78- إن الموت الذي تَفِرُّون منه ملاقيكم أينما كنتم ، ولو كانت إقامتكم في حصون مشيدة وإن هؤلاء الخائرين لضعف إيمانهم يقولون : إن أصابهم فوز وغنيمة هي من عند الله ، وإن أصابهم جدب أو هزيمة يقولوا لك - يا محمد - هذا من عندك وكان بشُؤْمك . فقل لهم : كل ما يصيبكم مما تحبون أو تكرهون هو من تقدير اللَّه ومن عنده اختبار وابتلاء ، فما لهؤلاء الضعفاء لا يدركون قولاً صحيحاً يتحدث به إليهم .
ثم أخبر أنه لا يغني حذر عن قدر ، وأن القاعد لا يدفع عنه قعوده شيئًا ، فقال : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ } أي : في أي زمان وأي مكان . { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : قصور منيعة ومنازل رفيعة ، وكل هذا حث على الجهاد في سبيل الله تارة بالترغيب في فضله وثوابه ، وتارة بالترهيب من عقوبة تركه ، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودُهم ، وتارة بتسهيل الطريق في ذلك وقصرها
ثم قال : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا }
يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل ، المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة أي : خصب وكثرة أموال ، وتوفر أولاد وصحة ، قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وأنهم إن أصابتهم سيئة أي : جدب وفقر ، ومرض وموت أولاد وأحباب قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : بسبب ما جئتنا به يا محمد ، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله ، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ }
وقال قوم صالح : { قالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ }
وقال قوم ياسين لرسلهم : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } الآية . فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم . وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم .
قال الله في جوابهم : { قُلْ كُلٌّ } أي : من الحسنة والسيئة والخير والشر . { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي : بقضائه وقدره وخلقه . { فَمَا لهَؤُلَاءِ الْقَوْم } أي : الصادر منهم تلك المقالة الباطلة . { لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } أي : لا يفهمون حديثا بالكلية ولا يقربون من فهمه ، أو لا يفهمون منه إلا فهمًا ضعيفًا ، وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله ، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم .
وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن الله وعن رسوله ، والحث على ذلك ، وعلى الأسباب المعينة على ذلك ، من الإقبال على كلامهما وتدبره ، وسلوك الطرق الموصلة إليه . فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره ، لا يخرج منها شيء عن ذلك .
وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكونون سببا لشر يحدث ، هم ولا ما جاءوا به لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين .
{ أينما تكونوا يدرككم الموت } قرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله :
من يفعل الحسنات الله يشكرها . أو على أنه كلام مبتدأ ، وأينما متصل ب{ لا تظلمون } . { ولو كنتم في بروج مشيدة } في قصور أو حصون مرتفعة ، والبروج في الأصل بيوت على أطراف القصور ، من تبرجت المرأة إذا ظهرت . وقرئ مشيدة بكسر الياء وصفا لها بوصف فاعلها كقولهم : قصيدة شاعرة ، ومشيدة من شاد القصر إذا رفعه . { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } كما تقع الحسنة والسيئة على الطاعة والمعصية يقعان على النعمة والبلية ، وهما المراد في الآية أي : وإن تصبهم نعمة كخصب نسبوها إلى الله سبحانه وتعالى ، وإن تصبهم بلية كقحط أضافوها إليك وقالوا إن هي إلا بشؤمك كما قالت اليهود : منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها . { قل كل من عند الله } أي يبسط ويقبض حسب إرادته . { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } يوعظون به ، وهو القرآن فإنهم لو فهموه وتدبروا معانية لعلموا أن الكل من عند الله سبحانه وتعالى ، أو حديثا ما كبهائم لا أفهام لها أو حادثا من صروف الزمان فيتفكرون فيه فيعلمون أن القابض والباسط هو الله سبحانه وتعالى .
وجملة : { أينما تكونوا } الخ مسوقة لإشعارهم بأنّ الجبن هو الذي حملهم على طلب التأخير إلى أمد قريب ، لأنّهم توهّموا أنّ مواقع القتال تدني الموتَ من الناس . ويحتمل أن يكون القول قد تمّ ، وأنّ جملة { أينما تكونوا } توجّه إليهم بالخطاب من الله تعالى ، أو توجّه لجميع الأمّة بالخطاب ، فتكون على كلا الأمرين معترضة بين أجزاء الكلام . و ( أينما ) شرط يستغرق الأمكنة ( ولو ) في قوله : { ولو كنتم في بروج } وصلية وقد تقدّم تفصيل معناها واستعمالها عند قوله : في سورة آل عمران ( 91 ) : { فلن يقبل من أحدهم مِلء الأرض ذهباً ولو افتدى به } والبروج جمعُ برج ، وهو البناء القويّ والحصْن . والمشيّدة : المبنيّة بالشِّيد ، وهو الجصّ ، وتطلق على المرفوعة العالية ، لأنّهم إذا أطالوا البناء بنوهُ بالجصّ ، فالوصف به مراد به المعنى الكنائي . وقد يطلق البروج على منازل كواكب السماء كقوله تعالى : { تبارك الذي جعل في السماء بروجاً } [ الفرقان : 61 ] وقوله : { والسماء ذات البروج } [ البروج : 1 ] . وعن مالك أنّه قال : البروج هنا بروج الكواكب ، أي ولو بلغتم السماء . وعليه يكون وصف { مشيدة } مجازاً في الارتفاع ، وهو بصير مجازاً في الارتفاع ، وهو بعيد .
يتعيّن على المختار ممّا روي في تعيين الفريق الذين ذكروا في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفّوا أيديكم } من أنّهم فريق من المؤمنين المهاجرين أن يكون ضمير الجمع في قوله : { وإن تصبهم حسنة } عائداً إلى المنافقين لأنّهم معلومون من المقام ، ولسِبْققِ ذكرهم في قوله : { وإنّ منكم لَمَنْ ليَبُطَئّن } [ النساء : 72 ] وتكون الجملة معطوفة عطف قصّة على قصّة ، فإنّ ما حكي في هذه الآية لا يليق إلاّ بالمنافقين ، ويكون الغرض انتقل من التحريض على القتال إلى وصف الذين لا يستجيبون إلى القتال لأنّهم لا يؤمنون بما يبلّغهم النبي صلى الله عليه وسلم من وعد الله بنصر المؤمنين . وأمّا على رواية السدّي فيحتمل أنّ هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام حديثاً من قبائل العرب كانوا على شفا الشكّ فإذا حلّ بهم سوء أو بؤس تطَيِّروا بالإسلام فقالوا : هذه الحالة السوأى من شُؤم الإسلام . وقد قيل : إنّ بعض الأعراب كان إذا أسلم وهاجر إلى المدينة فنمَت أنّعَامه ورفهت حاله حمِد الإسلام ، وإذا أصابه مرض أو موتان في أنعامه تطيَرّ بالإسلام فارتدّ عنه ، ومنه حديث الأعرابي الذي أصابته الحمّى في المدينة فاستقال من النبي بيعته وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه : « المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها » . والقول المراد في قوله : { يقولوا هذه من عند الله } { يقولوا هذه من عندك } هو قول نفسي ، لأنّهم لم يكونوا يجترئون على أن يقولوا ذلك علناً لِرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يظهرون الإيمان به .
أو هو قول يقولونه بين إخوانهم من المنافقين ، يقولون : هذه من عند محمد ، فيكون الإتيان بكاف الخطاب من قبيل حكاية كلامهم بحاصل معناه على حسب مقام الحاكي والمحكي له ، وهو وجه مطروق في حكاية كلام الغائب عن المخاطب إذا حكى كلامه لذلك المخاطب . ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى : { ما قلتُ لهم إلاّ ما أمرتني به أنْ أعبُدوا الله ربّي وربّكم } [ المائدة : 117 ] . والمأمور به هو : أن اعبدوا الله ربكَ وربَّهم . وورد أنّ قائل ذلك هم اليهود ، فالضمير عائد على غير مذكور في الكلام السابق ، لأنّ المعنيّ به معروفون في وقت نزول الآية ، وقديماً قيل لأسلافهم { وإن تُصبهم سّيئة يطيَّروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] . والمراد بالحسنة والسّيئة هنا ما تعارفه العرب من قبل اصطلاح الشريعة أعني الكائنةَ الملائمة والكائنةَ المنافرة ، كقولهم : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] وقوله : { ربّنا آتنا في الدنيا حسنة } [ البقرة : 201 ] ، وتعلّقُ فعل الإصابة بهما دليل على ذلك ، أمّا الحسنة والسَّيئة بالاصطلاح الشرعي ، أعني الفعل المثاب عليه والفعل المعاقب عليه ، فلا محمل لهما هنا إذ لا يكونان إصابتين ، ولا تعرف إصابتهما لأنّهما اعتباران شرعيان . وقيل : كان اليهود يقولون : « لمّا جاء محمد المدينة قلَّت الثمار ، وغلت الأسعار » . فجعلوا كون الرسول بالمدينة هو المؤثّر في حدوث السّيئات ، وأنّه لولاه لكانت الحوادث كلّها جارية على ما يلائمهم ، ولذلك جيء في حكاية كلامهم بما يدلّ على أنّهم أرادوا هذا المعنى ، وهو كلمة ( عند ) في الموضعين : { هذه من عند الله } { هذه من عندك } ؛ إذ العندية هنا عندية التأثير التامّ بدليل التسوية في التعبير ، فإذا كان ما جاء من عند الله معناه من تقديره وتأثير قدرته ، فكذلك مساويه وهو ما جاء من عند الرسول . وفي « البخاري » عن ابن عباس في قوله تعالى : { ومن الناس من يَعبد الله على حرف } كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونُتجت خيلهُ قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيلهُ قال : هذا دين سوء ، وهذا يقتضي أنْ فعل ذلك من مهاجرة العرب : يقولونه إذا أرادوا الارتداد وهم أهل جفاء وغلظة ، فلعلّ فيهم من شافه الرسول بمثل قولهم : { هذه من عندك } . ومعنى { من عند الله } في اعتقادهم أنّه الذي ساقها إليهم وأتحفهم بها لما هو معتاده من الإكرام لهم ، وخاصّة إذا كان قائل ذلك اليهود . ومعنى { من عندك } أي من شؤم قدومك ، لأنّ الله لا يعاملهم إلاّ بالكرامة ، ولكنّه صار يتخوّلهم بالإساءة لقصد أذى المسلمين فتلحَق الإساءة اليهودَ من جرّاء المسلمين على حدّ { واتّقوا فتنة } [ الأنفال : 25 ] الآية .
وقد علَّمه الله أن يجيب بأنّ كلاً من عند الله ، لأنّه لا معنى لكون شيء من عند الله إلاّ أنّه الذي قدّر ذلك وهيَّأ أسبابه ، إذ لا يدفعهم إلى الحسنات مباشرةً . وإن كان كذلك فكما أنّ الحسنة من عنده ، فكذلك السيّئة بهذا المعنى بقطع النظر عمّا أرادُه بالإحسان والإساءة ، والتفرقة بينهما من هذه الجهة لا تصدر إلاّ عن عقل غير منضبط التفكير ، لأنّهم جعلوا بعض الحوادث من الله وبعضها من غير الله فلذلك قال : { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } أي يكادون أن لا يفقهوا حديثاً ، أي أن لا يفقهوا كلام من يكلّمهم ، وهذ مدلول فعل ( كادَ ) إذا وقع في سياق النفي ، كما تقدّم في قوله : { وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] .
والإصابة : حصول حال أو ذات ، في ذات يقال : أصابه مرض ، وأصابته نعمة ، وأصابه سَهْم ، وهي ، مشقّة من اسم الصَّوْب الذي هو المطر ، ولذلك كان ما يتصرّف من الإصابة مشعراً بحصوللٍ مفاجىء أو قاهر .