ثم قال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ } أي : أجرها وثوابها ، فآمن بها وصدق ، وسعى لها سعيها { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } بأن نضاعف عمله وجزاءه أضعافا كثيرة ، كما قال تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } ومع ذلك ، فنصيبه من الدنيا لا بد أن يأتيه .
{ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا } بأن : كانت الدنيا هي مقصوده وغاية مطلوبه ، فلم يقدم لآخرته ، ولا رجا ثوابها ، ولم يخش عقابها . { نُؤْتِهِ مِنْهَا } نصيبه الذي قسم له ، { وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } قد حرم الجنة ونعيمها ، واستحق النار وجحيمها .
وهذه الآية ، شبيهة بقوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } إلى آخر الآيات .
ثم قال : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ } أي : عمل الآخرة { نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } أي : نقويه ونعينه على ما هو بصدده ، ونكثر نماءه ، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى ما يشاء الله { وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } أي : ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا ، وليس له إلى الآخرة همَّة{[25805]} البتة بالكلية ، حَرَمه الله الآخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها ، وإن لم يشأ لم يحصل{[25806]} له لا هذه ولا هذه ، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة .
والدليل على هذا أن هذه الآية هاهنا مقيدة بالآية التي في " سبحان " وهي قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } [ الإسراء : 18 - 21 ] .
وقال الثوري ، عن مُغيرة ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب [ رضي الله عنه ]{[25807]} قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بشر هذه الأمة بالسَّنَاء والرفعة ، والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة من نصيب " {[25808]} .
{ اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِن نّصِيبٍ }
يقول تعالى ذكره : الله ذو لطف بعباده ، يرزق من يشاء فيوسع عليه ويقترّ على من يشاء منهم وَهُوَ القَوِيّ الذي لا يغلبه ذو أيدٍ لشدّته ، ولا يمتنع عليه إذا أراد عقابه بقدرته العَزِيزُ في انتقامه إذا انتقم من أهل معاصيه مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يقول تعالى ذكره : من كان يريد بعمله الاَخرة نزد له في حرثه : يقول : نزد له في عمله الحسن ، فنجعل له بالواحدة عشراً ، إلى ما شاء ربنا من الزيادة وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنيْا نُؤْتِهِ مِنْها يقول : ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى لا للاَخرة ، نؤته منها ما قسمنا له منها وما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ يقول : وليس لمن طلب بعمله الدنيا ، ولم يرد الله به في ثواب الله لأهل الأعمال التي أرادوه بأعمالهم في الدنيا حظّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ . . . إلى وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ قال : يقول : من كان إنما يعمل للدنيا نؤته منها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ له فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيا . . . الاَية ، يقول : من آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الاَخرة إلا النار ، ولم نزده بذلك من الدنيا شيئاً إلا رزقاً قد فرغ منه وقسم له .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قال : من كان يريد الاَخرة وعملها نزد له في عمله وَمنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنيْا نُؤْتِهِ مِنْها . . . إلى آخر الاَية ، قال : من أراد الدنيا وعملها آتيناه منها ، ولم نجعل له في الاَخرة من نصيب الحرث العمل ، من عمل للاَخرة أعطاه الله ، ومن عمل للدنيا أعطاه الله .
حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : مَنْ كانَ يُرِدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قال : من كان يريد عمل الاَخرة نزد له في عمله .
وقوله : وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ قال : للكافر عذاب أليم .
وقوله : { من كان يريد } معناه : إرادة مستعد عامل عارف ، لا إرادة متمن لم يدر نفسه . والحرث في هذه الآية : عبارة عن السعي والتكسب والإعداد .
ولما كان حرث الأرض أصلاً من أصول المكاسب استعير لكل متكسب ، ومنه قول ابن عمر : احرث لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً .
وقوله تعالى : { نزد في حرثه } وعد منتجز .
وقوله في : { حرث الدنيا نؤته منها } معناه : ما شئنا ولمن شئنا ، فرب ممتحن مضيق عليه حريص على حرث الدنيا مريد له لا يحس بغيره ، نعوذ بالله من ذلك ، وهذا الذي لا يعقل غير الدنيا هو الذي نفى أن يكون له نصيب في الآخرة .
وقرأ سلام : «نؤتهُ » برفع الهاء وهي لغة لأهل الحجاز ، ومثله قراءتهم : { فخسفنا به وبداره الأرض }{[10127]} برفع الهاء فيهما .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.