المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

180- لا يظن الذين يبخلون بما أنعم الله عليهم من المال تفضلاً منه ، ولا يبذلونه في الواجبات وسبل الخير أنَّ البخل خير لهم ، بل إنه شر سيئ العاقبة عليهم ، سيجزون عليه شر الجزاء يوم القيامة ، وسيكون العذاب ملازماً لهم ملازمة الطوق للعنق . وإن كل ما في الوجود يؤول لله - سبحانه وتعالى - وهو المالك له ، وهو - سبحانه - يعلم كل ما تعملون ، وسيجازيكم عليه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

أي : ولا يظن الذين يبخلون ، أي : يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من فضله ، من المال والجاه والعلم ، وغير ذلك مما منحهم الله ، وأحسن إليهم به ، وأمرهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده ، فبخلوا بذلك ، وأمسكوه ، وضنوا به على عباد الله ، وظنوا أنه خير لهم ، بل هو شر لهم ، في دينهم ودنياهم ، وعاجلهم وآجلهم { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } أي : يجعل ما بخلوا به طوقا في أعناقهم ، يعذبون به كما ورد في الحديث الصحيح ، " إن البخيل يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، يأخذ بلهزمتيه يقول : أنا مالك ، أنا كنزك " وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق ذلك ، هذه الآية .

فهؤلاء حسبوا أن بخلهم نافعهم ، ومجد عليهم ، فانقلب عليهم الأمر ، وصار من أعظم مضارهم ، وسبب عقابهم .

{ ولله ميراث السماوات والأرض } أي : هو تعالى مالك الملك ، وترد جميع الأملاك إلى مالكها ، وينقلب العباد من الدنيا ما معهم درهم ولا دينار ، ولا غير ذلك من المال .

قال تعالى : { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون } وتأمل كيف ذكر السبب الابتدائي والسبب الغائي ، الموجب كل واحد منهما أن لا يبخل العبد بما أعطاه الله .

أخبر أولا : أن الذي عنده وفي يده فضل من الله ونعمة ، ليس ملكا للعبد ، بل لولا فضل الله عليه وإحسانه ، لم يصل إليه منه شيء ، فمنعه لذلك منع لفضل الله وإحسانه ؛ ولأن إحسانه موجب للإحسان إلى عبيده كما قال تعالى : { وأحسن كما أحسن الله إليك }

فمن تحقق أن ما بيده ، فضل من الله ، لم يمنع الفضل الذي لا يضره ، بل ينفعه في قلبه وماله ، وزيادة إيمانه ، وحفظه من الآفات .

ثم ذكر ثانيا : أن هذا الذي بيد العباد كلها ترجع إلى الله ، ويرثها تعالى ، وهو خير الوارثين ، فلا معنى للبخل بشيء هو زائل عنك منتقل إلى غيرك .

ثم ذكر ثالثا : السبب الجزائي ، فقال : { والله بما تعملون خبير } فإذا كان خبيرا بأعمالكم جميعها -ويستلزم ذلك الجزاء الحسن على الخيرات ، والعقوبات على الشر- لم يتخلف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان عن الإنفاق الذي يجزى به الثواب ، ولا يرضى بالإمساك الذي به العقاب .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

وقوله : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } أي : لا يحسبن{[6256]} البخيل أن جمعه المال ينفعه ، بل هو مَضّرة عليه في دينه - وربما كان - في دنياه .

ثم أخبر بمآل أمر ماله{[6257]} يوم القيامة فقال : " سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قال البخاري :

حدثنا عبد الله بن منير ، سمع أبا النضر ، حدثنا عبد الرحمن - هو ابن عبد الله بن دينار - عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ له شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان ، يُطَوّقُه يوم القيامة ، يأخذ {[6258]} بلِهْزِمَتَيْه - يعني بشدقَيْه - يقول : أنا مَالُكَ ، أنا كَنزكَ " ثم تلا هذه الآية : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } إلى آخر الآية .

تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه ، وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القَعْقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، به{[6259]} .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حُجَين بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمَر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الَّذِي لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُمَثِّلُ اللهُ لَهُ مَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبتَان ، ثم يُلْزِمهُ يطَوّقه ، يَقُول : أنَا كَنزكَ ، أنَا كَنزكَ " .

وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، به{[6260]} ثم قال النسائي : وروايةُ عبد العزيز ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، أثبتُ من رواية عبد الرحمن ، عن أبيه عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ، عن أبى هريرة .

قلت : ولا منافاة بينهما{[6261]} فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين ، والله أعلم . وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويَه من غير وجه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة . ومن حديث محمد بن أبي حميد ، عن زياد الخطمي ، عن أبي هريرة ، به .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن جامع ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " مَا مِنْ عَبْدٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إلا جُعِلَ لَهُ شُجَاعٌ أقْرَعُ يَتْبَعُهُ ، يَفِرّ منه وهو يَتْبَعُه فَيقُولُ : أنَا كَنْ " . ثُمَّ قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .

وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن جامع بن أبي راشد ، زاد الترمذي : وعبد الملك بن أعين ، كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود ، به . ثم قال الترمذي : حسن صحيح . وقد رواه الحاكم في مستدركه ، من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري ، كلاهما عن أبي إسحاق السَّبيعي ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، به {[6262]}ورواه ابن جرير من غير وجه ، عن ابن مسعود ، موقوفا .

حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أمية بن بِسْطام ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنزا مُثِّلَ لَهُ شُجُاعًا أَقْرَعَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ زَبِيبَتَان ، يَتْبَعُه ويَقُولُ : مَنْ أَنْتَ ؟ وَيْلَكَ . فيقُولُ : أنَا كَنزكَ الَّذِي خَلَّفتَ بَعْدَكَ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُه حَتَّى يُلْقِمَه يَدَه فَيقْضِمَها ، ثم يَتْبَعه سَائِر جَسَ " . إسناده جيد قوي ولم يخرجوه{[6263]} .

وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البَجَلي{[6264]} ورواه ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث بَهْز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَأْتِي الرَّجُلُ مَولاهُ فيَسْأله من فَضْلِ مَالِهِ{[6265]} عِنْدَهُ ، فَيَمْنَعهُ إيَّاهُ ، إلا دُعِي لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجاعٌ يَتَلَمَّظُ فَضْلَهُ الَّذِي مَنَعَ " . لفظ ابن جرير{[6266]} .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن أبي قَزَعة ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمه ، فيَسْأله من فَضْلٍ جَعَلَهُ اللهُ عِنْدَهُ ، فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْه ، إلا أخُرِج له من جَهَنَّم شُجَاعٌ يَتَلَمَّظ ، حتى يُطوّقه " .

ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزَعَة - واسمه حُجَيْر{[6267]} بن بَيان - عن أبي مالك العبدي موقوفا . ورواه من وجه آخر عن أبي قَزَعَة مرسلا{[6268]} .

وقال العَوْفي عن ابن عباس : نزلت في أهل الكتاب الذين بَخِلُوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها .

رواه ابن جرير . والصحيح الأول ، وإن دخل هذا في معناه . وقد يقال : [ إن ]{[6269]} هذا أولى{[6270]} بالدخول ، والله أعلم .

وقوله : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ، فإن الأمور كُلَّها مرجعها إلى الله عز وجل . فقدموا لكم من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : بِنياتِكم وضمائركم .


[6256]:في: "تحسبن".
[6257]:في أ: "أمره إليه".
[6258]:في أ، و: "فيأخذ".
[6259]:صحيح البخاري برقم (1403، 4565).
[6260]:المسند (2/98) وسنن النسائي (5/38).
[6261]:في و: "بين الروايتين".
[6262]:المسند (1/377) وسنن الترمذي برقم (3012) وسنن النسائي (5/11) وسنن ابن ماجة برقم (1784) والمستدرك (2/298).
[6263]:عزاه إلى أبي يعلى في المطالب العالية الحافظ ابن حجر (1/254) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2255) وابن حبان في صحيحه برقم (803) "موارد"والبزار في مسنده (1/418) "كشف الأستار" والطبراني في المعجم الكبير (2/91) والحاكم في المستدرك (1/338) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، كلهم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. وقال البزار: "إسناده حسن".
[6264]:المعجم الكبير (2/322) ولفظه: "ما من ذي رحم يأتي رحمه فيسأله فضلا أعطاه الله إياه فيبخل عليه إلا أخرج له يوم القيامة من جهنم حية يقال لها: شجاع يتلمظ فيطوف به". قال الهيثمي في المجمع (8/154): "رواه الطبراني في الأوسط والكبير وإسناده جيد".
[6265]:في ر، أ، و: "مال".
[6266]:تفسير الطبري (7/435) ورواه أحمد في مسنده (5/3) والنسائي في السنن (1/358).
[6267]:في أ، و: "حجر" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
[6268]:تفسير الطبري (7/434).
[6269]:زيادة من أ، و.
[6270]:في أ: "روى".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

{ ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم } القراءات فيه على ما سبق . ومن قرأ بالتاء قدر مضافا ليتطابق مفعولاه أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم ، وكذا من قرأ بالياء إن جعل الفاعل ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو من يحسب وإن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفا لدلالة يبخلون عليه أي ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيرا لهم . { بل هو } أي البخل . { شر لهم } لاستجلاب العقاب عليهم . { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } بيان لذلك ، والمعنى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق ، وعنه عليه الصلاة والسلام " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعله الله شجاعا في عنقه يوم القيامة " . { ولله ميراث السماوات والأرض } وله ما فيهما مما يتوارث ، فما لهؤلاء يبخلون عليه بماله ولا ينفقونه في سبيله ، أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله بهلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والعقوبة . { والله بما تعملون } من المنع والإعطاء . { خبير } فمجازيهم . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الالتفات وهو أبلغ في الوعيد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

عطف على { ولا يحسبن الذين كفروا } ، لأنّ الظاهر أنّ هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين ، فإنّهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، كما حكى الله عنهم في سورة النساء ( 37 ) بقوله : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } وكانوا يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضُّوا ، وغير ذلك ، ولا يجوز بحال أن يكون نازلاً في شأن بعض المسلمين لأنّ المسلمين يومئذ مبرّؤون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان ، ولذلك قال معظم المفسّرين : إنّ الآية نزلت في منع الزكاة ، أي فيمن منعوا الزكاة ، وهل يمنعها يومئذ إلاّ منافق . ولعلّ مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أنّ بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أُحُد . ومعنى حسبانه خيراً أنّهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصّلوا عن دفعه بمعاذير قُبلت منهم .

أمّا شمولها لِمنع الزكاة ، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس ، فبدلالة فحوى الخطاب .

وقرأ الجمهور : ولا يحسبنّ الذين يبخلون } بياء الغيبة ، وقرأه حمزة بتاء الخطاب كما تقدّم في نظيره . وقرأ الجمهور : تحسِبنّ بكسر السين ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم بفتح السين .

وقوله : { هو خيراً لهم } قال الزمخشري ( هو ) ضمير فصْل ، وقد يبنى كلامه على أنّ ضمير الفصل لا يختصّ بالوقوع مع الأفعال التي تطلب اسماً وخبراً ، ونقل الطيبي عن الزجاج أنّه قال : زعم سيبويه أنّه إنّما يكون فصلاً مع المبتدأ والخبر ، يعني فلا يصحّ أن يكون هُنا ضمير فصل ولذلك حكى أبو البقاء فيه وجهين : أحدهما أن يكون ( هو ) ضميراً واقعاً موقع المفعول الأوّل على أنه من إنابة ضمير الرفع عن ضمير النصب ، ولعلّ الذي حسنّه أنّ المعاد غير مذكور فلا يهتدي إليه بضمير النصب ، بخلاف ضمير الرفع لأنّه كالعمدة في الكلام ، وعلى كلّ تقدير فالضمير عائد على البخل المستفاد من { يبخلون } ، مثل { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، ومثل قوله :

إذَا نُهِي السفيهُ جَرى إليه *** وخَالف والسفيهُ إلى خلاف

ثم إذا كان ضمير فصل فأحد مفعولي حسب محذوف اختصاراً لدلالة ضمير الفصل عليه ، فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضاف حَلّ المضافُ إليه محلّه ، أي لا تحسبنّ الذين يبخلون خيراً وعلى قراءة التحتيّة : ولا يحسبنّ الذين يبخلون بُخلهم خيراً .

والبُخْل بضم الباء وسكون الخاء ويقال : بَخَل بفتحهما ، وفعلُه في لغة أهل الحجاز مضموم العين في الماضي والمضارع . وبقية العرب تجعله بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ، وبلغة غير أهل الحجاز جاء القرآن لِخفّة الكسرة والفتحة ولذا لم يقرأ إلاّ بها . وهو ضدّ الجود ، فهو الانقباض عن إعطاء المال بدون عوض ، هذا حقيقته ، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرّة عليه إلاَّ مجازاً ، وقد ورد في أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « البخيل الذي أُذكرُ عنده فلا يصلّي عليّ » ويقولون : بخِلت العين بالدموع ، ويرادف البخلَ الشحّ ، كما يرادف الجودَ السخاء والسماح .

وقوله : { بل هو شر لهم } تأكيد لنفي كونه خيراً ، كقول امرىء القيس : > وهذا كثير في كلام العرب ، على أنّ في هذا المقام إفادة نفي توهّم الواسطة بين الخير والشرّ .

وجملة { سيطوّقون } واقعة موقع العلّة لقوله : { بل هو شر لهم } .

ويطوّقون يحتمل أنه مشتقّ من الطاقة ، وهي تحمُّل ما فوق القدرة أي سيحملون ما بخلوا به ، أي يكون عليهم وزراً يوم القيامة ، والأظهر أنّه مشتقّ من الطَّوْق ، وهو ما يلبس تحت الرقبة فوق الصدر ، أي تجعل أموالهم أطواقاً يوم القيامة فيعذّبون بحملها ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم « من اغتصب شبراً من أرض طُوّقه من سبع أرضين يوم القيامة » والعرب يقولون في أمثالهم تقلّدها ( أي الفعلة الذميمة ) طوقَ الحمامة . وعلى كلا الاحتمالين فالمعنى أنّهم يشهَّرون بهذه المذمّة بين أهل المحشر ، ويلزمون عقاب ذلك . وقوله : { ولله ميراث السموات والأرض } تذييل لموعظة البَاخلين وغيرهم : بأنّ المال مال الله ، وما من بخيل إلاّ سيذهب ويترك ماله ، والمتصرّف في ذلك كلّه هو الله ، فهو يرث السماوات والأرض ، أي يستمرّ ملكه عليهما بعد زوال البشر كلّهم المنتفعين ببعض ذلك ، وهو يملك ما في ضمنهما تبعاً لهما ، وهو عليم بما يعمل الناس من بخل وصدقة ، فالآية موعظة ووعيد ووعد لأنّ المقصود لازم قوله : { خبير } .