{ 18-21 } { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا }
يخبر تعالى بفضله ورحمته ، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم ، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة ، وكان سبب هذه البيعة -التي يقال لها " بيعة الرضوان " لرضا الله عن المؤمنين فيها ، ويقال لها " بيعة أهل الشجرة " - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه ، وأنه لم يجئ لقتال أحد ، وإنما جاء زائرا هذا البيت ، معظما له ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان لمكة في ذلك ، فجاء خبر غير صادق ، أن عثمان قتله المشركون ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين ، وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة ، فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين ، وأن لا يفروا حتى يموتوا ، فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال ، التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات ، { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الإيمان ، { فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } شكرا لهم على ما في قلوبهم ، زادهم هدى ، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله ، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم ، وتطمئن بها قلوبهم ، { وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } وهو : فتح خيبر ، لم يحضره سوى أهل الحديبية ، فاختصوا بخيبر وغنائمها ، جزاءا لهم ، وشكرا على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والقيام بمرضاته .
{ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } روي : أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة ، فهموا به فمنعه الأحابيش فرجع ، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه فحبسوه فأرجف بقتله ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وكانوا ألفا وثلثمائة أو وأربعمائة أو وخمسمائة ، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا عنهم وكان جالسا تحت سمرة أو سدرة . { فعلم ما في قلوبهم } من الإخلاص . { فأنزل السكينة عليهم } الطمأنينة وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح . { وأثابهم فتحا قريبا } فتح خيبر غب انصرافهم ، وقيل مكة أو هجر .
وقوله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } تشريف وإعلام برضاه عنهم حين البيعة ، وبهذا سميت بيعة الرضوان . والرضى بمعنى الإرادة ، فهو صفة ذات . ومن جعل { إذ } مسببة بمعنى لأنهم بايعوا تحت الشجرة ، جاز أن يجعل { رضي } بمعنى إظهار النعم عليهم بسبب بيعتهم ، فالرضى على هذا صفة فعل ، وقد تقدم القول في المبايعة ومعناها .
وكان سبب هذه المبايعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث إلى مكة رجلاً يبين على قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد حرباً ، وإنما جاء معتمراً ، فبعث إليهم خراش بن أمية الخزاعي{[10419]} وحمله على جمل يقال له الثعلب ، فلما كلمهم ، عقروا الجمل ، وأرادوا قتل خراش ، فمنعه الأحابيش ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بعث عمر بن الخطاب ، فقال له عمر : يا رسول الله أنا قد علمت فظاظتي على قريش وهم يبغضونني ، وليس هناك من بني عدي بن كعب من يحميني ، ولكن ابعث عثمان بن عفان ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي ، فنزل عن دابته فحمله عليها وأجاره ، حتى إذا جاء قريشاً فأخبرهم ، فقالوا له : إن شئت يا عثمان أن تطوف بالبيت فطف ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه ، فقال عثمان : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إن بني سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة ، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال ، فصرخ صارخ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، وقالوا : لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة ، ونادى مناديه : أيها الناس ، البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، فما تخلف عن البيعة أحد ممن شهد الحديبية إلا الجد بن قيس المنافق ، وحينئذ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده وقال :
«هذه يد لعثمان ، وهي خير من يد عثمان ثم جاء عثمان بعد ذلك سالماً » .
والشجرة سمرة{[10420]} كانت هنالك ، ذهبت بعد سنين ، فمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فاختلف أصحابه في موضعها ، فقال عمر سيروا هذا التكلف{[10421]} .
وقوله تعالى : { فعلم ما في قلوبهم } قال قوم معناه : من كراهة البيعة على الموت ونحوه وهذا ضعيف ، فيه مذمة للصحابة . وقال الطبري ومنذر بن سعيد معناه : من الإيمان وصحته والحب في الدين والحرص عليه ، وهذا قول حسن ، لكنه من كانت هذه حاله فلا يحتاج إلى نزول ما يسكنه ، أما أنه يحتمل أن يجازى ب { السكينة } والفتح القريب والمغانم .
وقال آخرون معناه : من الهم بالانصراف عن المشركين والأنفة في ذلك على نحو ما خاطب فيه عمر رضي الله عنه وغيره{[10422]} ، وهذا تأويل حسن يترتب معه نزول { السكينة } والتعريض بالفتح القريب . و { السكينة } هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى والصبر له .
وقرأ الناس : «وأثابهم » قال هارون وقد قرئت : «وأتابهم » بالتاء بنقطتين والفتح القريب : خيبر ، و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف بالمؤمنين إلى المدينة وقد وعده الله بخيبر وخرج إليها لم يلبث ، قال أبو جعفر النحاس ، وقد قيل : الفتح القريب : فتح مكة .
عود إلى تفصيل ما جازى الله به أصحاب بيعة الرضوان المتقدم إجماله في قوله : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] ، فإن كون بيعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم تعتبر بيعة لله تعالى أوْمأ إلى أن لهم بتلك المبايعة مكانة رفيعة من خير الدنيا والآخرة ، فلما قطع الاسترسال في ذلك بما كان تحذيراً من النكث وترغيباً في الوفاء ، بمناسبة التضاد وذكر ما هو وسط بين الحالين وهو حال المخلَّفين ، وإبطال اعتذارهم وكشف طويتهم ، وإقصائهم عن الخير الذي أعده الله للمبايعين وأرجائهم إلى خير يسنح من بعدُ إن هم صدقوا التوبة وأخلصوا النية .
فقد أنال الله المبايعين رضوانَه وهو أعظم خير في الدنيا والآخرة قال تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] والشهادة لهم بإخلاص النية ، وإنزاله السكينة قلوبهم ووعدهم بثواب فتح قريب ومغانم كثيرة .
وفي قوله : { عن المؤمنين إذ يبايعونك } إيذان بأن من لم يبايع ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس حينئذٍ بمؤمن وهو تعريض بالجدّ بن قيس إذ كان يومئذٍ منافقاً ثم حَسن إسلامه .
وقد دعيت هذه البيعة بيعةَ الرضوان من قوله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } . و { إذ يبايعونك } ظرف متعلّق ب { رضي } ، وفي تعليق هذا الظرف بفعل الرضى ما يفهم أن الرضى مسبب عن مفاد ذلك الظرف الخاص بما أضيف هو إليه ، مع ما يعطيه توقيت الرضى بالظرف المذكور من تعجيل حصول الرضى بحدثان ذلك الوقت ، ومع ما في جعل الجملة المضاف إليها الظرفُ فِعليةً مضارعيّةً من حصول الرضى قبل انقضاء الفعل بل في حال تجدده . فالمضارع في قوله { يبايعونك } مستعمل في الزمان الماضي لاستحضار حالة المبايعة الجليلة ، وكون الرضى حصل عند تجديد المبايعة ولم ينتظر به تمامها ، فقد علمت أن السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية .
والتعريف في { الشجرة } تعريف العهد وهي : الشجرة التي عهدها أهل البيعة حين كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلها ، وهي شجرة من شجر السَّمُر بفتح السين المهملة وضم الميم وهو شجر الطلح . وقد تقدم أن البيعة كانت لما أُرجف بقتل عثمان بن عفان بمكة فعن سلمة بن الأكوع وعبد الله بن عمر ، يزيدُ أحدهما على الآخر « بينما نحن قائلون يوم الحديبية وقد تفرق الناس في ظلال الشجر إذ نادى عمر بن الخطاب : أيّها الناس البيعةَ البيعةَ ، نَزَل روحُ القدُس فاخرُجوا على اسم الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي دعا الناس إلى البيعة فثار الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه كلهم إلا الجدَّ بن قيس » .
وعن جابر بن عبد الله بعدَ أن عمي لو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة .
وتواتر بين المسلمين علم مكان الشجرة بصلاة الناس عند مكانها . وعن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال : فلما خرجنا من العام المقبل أي في عمرة القضية نسيناها فلم نقدر عليها وعن طارق بن عبد الرحمان قال : انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت : ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسولُ الله بيعة الرضوان . فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد : إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم أفأنتم أعلم » .
والمراد بقول طارق : ما هذا المسجد : مكانُ السجود ، أي الصلاة ، وليس المراد البيت الذي يبني للصلاة لأن البناء على موضع الشجرة وقع بعد ذلك الزمن فهذه الشجرة كانت معروفة للمسلمين وكانوا إذا مروا بها يصلون عندها تيمنا بها إلى أن كانت خلافة عمر فأمر بقطعها خشية أن تكون كذاتتِ أنواط التي كانت في الجاهلية ، ولا معارضة بين ما فعله المسلمون وبين ما رواه سعيد بن المسيب عن أبيه أنه وبعض أصحابه نسوا مكانها لأن الناس متفاوتون في توسُّم الأمكنة واقتفاء الآثار .
والمروي أن الذي بنى مسجداً على مكان الشجرة أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي ولكن في المسجد المذكور حجر مكتوب فيه « أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله ببناء هذا المسجد مسجد البيعة وأنه بني سنة أربع وأربعين ومائتين ، وهي توافق مدة المتوكّل جعفر بن المعتصم وقد تخرب فجدده المستنصر العباسي سنة 629 ثم جدده السلطان محمود خان العثماني سنة 1254 وهو قائم إلى اليوم .
وذكر { تحت الشجرة } لاستحضار تلك الصورة تنويهاً بالمكان فإن لذكر مواضع الحوادث وأزمانها معاني تزيد السامع تصوراً ولما في تلك الحوادث من ذكرى مثل مواقع الحروب والحوادث كقول عبد الله بن عباس « ويوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه » الحديث . ومواقع المصائب وأيامها .
و { إذ } ظرف يتعلق بفعل { رضي } ، أي رضي الله عنهم في ذلك الحين . وهذا رضى خاص ، أي تعلّق رضى الله تعالى عنهم بتلك الحالة .
والفاء في قوله : { فعلم ما في قلوبهم } ليست للتعقيب لأن علم الله بما في قلوبهم ليس عقب رضاه عنهم ولا عقب وقوع بيعتهم فتعين أن تكون فاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر بعدها . والتقدير : فلما بايعوك علم ما في قلوبهم من الكآبة ، ويجوز أن تكون الفاء لتفريع الأخبار بأن الله علم ما في قلوبهم بعد الإخبار برضى الله عنهم لما في الإخبار بعلمه ما في قلوبهم من إظهار عنايته بهم . ويجوز أن يكون المقصود من التفريع قوله : { فأنزل السكينة عليهم } ويكون قوله : { فعلم ما في قلوبهم } توطئة له على وجه الاعتراض .
والمعنى : لقد رضي الله عن المؤمنين من أجل مبايعتهم على نصرك فلما بايعوا وتحفزوا لقتال المشركين ووقع الصلح حصلت لهم كآبة في نفوسهم فأعلمهم الله أنه اطلع على ما في قلوبهم من تلك الكآبة ، وهذا من علمه الأشياء بعد وقوعها وهو من تعلق علم الله بالحوادث بعد حدوثها ، أي علمه بأنها وقعت وهو تعلق حادث مثل التعلقات التنجيزية . والمقصود بإخبارهم بأن الله علم ما حصل في قلوبهم الكآبة عن أنه قَدَر ذلك لهم وشكرهم على حبهم نصر النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل ولذلك رتب عليه قوله : { فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً } .
والسكينة هنا هي : الطمأنينة والثقة بتحقيق ما وعدهم الله من الفتح والارتياض على ترقبه دون حسرة فترتب على علمه ما في قلوبهم إنزاله السكينة عليهم ، أي على قلوبهم فعبر بضميرهم عوضاً عن ضمير { قلوبهم } لأن قلوبهم هي نفوسهم .
وعطف { أثابهم } على فعل { رضي اللَّه } . ومعنى أثابهم : أعطاهم ثواباً ، أي عوضاً ، كما يقال في هبة الثواب ، أي عوضهم عن المبايعة بفتح قريب . والمراد : أنه وعدهم بثواب هو فتح قريب ومغانم كثيرة ، ففعل { أثابهم } مستعمل في المستقبل . وهذا الفتح هو فتح خيبر فإنه كان خاصاً بأهل الحديبية وكان قريباً من يوم البيعة بنحو شهر ونصف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين" إذْ يُبايِعُونَكَ تحْتَ الشّجَرَةِ "يعني بيعة أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم رسولَ الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب، وعلى أن لا يفرّوا، ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة، وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة. وكان سبب هذه البيعة ما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه برسالته إلى الملإ من قريش، فأبطأ عثمان عليه بعض الإبطاء، فظنّ أنه قد قتل، فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما وصفت، فبايعوه على ذلك، وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان، وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما ذُكر في قول بعضهم: ألفا وأربع مئة، وفي قول بعضهم: ألفا وخمس مئة، وفي قول بعضهم: ألفا وثلاث مئة... وقوله: "فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم" يقول تعالى ذكره: فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة، من صدق النية، والوفاء بما يبايعونك عليه، والصبر معك.
"فأَنْزَل السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ" يقول: فأنزل الطمأنينة، والثبات على ما هم عليه من دينهم وحُسن بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له...
وقوله: "وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا" يقول: وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحا قريبا، وذلك فيما قيل فتح خيبر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لقد رضي الله عن المؤمنين} لما عزموا من الوفاء على ما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق لذلك والتحقيق لما عاهدوا من الوفاء. لذلك أخبر الله أن قد رضي الله عنهم لذلك. فنحن نستدل به على تصديق ذلك وتحقيقه...
{فعلم ما في قلوبهم} هذا يحتمل وجوها:
أحدها: ما ذكرنا: علم ما في قلوبهم من العزم على الوفاء والتصديق لما أعطوا بأيديهم من أنفسهم.
والثالث: علم ما في قلوبهم من الكراهة التي يذكرها أهل التأويل. لكن تلك الكراهة كراهة الطبع لا كراهة الاختيار لأنهم طمِعوا الوصول إلى البيت، ورَجَوا دخوله. فلما جرى الصلح بينهم على ألاّ يدخلوا عامهم ذلك، فانصرفوا، فاشتدّ ذلك عليهم، فكرِهوا ذلك كراهة الطبع لا كراهة الاختيار، وقد يكره طبع الإنسان شيئا، والخيار غيره كقوله عز وجل: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء: 19] وكقول يوسف: {رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} [الآية: 33] محبة الاختيار لا محبّة الطبع إلى ما يدعونه...
أي أنزل عليهم ما يسكُن به قلوبهم لما علم تحقيق الوفاء لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق ما أعطوا من أنفسهم {وأثابهم} فكان ما كانوا يرجون، ويطمعون، من دخول مكة وما كرهت أنفسهم من الرجوع {فتحا قريبا} وهو فتح مكة، أو فتح خبير، والله أعلم...
فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية وصِدْقِ بصائرهم... فدلّ على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء لله، إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان. وقد أكّد ذلك بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أخبر أنه علم من قلوبهم صحة البصيرة وصدق النية وأن ما أبطنوه مثل ما أظهروه...
وقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يعني الصبر بصدق نياتهم؛ وهذا يدلّ على أن التوفيق يصحب صدق النية...
{لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم} من الصدق كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض {فأنزل السكينة عليهم} حتى بايعوا على الموت، وفيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال قبل هذه الآية {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات} فجعل طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله الجنة في تلك الآية، وفي هذه الآية بين أن طاعة الله والرسول وجدت من أهل بيعة الرضوان، أما طاعة الله فالإشارة إليها بقوله {لقد رضي الله عن المؤمنين} وأما طاعة الرسول فبقوله {إذ يبايعونك تحت الشجرة} بقي الموعود به وهو إدخال الجنة أشار إليه بقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين} لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة كما قال تعالى: {ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لقد رضي الله} أي الذي له الجلال والجمال {عن المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان...
{إذ} أي حين، وصور حالهم إعلاماً بأنها سارة معجبة شديدة الرسوخ في الرضى فقال: {يبايعونك} في عمرة الحديبية لما صد المشركون عن الوصول إلى البيت... {تحت الشجرة} واللام للعهد الذهني، وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية، ولأجل هذا الرضى سميت بيعة الرضوان...
{فعلم} أي لما له من الإحاطة {ما في قلوبهم} أي من مطابقته لما قالوا بألسنتهم في البيعة، وأن ما حصل لبعضهم من الاضطراب في قبول الصلح والكآبة منه إنما هو لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ما يريد من إعلاء دينه وإظهاره لا عن شك في الدين... {فأنزل السكينة} أي بثبات القلوب وطمأنيتها في كل حالة ترضي الله ورسوله...
. {وأثابهم} أي أعطاهم جزاء لهم على ما وهبهم من الطاعة والسكينة فيها جزاء... {قريباً} بترك القتال الموجب بعد راحتهم وقوتهم وجمومهم لاختلاط بعض الناس ببعض فيدخل في الدين من كان مباعداً له لما يرى من محاسنه، فسيكون الفتح الأعظم فتح لمكة المشرفة الذي هو سبب لفتح جميع البلاد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الدرس كله حديث عن المؤمنين، وحديث مع المؤمنين. مع تلك المجموعة الفريدة السعيدة التي بايعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تحت الشجرة. والله حاضر البيعة وشاهدها وموثقها، ويده فوق أيديهم فيها. تلك المجموعة التي سمعت الله تعالى يقول عنها لرسوله [صلى الله عليه وسلم]: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).. وسمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول لها: "أنتم اليوم خير أهل الأرض"..
حديث عنها من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله [صلى الله عليه وسلم] وحديث معها من الله سبحانه وتعالى:يبشرها بما أعد لها من مغانم كثيرة وفتوح؛ وما أحاطها به من رعاية وحماية في هذه الرحلة، وفيما سيتلوها؛ وفيما قدر لها من نصر موصول بسنته التي لا ينالها التبديل أبدا. ويندد بأعدائها الذين كفروا تنديدا شديدا. ويكشف لها عن حكمته في اختيار الصلح والمهادنة في هذا العام. ويؤكد لها صدق الرؤيا التي رآها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن دخول المسجد الحرام. وأن المسلمين سيدخلونه آمنين لا يخافون. وأن دينه سيظهر على الدين كله في الأرض جميعا.
ويختم الدرس والسورة بتلك الصورة الكريمة الوضيئة لهذه الجماعة الفريدة السعيدة من أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وصفتها في التوراة وصفتها في الإنجيل، ووعد الله لها بالمغفرة والأجر العظيم..
(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان الله عزيزا حكيما)..
وإنني لأحاول اليوم من وراء ألف وأربعمائة عام أن أستشرف تلك اللحظة القدسية التي شهد فيها الوجود كله ذلك التبليغ العلوي الكريم من الله العلي العظيم إلى رسوله الأمين عن جماعة المؤمنين. أحاول أن أستشرف صفحة الوجود في تلك اللحظة وضميره المكنون؛ وهو يتجاوب جميعه بالقول الإلهي الكريم، عن أولئك الرجال القائمين إذ ذاك في بقعة معينة من هذا الوجود.. وأحاول أن أستشعر بالذات شيئا من حال أولئك السعداء الذين يسمعون بآذانهم، أنهم هم، بأشخاصهم وأعيانهم، يقول الله عنهم: لقد رضي عنهم. ويحدد المكان الذي كانوا فيه، والهيئة التي كانوا عليها حين استحقوا هذا الرضى: (إذ يبايعونك تحت الشجرة).. يسمعون هذا من نبيهم الصادق المصدوق، على لسان ربه العظيم الجليل..
يالله! كيف تلقوا -أولئك السعداء- تلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي؟ التبليغ الذي يشير إلى كل أحد، في ذات نفسه، ويقول له: أنت. أنت بذاتك. يبلغك الله. لقد رضي عنك. وأنت تبايع. تحت الشجرة! وعلم ما في نفسك. فأنزل السكينة عليك!
إن الواحد منا ليقرأ أو يسمع: (الله ولي الذين آمنوا).. فيسعد. يقول في نفسه: ألست أطمع أن أكون داخلا في هذا العموم؟ ويقرأ أو يسمع: (إن الله مع الصابرين).. فيطمئن. يقول في نفسه: ألست ارجو أن أكون من هؤلاء الصابرين؟ وأولئك الرجال يسمعون ويبلغون. واحدا واحدا. أن الله يقصده بعينه وبذاته. ويبلغه: لقد رضي عنه! وعلم ما في نفسه. ورضي عما في نفسه!
(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة).. (فعلم ما في قلوبهم. فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا)..
علم ما في قلوبهم من حمية لدينهم لا لأنفسهم. وعلم ما في قلوبهم من الصدق في بيعتهم. وعلم ما في قلوبهم من كظم لانفعالاتهم تجاه الاستفزاز، وضبط لمشاعرهم ليقفوا خلف كلمة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] طائعين مسلمين صابرين.
فانزل السكينة عليهم.. بهذا التعبير الذي يرسم السكينة نازلة في هينة وهدوء ووقار، تضفي على تلك القلوب الحارة المتحمسة المتأهبة المنفعلة، بردا وسلاما وطمأنينة وارتياحا.
(وأثابهم فتحا قريبا).. هو هذا الصلح بظروفه التي جعلت منه فتحا، وجعلته بدء فتوح كثيرة. قد يكون فتح خيبر واحدا منها. وهو الفتح الذي يذكره أغلب المفسرين على أنه هو هذا الفتح القريب الذي جعله الله للمسلمين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم). سكينة واطمئناناً لا حدّ لهما، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن الأهل والديار والعدو مدجّج بالسلاح، في حين أن المسلمين عُزّل من السلاح «لأنّهم جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة» فوقفوا كالجبل الأشم لم يجد الخوف طريقاً إلى قلوبهم...