بينت هذه السورة في بدايتها أن الله أبطل أعمال الكافرين باتباعهم الباطل ، وكفر عن المؤمنين سيئاتهم باتباعهم الحق . كما بينت بإطناب وجوب الدفاع عن الحق ، وأن جزاء ذلك في الآخرة دخول الجنة ، وحرضت المؤمنين على نصر دين الله والقتال في سبيله . وأوضحت أن المبطلين إذا تولوا عن الإيمان أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم ، وحذرت من المنافقين أن يكونوا بين المؤمنين حتى لا يستمعوا لتثبيطهم . وهددت المنافقين بهتك أستارهم بإظهار رسول الله على أحقادهم . ونهت المؤمنين أن يضعفوا عن قتال الكافرين ، وهم الأعلون والله معهم ولن يترهم أعمالهم . ثم ختمت بالدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله ، وبيان أن من يبخل بذلك فإنما يبخل على نفسه ، وبأن الإعراض عن اتباع الحق يكون سببا في هلاك المعرضين والإتيان بقوم آخرين خير منهم .
1- الذين كفروا بالله ورسوله وصدُّوا غيرهم عن الدخول في الإسلام أبطل الله كل ما عملوه .
{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }
هذه الآيات مشتملات على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين ، والسبب في ذلك ، ودعوة الخلق إلى الاعتبار بذلك ، فقال : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وهؤلاء رؤساء الكفر ، وأئمة الضلال ، الذين جمعوا بين الكفر بالله وآياته ، والصد لأنفسهم وغيرهم عن سبيل الله ، التي هي الإيمان بما دعت إليه الرسل واتباعه .
فهؤلاء { أَضَلَّ } الله { أَعْمَالَهُمْ } أي : أبطلها وأشقاهم بسببها ، وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها ليكيدوا بها الحق وأولياء الله ، أن الله جعل كيدهم في نحورهم ، فلم يدركوا مما قصدوا شيئا ، وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها ، أن الله سيحبطها عليهم ، والسبب في ذلك أنهم اتبعوا الباطل ، وهو كل غاية لا يراد بها وجه الله من عبادة الأصنام والأوثان ، والأعمال التي في نصر الباطل لما كانت باطلة ، كانت الأعمال لأجلها باطلة .
[ وهي مدنية ]{[1]}
يقول تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بآيات الله ، { وصدوا } غيرهم { عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : أبطلها وأذهبها ، ولم يجعل لها جزاء ولا ثوابا ، كقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ] .
بسم الله الرحمن الرحيم { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } امتنعوا عن الدخول في الإسلام وسلوك طريقه ، أو منعوا الناس عنه كالمطعمين يوم بدر ، أو شياطين قريش أو المصريين من أهل الكتاب . أو عام في جميع من كفر وصد . { أضل أعمالهم } جعل مكارمهم كصلة الرحم وفك الأسارى وحفظ الجوار ضالة أي ضائعة محيطة بالكفر ، أو مغلوبة مغمورة فيه كما يضل الماء في اللبن ، أو ضلال حيث لم يقصدوا به وجه الله ، أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسوله والصد عن سبيله بنصر رسوله وإظهار دينه على الدين كله .
هذه السورة مدنية بإجماع غير أن بعض الناس قال في قوله تعالى ' وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ' محمد13 ، إنها نزلت بمكة في وقت دخول النبي فيها عام الفتح أو سنة الحديبية وما كان مثل هذا فهو معدود في المدني لأن المراعى في ذلك إنما هو ما كان قبل الهجرة أو بعدها{[1]} .
قوله تعالى : { الذين كفروا } الآية ، إشارة إلى أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { والذين آمنوا } الآية إشارة إلى الأنصار أهل المدينة الذين آووه ، وفي الطائفتين نزلت الآيتان ، قاله ابن عباس ومجاهد ، ثم هي بعد تعم كل من دخل تحت ألفاظها . وقوله : { وصدوا } يحتمل أن يريد الفعل المجاوز ، فيكون المعنى : { وصدوا } غيرهم ، ويحتمل أن يكون الفعل غير متعد ، فيكون المعنى : { وصدوا } أنفسهم . و : { سبيل الله } شرعه وطريقه الذي دعا إليه .
وقوله : { أضل أعمالهم } أي أتلفها ، لم يجعل لها غاية خير ولا نفعاً ، وروي أن هذه الآية نزلت بعد بدر ، وأن الإشارة بقوله : { أضل أعمالهم } هي إلى الإنفاق الذي أنفقوه في سفرتهم إلى بدر ، وقيل المراد بالأعمال : أعمالهم البرة في الجاهلية من صلة رحم ونحوه ، واللفظ يعم ذلك .
سميت هذه السورة في كتب السنة سورة محمد . وكذلك ترجمت في صحيح البخاري من رواية أبي ذر عن البخاري ، وكذلك في التفاسير قالوا : وتسمى ( سورة القتال ) .
ووقع في أكثر روايات صحيح البخاري سورة الذين كفروا .
والأشهر الأول ، ووجهه أنها ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم في الآية الثانية منها فعرفت به قبل سورة آل عمران التي فيها { وما محمد إلا رسول } .
وأما تسميتها سورة القتال فلأنها ذكرت فيها مشروعية القتال ، ولأنها ذكر فيها لفظه في قوله تعالى { وذكر فيها القتال } ، مع ما سيأتي أن قوله تعالى { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } إلى قوله { وذكر فيها القتال } أن المعني بها هذه السورة فتكون تسميتها سورة القتال تسمية قرآنية .
وهي مدنية بالاتفاق حكاه ابن عطية وصاحب الإتقان . وعن النسفي : أنها مكية . وحكى القرطبي عن الثعلبي وعن الضحاك وابن جبير : أنها مكية . ولعله وهم ناشئ عما روي عن ابن عباس أن قوله تعالى { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك } الآية نزلت في طريق مكة قبل الوصول إلى حراء ، أي في الهجرة .
قيل نزلت هذه السورة بعد يوم بدر وقيل نزلت في غزوة أحد .
وعدت السادسة والتسعين في عداد نزول سور القرآن ، نزلت بعد سورة الحديد وقبل سورة الرعد .
وآيها عدت في أكثر الأمصار تسعا وثلاثين ، وعدها أهل البصرة أربعين ، وأهل الكوفة تسعا وثلاثين .
معظم ما في هذه السورة التحريض على قتال المشركين ، وترغيب المسلمين في ثواب الجهاد .
افتتحت بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لأنهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله ، أي دينه .
وأعلم الله المؤمنين بأنه لا يسدد المشركين في أعمالهم وأنه مصلح المؤمنين فكان ذلك كفالة للمؤمنين بالنصر على أعدائهم .
وانتقل من ذلك الى الأمر بقتالهم وعدم الإبقاء عليهم .
وفيها وعد المجاهدين بالجنة ، وأمر المسلمين بمجاهدة الكفار وأن لا يدعوهم إلى السلم ، وإنذار المشركين بأن يصيبهم ما أصاب الأمم المكذبين من قبلهم .
ووصف الجنة ونعيمها ، ووصف جهنم وعذابها .
ووصف المنافقين وحال اندهاشهم إذا نزلت سورة فيها الحض على القتال ، وقلة تدبرهم القرآن وموالاتهم المشركين .
وتهديد المنافقين بأن الله ينبي رسوله صلى الله عليه وسلم بسيماهم وتحذير المسلمين من أن يروج عليهم نفاق المنافقين .
وختمت بالإشارة إلى وعد المسلمين بنوال السلطان وحذرهم إن صار إليهم الأمر من الفساد والقطيعة .
صُدّر التحريض على القتال بتوطئة لبيان غضب الله على الكافرين لكفرهم وصدهم الناس عن دين الله وتحقير أمرهم عند الله ليكون ذلك مثيراً في نفوس المسلمين حنقاً عليهم وكراهية فتثور فيهم همة الإقدام على قتال الكافرين ، وعدم الاكتراث بما هم فيه من قوة ، حين يعلمون الله يخذل المشركين وينصر المؤمنين ، فهذا تمهيد لقوله : { فإذا لقيتم الذين كفروا } [ محمد : 4 ] .
وفي الابتداء بالموصول والصلة المتضمنة كُفر الذين كفروا ومناواتهم لدين الله تشويق لما يرد بعده من الحكم المناسب للصلة ، وإيماء بالموصول وصلته إلى علة الحكم عليه بالخبر أي لأجل كفرهم وصدهم ، وبراعة استهلال للغرض المقصود .
والكفُر : الإشراك بالله كما هو مصطلح القرآن حيثما أطلق الكفر مجرداً عن قرينة إرادة غير المشركين . وقد اشتملت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف للمشركين . وهي : الكفر ، والصد عن سبيل الله ، وضلال الأعمال الناشىء عن إضلال الله إياهم .
والصدّ عن سبيل : هو صرف الناس عن متابعة دين الإسلام ، وصرفُهم أنفسهم عن سماع دعوة الإسلام بطريق الأوْلى . وأضيف ( السبيل ) إلى { الله } لأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] . واستعير اسم السبيل للدين لأن الدين يوصل إلى رضى الله كما يوصل السبيل السائرَ فيه إلى بُغيته .
ومن الصد عن سبيل الله صدهم المسلمين عن المسجد الحرام قال تعالى : { ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } [ الحج : 25 ] . ومن الصد عن المسجد الحرام : إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة ، وصدهم عن العُمرة عام الحديبية . ومن الصد عن سبيل الله : إطعامهم الناس يوم بدر ليثبتوا معهم ويكثروا حولهم ، فلذلك قيل : إن الآية نزلت في المطعِمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً من سادة المشركين من قريش . وهم : أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبيٌّ بن خلَف وأمية بن خلَف ونُبَيْه بن الحجاج ومُنَبِّه بنُ الحجاج وأبو البَخْتَرِي بنُ هشام والحارث بن هشام وزَمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نَوفل وحَكيم بن حِزام وهذا الأخير أسلم من بعد وصار من خيرة الصحابة . وعدّ منهم صفوان بن أمية وسهل بن عمرو ومِقْيَس الجُمحي والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب وهذان أسلما وحَسن إسلامهما وفي الثلاثة الآخَرين خلاف . ومن الصد عن سبيل الله صدهم الناس عن سماع القرآن { وقال الذين كفروا لا تَسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] .
والإضلال : الإبطال والإضاعة ، وهو يرجع إلى الضلال . وأصله الخطأ للطريق المسلوك للوصول إلى مكان يُراد وهو يستلزم المعاني الأخر . وهذا اللفظ رشيق الموقع هنا لأنه الله أبطل أعمالهم التي تبدو حسنة ، فلم يثبهم عليها من صلة رحم ، وإطعام جائع ، ونحوهما ، ولأن من إضلال أعمالهم أن كان غالب أعمالهم عبثاً وسيئاً ولأن من إضلال أعمالهم أن الله خَيَّبَ سعيهم فلم يحصلوا منه على طائل فانهزموا يوم بدر وذهب إطعامُهم الجيْش باطلاً ، وأفسد تدبيرهم وكيدهم للرسول صلى الله عليه وسلم فلم يشفُوا غليلهم يوم أحد ، ثم توالت انهزاماتهم في المواقع كلها قال تعالى : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } [ الأنفال : 36 ] .