِكَ » أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا قال : «هَذِهِ أهْوَنْ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «سألْتُ رَبي فأُعْطِيتُ ثَلاثا وَمُنِعْتُ وَاحِدَاةً سألْتُهُ أنْ لا يُسَلّطَ على أُمّتِي عَدُوّا مِنْ غَيرهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ ، وَلاَ يُسَلّطْ عَلَيْهِمْ جُوعا ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ على ضَلالَةٍ فأُعْطِيتُهُنّ . وسألْتُهُ أنْ لا يَلْبِسَهُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، فَمُنِعْتُ » .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي سألْتُ رَبي خِصَالاً ، فأعْطَانِي ثَلاثا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً ، سألْتُهُ أنْ لا تَكْفُرَ أُمّتِي صَفْقَةً وَاحدَةً فأعْطانِيها ، وسألْتُهُ لا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوّا مِنْ غيرِهِمْ فأعْطانيها ، وسألْتُهُ أنْ لا يُعَذّبَهُمْ بِمَا عَذّبَ بِهِ الأمَمَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأَعْطانِيها ، وسألْتُهُ أنْ لا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ، فَمَنَعَنِيها » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الاَية ، قوله : وَيُذِيقَ بَعْضَكمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال الحسن : ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يشهده عليهم : انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاَياتِ لَعَلّهُمْ يَفْقَهُونَ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتوضأ ، فسأل ربه أن لا يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ولا يلبس أمته شيعا ويذيق بعضم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل ، فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إنك سألت ربك أربعا ، فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين : لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم فإنهما عذابان لكلّ أمة اجتمعت على تكذيب نبيها وردّ كتاب ربها ولكنهم يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ، وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتاب والتصديق بالأنبياء ، ولكن يعذّبون بذنوبهم وأوحي إليه : فإمّا نَذْهَبَنّ بِكَ فإنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ يقول : من أمتك ، أوْ نُرِيَنّكَ الّذِي وَعَدْنَاهُمْ من العذاب العذاب وأنت حيّ ، فإنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ . فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فراجع ربه ، فقال : «أيّ مُصِيبَةٍ أشَدّ مِنْ أنْ أرَى أُمّتِي يُعَذِبُ بَعْضُها بَعْضا ؟ » وأُوحي إليه : الم أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرِكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتِنُونَ وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلْيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلْيَعْلَمَنّ الكاذِبينَ فأعلمه أن أمته لم تخصّ دون الأمم بالفتن ، وأنها ستُبلى كما ابتليت الأمم . ثم أنزل عليه : قُلْ رَبّ إما تُرِيَنّي ما يُوعَدُونَ رَبّ فَلاَ تَجْعَلَنِي فِي القَوْمِ الظّالِمِينَ فتعوّذ نبيّ الله ، فأعاذه الله ، لم ير من أمته إلا الجماعة والألفة والطاعة . ثم أنزل عليه آية حذّر فيها أصحابه الفتنة ، فأخبره أنه إنما يخصّ بها ناس منهم دون ناس ، فقال : واتّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيْبَنّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصّةً وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ فخصّ بها أقواما من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعده وعصم بها أقواما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : لما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما يكون في أمته من الفرقة والاختلاف ، فشقّ ذلك عليه ، ثم دعا فقال : «اللهمّ أظْهِرْ عَلَيْهِمْ أفْضَلَهُمْ تَقِيّةً » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو الأسود ، قال : أخبرنا ابن لهيعة ، عن خالد بن يزيد ، عن أبي الزبير ، قال : لما نزلت هذه الاَية : قُلْ هُوَ القادِرُ على أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أعُوذُ باللّهِ مِنْ ذَلِكَ » قال : أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْقال «أعوذُ باللّهِ مِنْ ذَلِكَ » قال أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا قال : «هَذِهِ أيْسَرُ » ولو استعاذه لأعاذه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا المؤمل البصريّ ، قال : أخبرنا يعقوب بن إسماعيل بن يسار المديني ، قال : حدثنا زيد بن أسلم ، قال : حدثنا زيد بن أسلم ، قال : لما نزلت : قُل هُوَ القَادِرُ على أن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِن فَوقِكُم أو مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ أو يَلْبِسَكُم شِيَعا ويُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَرجِعُوا بَعْدي كُفّارا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ بالسّيوفِ » فقالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؟ قال : «نعم » فقال بعض الناس : لا يكون هذا أبدا فأنزل الله : انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّف الاَياتِ لَعَلّهُم يَفْقَهُونَ وكَذّبَ بِهِ قَومُكَ وَهُوَ الحَقّ قُل لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلّ نَبَإٍ مُسْتَقَرّ وَسَوفَ تَعْلَمُونَ .
وقال آخرون : عُنى ببعضها أهل الشرك وببعضها أهل الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن هارون بن موسى ، عن حفص بن سليمان ، عن الحسن ، في قوله : قُل هُوَ القَادِرُ على أن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِن فَوقِكُم أو مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ قال : هذا للمشركين ، أو يَلْبِسَكُم شِيَعا ويُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال هذا للمسلمين .
والصواب من القول عندي أن يقال : إن الله تعالى توعده بهذه الاَية أهل الشرك به منعبدة الأوثان وإياهم خاطب بها ، لأنها بين إخبارهم عنهم وخطاب لهم ، وذلك أنها تتلو قوله : قُلْ يُنَجّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ البَرّ والبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرّعا وَخُفْيَةً لَئِنْ أنجانا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ قُلِ اللّهُ يُنْجّيكُمْ مِنُها وَمِنْ كُلّ كَرْبٍ ثُمّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ ويتلوها قوله : وكَذّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقّ وغير جائز أن يكون المؤمنون كانوا به مكذّبين . فإذا كان غير جائز أن يكون ذلك كذلك ، وكانت هذه الاَية بين هاتين الاَيتين ، كان بينا أن ذلك وعيد لمن تقدّم وصف الله إياه بالشرك وتأخر الخبر عنه بالتكذيب ، لا لمن لم يجر له ذكر غير أن ذلك وإن كان كذلك فإنه قد عمّ وعيده بذلك كل من سلك سبيلهم من أهل الخلاف على الله وعلى رسوله والتكذيب بآيات الله من هذه وغيرها . وأما الأخبار التي رُوِيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «سألْتُ رَبي ثَلاثا ، فأعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً فجائز أن هذه الاَية نزلت في ذلك الوقت وعيدا لمن ذكرت من المشركين ومن كان على منهاجهم من المخالفين ربهم ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعيذ أمته مما ابتلى به الأمم الذين استوجبوا من الله تعالى بمعصيتهم إياه هذه العقوبات فأعاذهم بدعائه إياه ورغبته إياه من المعاصي التي يستحقون بها من هذه الخلال الأربع من العقوبات أغلظها ، ولم يعذهم من ذلك ما يستحقون به اثنتين منها . وأما الذين تأوّلوا أنه عني بجميع ما في هذه الاَية هذه الأمة ، فإني أراهم تأوّلون أن في هذه الأمة من سيأتي من معاصي الله وركوب ما يسخط الله نحو الذي ركب من قبلهم من الأمم السالفة من خلافه والكفر به ، فيحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من الثلاث والنّقِمات وكذلك قال أبو العالية ومن قال بقوله : جاء منهنّ اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ » وأنّ قَوْما مِنْ أُمّتِهِ سَيَبِيتُونَ على لَهْوٍ وَلَعِبٍ ثُمّ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وَخَنازِيرَ وذلك إذا كان ، فلا شكّ أنه نظير الذي في الأمم الذين عتوا على ربهم في التكذيب وجحدوا آياته . وقد رُوِي نحو الذي روي عن أبي العالية ، عن أبيّ .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا سفيان ، قال : أخبرنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب : قُل هُوَ القَادِرُ على أن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِن فَوقِكُم أو مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ أو يَلْبِسَكُم شِيَعا قال : أربع خلال ، وكلهنّ عذاب ، وكلهنّ واقع قبل يوم القيامة ، فمضت اثنتان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة : أُلبسوا شيعا ، وأذيق بعضهم بأس بعض ، وثنتان واقعتان لا محالة : الخسف ، والرجم .
القول في تأويل قوله تعالى : انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّف الاَياتِ لَعَلّهُم يَفْقَهُونَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انظر يا محمد بعين قلبك إلى ترديدنا حججنا على هؤلاء المكذّبين بربهم الجاحدين نعمه وتصريفناها فيهم . لَعَلّهُمْ يَفْقَهُونَ يقول : ليفقهوا ذلك ويعتبروه ، فيذكروا ويزدجروا عما هم عليه مقيمون مما يسخطه الله منهم من عبادة الأوثان والأصنام ، والتكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم . )
{ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل . { أو من تحت أرجلكم } كما أغرق فرعون ، وخسف بقارون . وقيل من فوقكم أكابركم وحكامكم ومن تحت أرجلكم سفلتكم وعبيدكم . { أو يلبسكم } يخلطكم . { شيعا } فرقا متحزبين على أهواء شتى ، فينشب القتال بينكم قال :
وكتيبة لبستها بكتيبة *** حتى إذا التبست نفضت لها يدي
{ ويذيق بعضكم بأس بعض } يقاتل بعضكم بعضا . { انظر كيف نصرف الآيات } بالوعد والوعيد . { لعلهم يتقون } .
هذا إخبار يتضمن الوعيد ، والأظهر من نسق الآيات أن هذا الخطاب للكفار الذين تقدم ذكرهم وهو مذهب الطبري ، وقال أبيّ بن كعب وأبو العالية وجماعة معهما : هي للمؤمنين وهم المراد ، قال أبي بن كعب : هي أربع خلال وكلهن عذاب وكلهن واقع قبل يوم القيامة فمضت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ، ثم لبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض ، واثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم ، وقال الحسن بن أبي الحسن : بعضها للكفار وبعضها للمؤمنين بعث العذاب من فوق وتحت للكفار وسائرها للمؤمنين ، وهذا الاختلاف إنما هو بحسب ما يظهر من أن الآية تتناول معانيها المشركين والمؤمنين ، وروي من حديث جابر وخالد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت { أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال أعوذ بوجهك فلما نزلت { أو من تحت أرجلكم } قال : أعوذ بوجهك فلما نزلت { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال هذه أهون أو هذه أيسر{[4952]} ، فاحتج بهذا من قال إنها نزلت في المؤمنين ، وقال الطبري : وغير ممتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ لأمته من هذه الأشياء التي توعد بها الكفار ، وهون الثالثة لأنها بالمعنى هي التي دعا بها فمنع حسب حديث الموطأ وغيره ، وقد قال ابن مسعود : إنها أسوأ الثلاث ، وهذا عندي على جهة الإغلاظ في الموعظة ، والحق أنها أيسرها كما قال عليه السلام ، و { من فوقكم ومن تحت أرجلكم } لفظ عام للمنطبقين على الإنسان وقال السدي عن أبي مالك { من فوقكم } الرجم { ومن تحت أرجلكم } الخسف وقاله سعيد بن جبير ومجاهد ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : { من فوقكم } ولاة الجور { ومن تحت أرجلكم } سفلة السوء وخدمة السوء .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه كلها أمثلة لا أنها هي المقصود ، إذ هذه وغيرها من القحوط والغرق وغير ذلك داخل في عموم اللفظ و { يلبسكم } على قراءة الستة معناه يخلطكم شيعاً فرقاً بتشيع بعضها لبعض ، واللبس :الخلط ، وقال المفسرون هو افتراق الأهواء والقتال بين الأمة ، وقرأ أبو عبد الله المدني «يُلبسكم » بضم الياء من ألبس ، فهوعلى هذه استعارة من اللباس ، فالمعنى أو يلبسكم الفتنة شيعاً و { شيعاً } منصوب على الحال وقد قال الشاعر [ النابغة الجعدي ] : [ المتقارب ]
لبِسْت أُناساً فأفْنَيْتهم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4953]}
فهذه عبارة عن الخلطة والمقاساة ، والبأس القتل وما أشبهه من المكاره ، { ويذيق } استعارة إذ هي من أجل حواس الاختبار ، وهي استعارة مستعملة في كثير من كلام العرب وفي القرآن ، وقرأ الأعمش «ونذيق » بنون الجماعة ، وهي نون العظمة في جهة الله عز وجل ، وتقول أذقت فلاناً العلقم تريد كراهية شيء صنعته به ونحو هذا ، وفي قوله تعالى { انظر كيف نصرف } الآية ، استرجاع لهم وإن كان لفظها لفظ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم فمضمنها أن هذه الآيات والدلائل إنما هي لاستصرافهم عن طريق غيهم ، و «الفقه » الفهم .
{ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } .
استئناف ابتدائي عُقّب به ذكرُ النعمة التي في قوله : { قل من يُنجّيكم } بذكر القدرة على الانتقام ، تخويفاً للمشركين . وإعادة فعل الأمر بالقول مثل إعادته في نظائره للاهتمام المبيَّن عند قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ] . والمعنى قل للمشركين ، فالمخاطب بضمائر الخطاب هم المشركون . والمقصود من الكلام ليس الإعلام بقدرة الله تعالى فإنَّها معلومة ، ولكن المقصود التهديد بتذكيرهم بأنّ القادر من شأنه أن يُخاف بأسُه فالخبر مستعمل في التعريض مجازاً مرسلاً مركّباً ، أو كناية تركيبية . وهذا تهديد لهم ، لقولهم { لولا أنزل عليه آية من ربِّه } [ يونس : 20 ] .
وتعريف المسند والمسند إليه أفاد القصر ، فأفاد اختصاصه تعالى بالقدرة على بعث العذاب عليهم وأنّ غيره لا يقدر على ذلك فلا ينبغي لهم أن يخشوا الأصنام ، ولو أرادوا الخير لأنفسهم لخافوا الله تعالى وأفردوه بالعبادة لمرضاته ، فالقصر المستفاد إضافي . والتعريف في { القادر } تعريف الجنس ، إذ لا يقدر غيره تعالى على مثل هذا العذاب .
والعذاب الذي من فوق مثل الصواعق والريح ، والذي من تحت الأرجل مثل الزلازل والخسف والطوفان .
و{ يلبسكم } مُضارع لَبَسَه بالتحريك أي خلطه ، وتعدية فعل { يلبسكم } إلى ضمير الأشخاص بتقدير اختلاط أمرهم واضطرابه ومَرجه ، أي اضطراب شؤونهم ، فإنّ استقامة الأمور تشبه انتظام السلك ولذلك سمَّيت استقامة أمور الناس نظاماً . وبعكس ذلك اختلال الأمور والفوضى تشبه اختلاط الأشياء ، ولذلك سمّي مَرَجاً ولَبْساً . وذلك بزوال الأمن ودخول الفساد في أمور الأمّة ، ولذلك يقرن الهَرْج وهو القتل بالمَرْج ، وهو الخلط فيقال : هم في هَرْج ومَرْج ، فسكون الراء في الثاني للمزاوجة .
وانتصب { شِيَعاً } على الحال من الضمير المنصوب في { يَلْبِسَكم } . والشيَع جمع شيعة بكسر الشين وهي الجماعة المتَّحدة في غرض أو عقيدة أو هوى فهم متّفقون عليه ، قال تعالى : { إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيَاً لست منهم في شيء } [ الأنعام : 159 ] . وشيعة الرجل أتباعه والمقتدون به قال تعالى : { وإنّ من شيعته لإبراهيم } [ الصافات : 83 ] أي من شيعة نوح .
وتشتّت الشيع وتعدّد الآراء أشدّ في اللبس والخلط ، لأنّ اللبس الواقع كذلك لبس لا يرجى بعده انتظام .
وعطف عليه { ويذيق بعضَكم بأس بعض } لأنّ من عواقب ذلك اللبس التقاتل . فالبأس هو القتل والشرّ ، قال تعالى : { وسرابيل تقيكم بأسكم } [ النحل : 81 ] . والإذاقة استعارة للألم .
وهذا تهديد للمشركين كما قلنا بطريق المجاز أو الكناية . وقد وقع منه الأخير فإنّ المشركين ذاقوا بأس المسلمين يومَ بدر وفي غزوات كثيرة .
في « صحيح البخاري » عن جابر بن عبد الله قال : " لما نزلتْ { قُلْ هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال رسول صلى الله عليه وسلم أعوذُ بوجهك . قال : { أوْ من تحت أرجلكم } قال : أعوذ بوجهك قال : { أو يلبِسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال رسول الله : هذا أهون ، أو هذا أيسر " اه . واستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك خشية أن يعمّ العذاب إذا نزل على الكافرين مَن هو بجوارهم من المسلمين لقوله تعالى : { واتَّقُوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة } [ الأنفال : 25 ] وفي الحديث قالوا : « يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث » وفي الحديث الآخر « ثم يُحْشَرُون على نيّاتهم » ومعنى قوله : هذه أهون ، أنّ القتل إذا حلّ بالمشركين فهو بيد المسلمين فيلحق المسلمين منه أذى عظيم لكنَّه أهون لأنَّه ليس فيه استئصال وانقطاع كلمة الدين ، فهو عذاب للمشركين وشهادة وتأييد للمسلمين . وفي الحديث : « لا تتمنَّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية » وبعض العلماء فسّر الحديث بأنَّه استعاذ أن يقع مثل ذلك بين المسلمين . ويتَّجه عليه أن يقال : لماذا لم يستعذ الرسول صلى الله عليه وسلم من وقوع ذلك بين المسلمين ، فلعلّه لأنه أوحي إليه أنّ ذلك يقع في المسلمين ، ولكن الله وعده أن لا يسلِّط عليهم عدوّاً من غير أنفسهم . وليست استعاذته بدالة على أنّ الآية مراد بها خطاب المسلمين كما ذهب إليه بعض المفسّرين ، ولا أنَّها تهديد للمشركين والمؤمنين ، كما ذهب إليه بعض السلف ؛ إلاّ على معنى أنّ مفادها غيرَ الصريح صالح للفريقين لأنّ قدرة الله على ذلك صالحة للفريقين ، ولكن المعنى التهديدي غير مناسب للمسلمين هنا . وهذا الوجه يناسب أن يكون الخبر مستعملاً في أصل الإخبار وفي لازمه فيكون صريحاً وكناية ولا يناسب المجاز المركّب المتقدّم بيانه .
{ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الايات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } .
استئناف وردَ بعد الاستفهامين السابقين . وفي الأمر بالنظر تنزيل للمعقول منزلة المحسوس لقصد التعجيب منه ، وقد مضى في تفسير قوله تعالى : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في سورة [ النساء : 50 ]
وتصريف الآيات تنويعها بالترغيب تارة والترهيب أخرى . فالمراد بالآيات آيات القرآن . وتقدّم معنى التصريف عند قوله تعالى : { انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون } في هذه السورة [ 46 ] .
{ ولعلّهم يفقهون } استئناف بياني جواب لسؤال سائل عن فائدة تصريف الآيات ، وذلك رجاء حصول فهمهم لأنَّهم لعنادهم كانوا في حاجة إلى إحاطة البيان بأفهامهم لعلَّها تتذكَّر وترعوي .
وتقدّم القول في معنى ( لعلّ ) عند قوله تعالى : { لعلّكم تتّقون } في سورة [ البقرة : 21 ] .
وتقدّم معنى الفقه عند قوله تعالى : { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } في سورة [ النساء : 78 ] .