255- الله هو الذي يستحق أن يُعبد دون سواه ، وهو الباقي القائم على شئون خلقه دائماً ، الذي لا يغفل أبداً ، فلا يصيبه فتور ولا نوم ولا ما يشبه ذلك لأنه لا يتصف بالنقص في شيء ، وهو المختص بملك السماوات والأرض لا يشاركه في ذلك أحد ، وبهذا لا يستطيع أي مخلوق كان أن يشفع لأحد إلا بإذن الله ، وهو - سبحانه وتعالى - محيط بكل شيء عالم بما كان وما سيكون ، ولا يستطيع أحد أن يدرك شيئاً من علم الله إلا ما أراد أن يعلم به من يرتضيه ، وسلطانه واسع يشمل السماوات والأرض ، ولا يصعب عليه تدبير ذلك لأنه المتعالي عن النقص والعجز ، العظيم بجلاله وسلطانه .
وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال ، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان . . بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني ، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته ، وأوضح سماته . وهي آية جليلة الشأن ، عميقة الدلالة ، واسعة المجال :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم . لا تأخذه سنة ولا نوم . له ما في السماوات وما في الأرض . من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤوده حفظهما . وهو العلي العظيم ) . .
وكل صفة من هذه الصفات تتضمن قاعدة من قواعد التصور الإسلامي الكلية . ومع أن القرآن المكي في عمومه كان يدور على بناء هذا التصور ، فإننا نلتقي في القرآن المدني كذلك في مناسبات شتى بهذا الموضوع الأصيل إلهام . الذي يقوم على أساسه المنهج الإسلامي كله ، ولا يستقيم هذا المنهج في الحس إلا أن يستقيم ذلك الأساس ، ويتضح ، ويتحول إلى حقائق مسلمة في النفس ، ترتكن إلى الوضوح واليقين .
ولقد تحدثت فيما سبق عند تفسير سورة الفاتحة في أول الجزء الأول من هذه الطبعة من الظلال ، عن الأهمية البالغة لوضوح صفة الله - سبحانه - في الضمير الإنساني . بما أن الركام الذي كان يرين على هذا الضمير من تصورات الجاهلية كان معظمه ناشئا من غموض هذه الحقيقة ، ومن غلبة الخرافة والأسطورة عليها ؛ ومن الغبش التي يغشيها حتى في فلسفة أكبر الفلاسفة . . حتى جاء الإسلام فجلاها هذا الجلاء ، وأنقذ الضمير البشري من ذلك الركام الثقيل ، ومن ذلك الضلال والخبط في الظلماء !
وكل صفة من هذه الصفات التي تضمنتها هذه الآية تمثل قاعدة يقوم عليها التصور الإسلامي الناصع ، كما يقوم عليها المنهج الإسلامي الواضح .
فهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة - بعد الرسل - كعقيدة التثليث المبتدعة من المجامع الكنسية بعد عيسى - عليه السلام - ولا لأي غبش مما كان يرين على العقائد الوثنية التي تميل إلى التوحيد ، ولكنها تلبسه بالأساطير ، كعقيدة قدماء المصريين - في وقت من الأوقات - بوحدانية الله ، ثم تلبيس هذه الوحدانية بتمثل الإله في قرص الشمس ! ووجود آلهة صغيرة خاضعة له !
هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي ؛ والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها . فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة . فلا يكون إنسان عبدا إلا لله ، ولا يتجه بالعبادة إلا لله ، ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله ، وما يأمره الله به من الطاعات . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة : الحاكمية لله وحده . فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ؛ ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله ؛ فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله ، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله . . وهكذا إلى آخرما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء .
والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - بالحياة على هذا المعنى . كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية ، فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - كذلك بالحياة على هذا المعنى . ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة . فالله - سبحانه - ليس كمثله شيء ، ومن ثم يرتفع كل شبه من الخصائص التي تتميز بها حياة الأشياء ، وتثبت لله صفة الحياة مطلقة من كل خصيصة تحدد معنى الحياة في مفهوم البشر . . وتنتفي بهذا جميع المفهومات الأسطورية التي جالت في خيال البشر !
أما صفة( القيوم ) . . فتعني قيامه - سبحانه - على كل موجود . كما تعني قيام كل موجود به فلا قيام لشيء إلا مرتكنا إلى وجوده وتدبيره . . لا كما كان أكبر فلاسفة الإغريق - أرسطو - يتصور أن الله لا يفكر في شيء من مخلوقاته ، لأنه تعالى أن يفكر في غير ذاته ! ويحسب أن في هذا التصور تنزيها لله وتعظيما ؛ وهو يقطع الصلة بينه وبين هذا الوجود الذي خلقه . . وتركه . . فالتصور الإسلامي تصور إيجابي لا سلبي . يقوم على أساس أن الله - سبحانه - قائم على كل شيء ، وأن كل شيء قائم في وجوده على إرادة الله وتدبيره . . ومن ثم يظل ضمير المسلم وحياته ووجوده ووجود كل شيء من حوله مرتبطا بالله الواحد ؛ الذي يصرف أمره وأمر كل شيء حوله ، وفق حكمة وتدبير ، فيلتزم الإنسان في حياته بالمنهج المرسوم القائم على الحكمة والتدبير ؛ ويستمد منه قيمه وموازينه ، ويراقبه وهو يستخدم هذه القيم والموازين .
وهذا توكيد لقيامه - سبحانه - على كل شيء ، وقيام كل شيء به . ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم . في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله - سبحانه - لكل شيء . . ( ليس كمثله شيء ) . . وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أو النوم المستغرق ، وتنزهه - سبحانه - عنهما إطلاقا . .
وحقيقة القيام على هذا الوجود بكلياته وجزئياته في كل وقت وفي كل حالة . . حقيقة هائلة حين يحاول الإنسان تصورها ، وحين يسبح بخياله المحدود مع ما لا يحصيه عد من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل ؛ ويتصور - بقدر ما يملك - قيام الله - سبحانه - عليها ؛ وتعلقها في قيامها بالله وتدبيره . . إنه أمر . . أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني . وما يتصوره منه - وهو يسير - هائل يدير الرؤوس . ويحير العقول ، وتطمئن به القلوب . .
( له ما في السماوات وما في الأرض ) . .
فهي الملكية الشاملة . كما أنها هي الملكية المطلقة . . الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة . وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة . فالله الواحد هو الحي الواحد ، القيوم الواحد ، المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم . كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس . فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله ، لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء . إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء . ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروطالمالك المستخلف في هذه الملكية . وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته ؛ فليس لهم أن يخرجوا عنها ؛ وإلا بطلت ملكيتهم الناشئة عن عهد الاستخلاف ، ووقعت تصرفاتهم باطلة ، ووجب رد هذه التصرفات من المؤمنين بالله في الأرض . . وهكذا نجد أثر التصور الإسلامي في التشريع الإسلامي ، وفي واقع الحياة العملية التي تقوم عليه . وحين يقول الله في القرآن الكريم : ( له ما في السماوات وما في الأرض ) . فإنه لا يقرر مجرد حقيقة تصورية اعتقادية ؛ إنما يضع قاعدة من قواعد الدستور للحياة البشرية ونوع الارتباطات التي تقوم فيها كذلك .
على أن مجرد استقرار هذه الحقيقة في الضمير . . مجرد شعور الإنسان بحقيقة المالك - سبحانه - لما في السماوات وما في الأرض . . مجرد تصور الإنسان لخلو يده هو من ملكية أي شيء مما يقال : إنه يملكه ؛ ورد هذه الملكية لصاحبها الذي له ما في السماوات وما في الأرض . . مجرد إحساسه بأن ما في يده عارية لأمد محدود ، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها له في الأجل المرسوم . . مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر كفيل وحده بأن يطامن من حدة الشره والطمع ، وحدة الشح والحرص ، وحدة التكالب المسعور . وكفيل كذلك بأن يسكب في النفس القناعة والرضى بما يحصل من الرزق ؛ والسماحة والجود بالموجود ؛ وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء ؛ فلا تذهب النفس حسرات على فائت أو ضائع ؛ ولا يتحرق القلب سعارا على المرموق المطلوب !
( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ ) . .
وهذه صفة أخرى من صفات الله ؛ توضح مقام الألوهية ومقام العبودية . . فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية ؛ لا يتعدونه ولا يتجاوزونه ، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع ؛ الذي لا يقدم بين يدي ربه ؛ ولا يجرؤ على الشفاعة عنده ، إلا بعد أن يؤذن له ، فيخضع للإذن ويشفع في حدوده . . وهم يتفاضلون فيما بينهم ، ويتفاضلون في ميزان الله . ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد . .
إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية . يزيد هذا الإيحاء عمقا صيغة الاستفهام الاستنكارية ؛ التي توحي بأن هذا أمر لا يكون ؛ وأنه مستنكر أن يكون . فمن هو هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ وفي ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فزعموا لله - سبحانه - خليطا يمازجه أو يشاركه بالبنوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور ، أو زعموا له - سبحانه - اندادا يشفعون عنده فيستجيب لهم حتما . أو زعموا له - سبحانه - من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له . . في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعدة لا تخطر على الذهن ؛ ولا تجول في الخاطر ، ولا تلوح بظلها في خيال !
وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي ؛ فلا تدع مجالا لتلبيس أو وهم ، أو اهتزاز في الرؤية ! الألوهية الوهية . والعبودية عبودية . ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء . والرب رب ، والعبد عبد . ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء .
فأما صلة العبد بالرب ، ورحمة الرب للعبد ، والقربى والود والمدد . . فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكبا ؛ ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضا ؛ ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة . دون ما حاجة إلى خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية . ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة !
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) . .
وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه ، وفي تحديد مقامه هو من إلهه . فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم . وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم . فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم ؛ ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب . كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت . وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه . . أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه . .
وشطر الحقيقة الأول . . علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم . . من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة . النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها . يعلم ما تضمر علمه بما تجهر . ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل . ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه . . شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان ؛ كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه .
وشطر الحقيقة الثاني . . أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه . . جدير بأن يتدبره الناس طويلا . وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة .
( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) . .
إنه - سبحانه - هو الذي يعلم وحده كل شيء علما مطلقا شاملا كاملا . وهو - سبحانه - يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه ؛ تصديقا لوعده الحق : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . . ولكنهم هم ينسون هذه الحقيقة ؛ ويفتنهم ما يأذن الله لهم فيه من علمه . سواء كان هذا الذي أذن لهم فيه علم شيء من نواميس الكون وقوانينه ؛ أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة وإلى حد معين . . يفتنهم هذا كما يفتنهم ذاك ؛ فينسون الإإذن الأول الذي منحهم الإحاطة بهذا العلم . فلا يذكرون ولا يشكرون . بل يتبجحون وقد يكفرون .
إن الله سبحانه وهب الإنسان المعرفة مذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه . ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس ووعده الحق . وصدقه وعده فكشف له يوما بعد يوم ، وجيلا بعد جيل ، في خط يكاد يكون صاعدا أبدا ، عن بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية التي تلزم له في خلافة الأرض ، ليصل بها إلى أقصى الكمال المقدر له في هذه الرحلة المرسومة .
وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا الجانب وكشف له عنه ، بقدر ما زوى عنه أسرارا أخرى لا حاجة له بها في الخلافة . . زوى عنه سر الحياة وما يزال هذا السر خافيا ، وما يزال عصيا ، وما يزال البحث فيه خبطا في التيه بلا دليل ! وزوى عنه سر اللحظة القادمة . فهي غيب لا سبيل إليه . والستر المسدل دونها كثيف لا تجدي محاولة الإنسان في رفعه . . وأحيانا تومض من وراء الستر ومضة لقلب مفرد بإذن من الله خاص ؛ ثم يسدل الستر ويسود السكون ؛ ويقف الإنسان عند حده لا يتعداه !
وزوى عنه أسرارا كثيرة . . زوى عنه كل ما لا يتعلق بالخلافة في الأرض . . والأرض هي تلك الذرة الصغيرة السابحة في الفضاء كالهباءة . .
ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرف من العلم ، الذي أحاط به بعد الأذن . يفتن فيحسب نفسه في الأرض إلها ! ويكفر فينكر أن لهذا الكون إلها ! وإن يكن هذا القرن العشرون قد بدأ يرد العلماء حقا إلى التواضعوالتطامن . فقد بدأوا يعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ! وبقي الجهال المتعالمون الذين يحسبون أنهم قد علموا شيئا كثيرا !
( وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤوده حفظهما ) . .
وقد جاء التعبير في هذه الصورة الحسية في موضع التجريد المطلق ؛ على طريقة القرآن في التعبير التصويري ، لأن الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقا وثباتا . فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك . فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه . وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية . ولكن الصورة التي ترتسم في الحس من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن . وكذلك التعبير بقوله : ( ولا يؤوده حفظهما ) فهو كناية عن القدرة الكاملة . ولكنه يجيء في هذه الصورة المحسوسة . صورة انعدام الجهد والكلال . لأن التعبير القرآني يتجه إلى رسم صور للمعاني تجسمها للحس ، فتكون فيه أوقع وأعمق وأحس .
ولا حاجة بنا إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن ، إذا نحن فقهنا طريقة القرآن التعبيرية ؛ ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغريبة التي أفسدت علينا كثيرا من بساطة القرآن ووضوحه .
ويحسن أن أضيف هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما ورد منها في القرآن . ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان .
وهذه خاتمة الصفات في الآية ، تقرر حقيقة ، وتوحي للنفس بهذه الحقيقة . وتفرد الله سبحانه بالعلو ، وتفرده سبحانه بالعظمة . فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر . فلم يقل وهو علي عظيم ، ليثبت الصفة مجرد إثبات . ولكنه قال : ( العلي العظيم ) ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك !
إنه المتفرد بالعلو ، المتفرد بالعظمة . وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون ؛ وإلى العذاب في الآخرة والهوان . وهو يقول ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) . . ويقول عن فرعون في معرض الهلاك : إنه كان عاليا . .
ويعلو الإنسان ما يعلو ، ويعظم الإنسان ما يعظم ، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم . وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان ، فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه ؛ وترده إلى مخافة الله ومهابته ؛ وإلى الشعور بجلاله وعظمته ؛ وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده . فهي اعتقاد وتصور . وهي كذلك عمل وسلوك . .