{ 29-32 } { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة .
فالإنس يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم ، وأما الجن فصرفهم الله إليه بقدرته وأرسل إليه { نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } أي : وصى بعضهم بعضا بذلك ، { فَلَمَّا قُضِي } وقد وعوه وأثر ذلك فيهم { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } نصحا منهم لهم وإقامة لحجة الله عليهم وقيضهم الله معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن .
{ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } أملناهم إليك والنفر دون العشرة وجمعه أنفار . { يستمعون القرآن } حال محمولة على المعنى . { فلما حضروه } أي القرآن أو الرسول . { قالوا أنصتوا } قالوا بعضهم لبعض اسكتوا لنسمعه . { فلما قضي } أتم وفرغ من قراءته ، وقرئ على بناء الفاعل وهو ضمير الرسول عليع الصلاة والسلام . { ولوا إلى قومهم منذرين } أي منذرين إياهم بما سمعوا . روي أنهم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده .
وقوله تعالى : { وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن } ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم . و : { صرفنا } معناه : رددناهم عن حال ما ، يحتمل أنها الاستماع في السماء ، ويحتمل أن يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون ، وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء ، فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة ، فضاقت الجن ذرعاً بذلك ، فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك . واختلف الرواة بعد فقالت فرقة : جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهو لا يشعر ، فسمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين ، ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله ، وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ ، وهو يقرأ في صلاة الفجر{[10329]} .
وقالت فرقة : بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك ، ووفد عليه أهل نصيبين منهم{[10330]} .
قال القاضي أبو محمد : والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون أن يعرف بهم ، وهم المتفرقون من أجل الرجم ، وهذا هو قوله تعالى : { قل أوحي إلي }{[10331]} [ الجن : 1 ] ثم بعد ذلك وفد عليه وفد ، وهو المذكور صرفه في هذه الآية{[10332]} . قال قتادة : صرفوا إليه من نينوى ، أشعر به قبل وروده{[10333]} . وقال الحسن : لم يشعر .
واختلف في عددهم اختلافاً متباعداً فاختصرته لعدم الصحة في ذلك ، أما أن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر : كانوا تسعة فيهم زوبعة ، وروي في ذلك أحاديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إني خارج إلى وفد الجن ، فمن شاء يتبعني » ، فسكت أصحابه ، فقالها ثانية ، فسكتوا ، فقال عبد الله أنا أتبعك ، قال فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون ، فأدار لي دائرة وقال لي : لا تخرج منها ، ثم ذهب عني ، فسمعت لغطاً ودوياً كدوي النسور الكاسرة . ثم في آخر الليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ عليهم القرآن وعلمهم وأعطاهم زاداً في كل عظم وروثة ، فقال : يا عبد الله ، ما رأيت ؟ فأخبرته ، فقال : لقد كنت أخشى أن تخرج فيتخطفك بعضهم ، قلت يا رسول الله ، سمعت لهم لغطاً ، فقال : إنهم تدارأوا في قتيل لهم ، فحكمت بالحق . واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود ، وروي عنه ما ذكرنا . وذكر عنه أنه رأى رجالاً من الجن وبهم شبه رجال الزطِّ{[10334]} السود الطوال حين رآهم بالكوفة . وروي عنه أنه قال : ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها .
وقوله : { نفراً } يقتضي أن المصروفين رجالاً لا أنثى فيهم ، والنفر والرهط : القوم الذين لا أنثى فيهم .
وقوله تعالى : { فلما حضروه قالوا أنصتوا } فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرأ جمهور الناس : «قُضِي » على بناء الفعل للمفعول . . وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز : «قضى » على بناء الفعل للفاعل ، أي قضى محمد القراءة .
وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة [ الرحمن ] فكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] قالوا : لا بشيء من آلائك نكذب ، ربنا لك الحمد ، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن . قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم .
قال القاضي أبو محمد : فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباهها{[10335]} صلى الله على محمد عبده ورسوله .