ثم قال تعالى : { فَلَا تَهِنُوا } أي : لا تضعفوا عن قتال عدوكم ، ويستولي عليكم الخوف ، بل اصبروا واثبتوا ، ووطنوا أنفسكم على القتال والجلاد ، طلبا لمرضاة ربكم ، ونصحا للإسلام ، وإغضابا للشيطان .
ولا تدعوا إلى المسالمة والمتاركة بينكم وبين أعدائكم ، طلبا للراحة ، { و } الحال أنكم { أنتم الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ } أي : ينقصكم { أَعْمَالُكُم }
فهذه الأمور الثلاثة ، كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم الأعلين ، أي : قد توفرت لهم أسباب النصر ، ووعدوا من الله بالوعد الصادق ، فإن الإنسان ، لا يهن إلا إذا كان أذل من غيره وأضعف عددا ، وعددا ، وقوة داخلية وخارجية .
الثاني : أن الله معهم ، فإنهم مؤمنون ، والله مع المؤمنين ، بالعون ، والنصر ، والتأييد ، وذلك موجب لقوة قلوبهم ، وإقدامهم على عدوهم .
الثالث : أن الله لا ينقصهم من أعمالهم شيئا ، بل سيوفيهم أجورهم ، ويزيدهم من فضله ، خصوصا عبادة الجهاد ، فإن النفقة تضاعف فيه ، إلى سبع مائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، وقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
فإذا عرف الإنسان أن الله تعالى لا يضيع عمله وجهاده ، أوجب له ذلك النشاط ، وبذل الجهد فيما يترتب عليه الأجر والثواب ، فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة فإن ذلك يوجب النشاط التام ، فهذا من ترغيب الله لعباده ، وتنشيطهم ، وتقوية أنفسهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم .
ثم قال لعباده المؤمنين : { فَلا تَهِنُوا } أي : لا تضعفوا عن الأعداء ، { وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ } أي : المهادنة والمسالمة ، ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عَدَدِكم وعُدَدِكُمْ ؛ ولهذا قال : { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ } أي : في حال علوكم على عدوكم ، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة {[26724]} بالنسبة إلى جميع المسلمين ، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة ، فله أن يفعل ذلك ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة ، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين ، فأجابهم إلى ذلك .
وقوله : { وَاللَّهُ مَعَكُمْ } فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء ، { وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي : ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها ، بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئا .
{ فلا تهنوا } فلا تضعفوا . { وتدعوا إلى السلم } ولا تدعوا إلى الصلح خورا وتذللا . ويجوز نصبه بإضمار إن وقرئ " ولا تدعوا " من ادعى بمعنى دعا ، وقرئ أبو بكر و حمزة بكسر السين . { وأنتم الأعلون } الأغلبون . { والله معكم } ناصركم . { ولن يتركم أعمالكم } ولن يضيع أعمالكم ، من وترت الرجل إذا قتلت متعلقا به من قريب أو حميم فأفردته منه من الوتر ، شبه به تعطيل ثواب العمل وإفراده منه .
الفاء للتفريع على ما تقرر في نفوس المؤمنين من خذل الله تعالى المشركين بما أخبر به من أنه أضل أعمالهم وقدّر لهم التعس ، وبما ضرب لهم من مصائر أمثالهم من الذين من قبلهم دمرهم الله وأهلكهم ولم يجدوا ناصراً ، وما وعد به المؤمنين من النصر عليهم وما أمرهم به من قتالهم وبتكلفه للمؤمنين بالولاية وما وعدهم من الجزاء في دارالخلد وبما أتبع ذلك من وصف كَيْد فريق المنافقين للمؤمنين وتعهدهم بإعانة المشركين ، وذلك مما يوجس منه المؤمنون خيفة إذ يعلمون أن أعداء لهم منبثون بين ظهرانيهم .
فعلى ذلك كله فرع نهيهم عن الوهن وعن الميل إلى الدعة ووعدهم بأنهم المنتصرون وأن الله مؤيدهم . ويجوز أن يجعل التفريع على أقرب الأخبار المتقدمة وهو قوله : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } [ محمد : 31 ] .
وهذا النهي عن الوهن وعن الدعاء إلى السَّلْم تحذير من أمر توفرت أسباب حصوله متهيئة للإقدام على الحرب عند الأمر بها وليس نهياً عن وهن حصل لهم ولا عن دعائهم إلى السلم لأن هذه السورة نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة أُحُد في مدة لم يكن فيها قتال بين المسلمين والمشركين ولكن التحذير من أن يستوهنهم المنافقون عند توجه أمر القتال فيقولوا : لو سالمنا القوم مدة حتى نستعيد عُدتنا ونسترجع قوتنا بعد يوم بدر ، وقد كان أبو سفيان ومن معه من المشركين لما رجعوا إلى مكة مفلولين بعد وقعة بدر ، يتربصُون بالمسلمين فرصة يقاتلونهم فيها لِما ضايقهم من تعرض المسلمين لهم في طريق تجارتهم إلى الشام مثل ما وقع في غزوة السويق ، وغزوة ذي قَرَد ، فلما كان في المدينة منافقون وكان عند أهل مكة رجال من أهل يثرب خرجوا منها مع أبي عامر الضبغي الملقب في الجاهلية بالراهب والذي غيّر النبي صلى الله عليه وسلم لقبَه فلقبه الفاسق .
كان من المتوقع أن يكيد للمسلمين أعداؤهم من أهل يثرب فيظاهِروا عليهم المشركين متسترين بعلة طلب السلم فحذرهم الله من أن يقعوا في هذه الحبالة .
والوهن : الضعف والعَجز ، وهو هنا مجاز في طلب الدعة . ومعناه : النهي عن إسلام أنفسهم لخواطر الضعف ، والعمل بهذا النهي يكون باستحضار مساوي تلك الخواطر فإن الخواطر الشريرة إذا لم تقاومها همة الإنسان دبّت في نفسه رُويداً رُويداً حتى تتمكن منها فتصبح ملكةً وسجيّة . فالمعنى : ادفعوا عن أنفسكم خواطر الوهن واجتنبوا مظاهره ، وأوَّلُها الدعاءُ إلى السلم وهو المقصود بالنهي . والنهي عن الوهن يقتضي أنهم لم يكونوا يومئذٍ في حال وهَن .
وعُطف { وتَدعوا } على { تهنوا } فهو معمول لِحرف النهي ، والمعنى : ولا تدعوا إلى السلم وهو عطف خاص على عام من وجهٍ لأن الدعاء إلى السلم مع المقدرة من طلب الدعة لغير مصلحة .
وإنما خص بالذكر لئلا يظن أن فيه مصلحة استبقاء النفوس والعُدة بالاستراحة من عُدوان العدوّ على المسلمين ، فإن المشركين يومئذٍ كانوا متكالبين على المسلمين ، فربما ظن المسلمون أنهم إن تداعوا معهم للسلم أمِنوا منهم ، وجعلوا ذلك فرصة لينشُوا الدعوة فعرفّهم الله أن ذلك يعود عليهم بالمضرة لأنه يحط من شوكتهم في نظر المشركين فيحسبونهم طلبوا السلم عن ضعف فيزيدهم ذلك ضراوة عليهم وتستخف بهم قبائل العرب بعد أن أخذوا من قلوبهم مكان الحرمة وتوقِع البأس .
ولهذا المقصد الدقيق جمع بين النهي عن الوهن والدعاء إلى السلم وأُتبع بقوله : { وأنتم الأعلون } .
فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسالمة من العدّو في حال قدرة المسلمين وخوف العدوّ منهم ، فهو سلم مقيد بكون المسلمين داعين له وبكونه عن وهن في حال قوة . قال قتادة : أي لا تكونوا أول الطائفتين ضَرعت إلى صاحبتها . فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } في سورة الأنفال ( 61 ) ، فإنه سلم طلبه العدو ، فليست هذه الآية ناسخة لآية الأنفال ولا العكس ولكل حالة خاصة ، ومقيّد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعِدّة وعُدّة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعَة . فإذا كان للمسلمين مصلحة في السلم أو كان أخفّ ضرًّا عليهم فلهم أن يبتدئوا إذا احتاجوا إليه وأن يجيبوا إليه إذا دعُوا إليه .
وقد صالح النبي المشركين يوم الحديبية لمصلحة ظهرت فيما بعد ، وصالح المسلمون في غزوهم أفريقية أهلها وانكفأوا راجعين إلى مصر . وقال عمر بن الخطاب في كلام له مع بعض أمراء الجيش فقد آثرتُ سلامة المسلمين . وأما الصلح على بعض الأرض مع فتحها فذلك لا ينافي قوة الفاتحين كما صالح أمراء أبي بكر نصف أهل دمشق وكما صالح أمراء عمر أهل سود العراق وكانوا أعلم بما فيه صلاحهم .
وقرأ الجمهور { إلى السَّلم } بفتح السين . وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة بكسر السين وهما لغتان . وجملة { وأنتم الأعلون } عطف على النهي عطف الخبر على الإنشاء ، والخبر مستعمل في الوعد .
والأعلون : مبالغة في العلوّ . وهو هنا بمعنى الغلبة والنصر كقوله تعالى لموسى : { إنك أنت الأعلى } [ طه : 68 ] ، أي والله جاعلكم غالبين .
و { الله معكم } عطف على الوعد . والمعية معية الرعاية والكلاءة ، أي والله حافظكم وراعيكم فلا يجعل الكافرين عليكم سبيلاً . والمعنى : وأنتم الغالبون بعناية الله ونصره .
وصيغ كل من جملتي { أنتم الأعلون والله معكم } جملة اسمية للدلالة على ثبات الغلب لهم وثبات عناية الله بهم .
وقوله : { ولن يتركم أعمالكم } وعد بتسديد الأعمال ونجاحها عكس قوله في أول السورة { الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله أضلّ أعمالهم } [ محمد : 1 ] فكني عن توفيق الأعمال ونجاحها بعدم وترها ، أي نقصها للعلم بأنه إذا كان لا ينقصها فبالحري أن لا يبطلها ، أي أن لا يخيبها ، وهو ما تقدم من قوله : { والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضلّ أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم } [ محمد : 4 ، 5 ] .
يقال : وتره يتره وَتْراً وتِرَة كوعد ، إذا نقصه ، وفي حديث « الموطأ » " من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِر أهلَه ومالَه " ويجوز أيضاً أن يراد منه صريحه ، أي ينقصكم ثوابكم على أعمالكم ، أي الجهاد المستفاد من قوله { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } فيفيد التحريض على الجهاد بالوعد بأجره كاملاً .