{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
الغلول هو : الكتمان من الغنيمة ، [ والخيانة في كل مال يتولاه الإنسان ]{[171]} وهو محرم إجماعا ، بل هو من الكبائر ، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص ، فأخبر الله تعالى أنه ما ينبغي ولا يليق بنبي أن يغل ، لأن الغلول -كما علمت- من أعظم الذنوب وأشر العيوب . وقد صان الله تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم ، وجعلهم أفضل العالمين أخلاقا ، وأطهرهم نفوسا ، وأزكاهم وأطيبهم ، ونزههم عن كل عيب ، وجعلهم محل رسالته ، ومعدن حكمته { الله أعلم حيث يجعل رسالته } .
فبمجرد علم العبد بالواحد منهم ، يجزم بسلامتهم من كل أمر يقدح فيهم ، ولا يحتاج إلى دليل على ما قيل فيهم من أعدائهم ، لأن معرفته بنبوتهم ، مستلزم لدفع ذلك ، ولذلك أتى بصيغة يمتنع معها وجود الفعل منهم ، فقال : { وما كان لنبي أن يغل } أي : يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته .
ثم ذكر الوعيد على من غل ، فقال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أي : يأت به حامله على ظهره ، حيوانا كان أو متاعا ، أو غير ذلك ، ليعذب به يوم القيامة ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت } الغال وغيره ، كل يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه ، { وهم لا يظلمون } أي : لا يزاد في سيئاتهم ، ولا يهضمون شيئا من حسناتهم ، وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة .
لما ذكر عقوبة الغال ، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله ، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه ، وكان الاقتصار على الغال يوهم -بالمفهوم- أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون -أتى بلفظ عام جامع له ولغيره .
{ وما كان لنبي أن يغل } وما صح لنبي أن يخون في الغنائم فإن النبوة تنافي الخيانة ، يقال غل شيئا من المغنم يغل غلولا وأغل إغلالا إذا أخذه في خفية والمراد منه : إما براءة الرسول صلى الله عليه وسلم عما اتهم به إذ روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها ، أو ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم الغنائم . وإما المبالغة في النهي للرسول صلى الله عليه وسلم على ما روي أنه بعث طلائع ، فغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم على من معه ولم يقسم للطلائع فنزلت . فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولا تغليظا ومبالغة ثانية . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب { أن يغل } على البناء للمفعول والمعنى : وما صح له أن يوجد غالا أو أن ينسب إلى الغلول . { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة يأت بالذي غله يحمله على عنقه كما جاء في الحديث أو بما احتمل من وباله وإثمه . { ثم توفى كل نفس ما كسبت } يعني تعطي جزاء ما كسبت وافيا ، وكان اللائق بما قبله أن يقال ثم يوفى ما كسبت لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى . { وهم لا يظلمون } فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم .
تقدم القول في صيغة : وما كان لكذا أن يكون كذا ، في قوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت } [ آل عمران : 145 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء ، وقرأ باقي السبعة «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء ، واللفظة : بمعنى الخيانة في خفاء ، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح ، قال أبو عمرو : تقول العرب : أغل الرجل يغل إغلالاً : إذا خان ، ولم يؤد الأمانة ، ومنه قول النمر بن تولب{[3670]} : [ الطويل ]
جزى اللَّهُ عنّي جَمْرَة َ ابْنَةَ نَوْفَلٍ . . . جزاءَ مُغِلًّ بالأمانةِ كاذبِ
وقال شريح : ليس على المستعير غير المغل ضمان ، قال أبو علي : وتقول من الغل الذي هو الضغن : غل يغِل بكسر الغين ، ويقولون في الغلول من الغنيمة ، غل يغُل بضم الغين ، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء }{[3671]} { وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك }{[3672]} { وما كان لنفس أن تموت }{[3673]} { وما كان الله ليضل قوماً بعد أن هداهم }{[3674]} { وما كان الله ليطلعكم على الغيب }{[3675]} ولا يكاد يجيء : ما كان زيد ليضرب ، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به ، وفي هذا الاحتجاج نظر ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «يغُل » بضم الغين ، فقيل له : إن ابن مسعود قرأ «يغَل » بفتح الغين ، فقال ابن عباس : بلى والله ويقتل ، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالاً على هذه القراءة - التي هي بفتح الياء وضم الغين ، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم : نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية{[3676]} .
قال القاضي أبو محمد : قيل : كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجاً ، وقيل كانت من منافقين ، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً ، قال النقاش : ويقال : إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد : الغنيمة الغنيمة أيها الناس ، إنما نخشى أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئاً فهو له ، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : خشيتم أن نغل{[3677]} ؟ ونزلت هذه الآية ، وقال الضحاك : بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم ، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع ، فأنزل الله تعالى عليه عتاباً ، { وما كان لنبي أن يغل } أي يقسم لبعض ويترك بعضاً{[3678]} ، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس ، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاماً بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم ، ورداً على الأعراب الذين صاحوا به : اقسم علينا غنائمنا يا محمد ، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه{[3679]} ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال ابن إسحاق : الآية إنما نزلت إعلاماً بأن النبي عليه السلام لم يكتم شيئاً ما أمر بتبليغه .
قال القاضي : وكأن الآية على هذا في قصة - أحد - لما نزل عليه : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه ، وبالجملة فهو تأويل ضعيف ، وكان يجب أن يكون «يُغِل » بضم الياء وكسر الغين ، لأنه من الإغلال في الأمانة ، وأما قراءة من قرأ «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، فمعناها عند جمهور من أهل العلم : أن ليس لأحد أن يغله : أي يخونه في الغنيمة ، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه ، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظوراً مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره ، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلهم حظهم من التوقير ، وقال بعض الناس : معنى «أن يغل » أن يوجد غالاً ، كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً ، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وقال أبو علي الفارس : معنى «يُغَل » بضم الياء وفتح الغين يقال له : غللت وينسب إلى ذلك ، كما تقول أسقيته ، إذا قلت : سقاك الله كما قال ذو الرمة : [ الطويل ]
وَأُسْقيهِ حتى كاد مِمّا أَبُثُّهُ . . . تُكَلِّمُني أحْجَارُه وَمَلاعِبُهْ{[3680]}
وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام ، ونحوه في الكلام : أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر ، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا آكل سمناً حتى يحياً الناس من أول ما يحيون{[3681]} : أي يدخلون في الحيا{[3682]} وقوله تعالى : { ومن يغلل يأتِ بما غل يوم القيامة } وعيد لمن يغل من الغنيمة ، أو في زكاته ، فيجحدها ويمسكها ، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : «ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك{[3683]} ، ثم ذكر ذلك عليه السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء ، وفرس له حمحمة »
وروى نحو هذا الحديث ابن عباس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، الحديث بطوله{[3684]} ، وروى نحوه أبو حميد الساعدي{[3685]} وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس{[3686]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أدوا الخياط والمخيط »{[3687]} ، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين ، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم :< شراك أو شراكان من نار>{[3688]} ، وقال في مدعم{[3689]} ، < إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً > .
قال القاضي : وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر ، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه السلام{[3690]} ، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه ، ألا ترى إلى قول الحادرة{[3691]} : [ الكامل ]
أسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ . . . رفع اللِّواء لَنَا بِهَا في الْمَجمَعِ
وكانت العرب ترفع للغادر لواء ، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته ، وقد تقدم القول في نظير ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }{[3692]} .