اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلۡأٓخِرَةِ نَزِدۡ لَهُۥ فِي حَرۡثِهِۦۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (20)

قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ . . . } الآية الحرث في اللغة الكسب ، أي من كان يريد بعمله الآخرة نزد له في حرثه بالتضعيف بالواحد عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة . قاله مقاتل{[49190]} . وقيل : معناه إنا نزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه{[49191]} .

وقال الزمخشري : إنه تعالى سمَّى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز{[49192]} . واعلم أنه قد تقدم أن كون الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً مجزوماً لا يختص مجيئه بكان خلافاً لأبي الحكم{[49193]} مصنِّف كتاب الإعراب فإنه قال : لا يجوز ذلك إلا مع «كان » إلا في ضرورة شعر .

وأطلق النحويون جواز ذلك وأنشدوا بيت الفرزدق :

4378 دَسَّتْ رَسُولاً بِأَنَّ القَوْمَ إنْ قَدَرُوا *** عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتِ تَوْغِيرِ{[49194]}

وقوله أيضاً :

4379 تَعَشَّ فَإِنْ عَاهَدْتَني لاَ تَخُونِنِي *** نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ{[49195]}

وقرأ ابن مقسم والزَّعفرانيُّ ومحبوب : يزد ويؤته{[49196]} بالياء من تحت ، أي الله تعالى .

وقرأ سلام يؤته بضم هاء الكناية{[49197]} وهو الأصل ، وهو لغة الحجاز وتقدم خلاف القراء في ذلك .

فصل

قال قتادة : معنى قوله : ومن كان يريد ( حَرْثَ ){[49198]} الدنيا أي يريد جملة حرث الدُّنيا نؤته منها أي نؤته بقدر ما قسم له كما قال : { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ } [ الإسراء : 18 ] وما له في الآخرة من نصيب ؛ لأنه لم يعمل للآخرة قال عليه الصَّلاة والسَّلام : «بَشِّرْ هَذِهِ الأمَّة بالسناء والرِّفْعَةِ والنَّصْرِ والتَّمْكِينِ في الأَرْضِ ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ للدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ في الآخِرَةِ نَصِيبٌ »{[49199]} واعلم أنه تعالى قال في طلب الآخرة ( إنه ){[49200]} يزيد له في حرثه ولم يذكر أنه يعطيه الدنيا أم لا بل سكت عنه نفياً وإثباتاً .

وأما الطالب{[49201]} الدنيا فبين أنه لا يعطيه شيئاً من نصيب الآخرة على التنصيص ، وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول : الآخرة أصلٌ والدنيا تبعٌ فواجد الأصل يكون واجداً للتَّبع بقدر الحاجة ، إلا أنه لم يذكر ذلك تنبيهاً على أن الدّنيا أحسن من أن يقرن ذكرها بذكر الآخرة . وأيضاً بين أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه وطالب الدنيا يعطى بعض مطلوبه ولا يحصل له في الآخرة من نصيب البتة فبين أن طالب الآخرة يكون حاله أبداً في التزايد ، وأن طالب الدنيا يكون حاله في النقصان والبطلان في الآخرة ، وذلك يدل على تفضيل طلب الآخرة .

وأيضاً فإنه تعالى بين أن منافع الآخرة ومنافع الدنيا ليست حاضرة ناجزةً ، بل لا بدَّ فيهما{[49202]} من الحرث والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاق ( في البذر ثم التسقية{[49203]} والتنمية ثم الحصد ثم التنقية فلما سمى الله كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل ) والمتاعب . ثم بين أنَّ مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وأن مصير الدنيا إلى النُّقصان والعناء ، فكأنه قيل : إذا كان لا بد في القسمين من متاعب الحراثة من التبقية والتنمية{[49204]} و الحصد{[49205]} والتَّنْقِية فصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في التزايد الباقي أولى من صرفها إلى ما يكون في التناقص والانقضاء .

فصل

قال ابن الخطيب : فإن قيل : ظاهر اللفظ يدل على أن من صلَّى لأجل طلب الثواب أو لأجل دفع العقاب فإنه تصح صلاته ، وأجمعوا على أنها لا تصح .

فالجواب : أنه تعالى قال : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة } ، والحرث لا يَتَأَتَّى إلا بإلقاء البذر الصَّحيح في الأرض ، والبذر الصحيح الجامع للخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله سبحانه وتعالى{[49206]} .

فصل

إذا توضأ بغير نية ، لم يصح ، لأنه لم يرد حرث الآخرة ، وذلك لا يحصل بالوضوء العاري عن النية .


[49190]:قاله البغوي في معالم التنزيل 6/120.
[49191]:نقله الرازي في المرجع السابق.
[49192]:نقل الكشاف 3/465 قال: سمي ما يعمله العامل مما ينبغي بت الفائدة والزكاء حرثا، على المجاز.
[49193]:نقل المؤلف هذا عن السمين عن أبي حيان في البحر قوله: "ولا نعلم خلافا في الجزم فإنه فصيح مختار إلا ما ذكره صاحب متاب الإعراب وهو أبو الحكم بن عذرة عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح وإنما يجيء مع كان؛ لأنها أصل الأفعال ولا يجيء مع غيرها من الأفعال. انظر البحر 7/514، والدر المصون 4/751.
[49194]:من بحر البسيط له. ودست: أرسلت في خفية. والتوغير: الإغراء بالحقد. وقد تقدم.
[49195]:البيت من الطويل له أيضا وقد رواه في الكتاب: تعال فإن.. البيت. على أن رواية هذه التي أتى بها المؤلف هي المشهورة. والبيت فيه شاهدان: شاهد معنا وهو جزم "نكن" جوابا لشرط فعله ماض (فإن عاهدتني). وشاهد آخر غير مراد هنا وهو استعمال من للتثنية. وانظر كتاب سيبويه 2/316، والخصائص 2/422 وشرح ابن يعيش 2/132، 4/13، والأشموني 1/153 والهمع 1/87 والبحر المحيط 7/514 والدر المصون 4/751 والمغني 404 وشرح شواهده للسيوطي 536 و729 والديوان 2/329.
[49196]:من القراءة الشاذة ذكرها صاحب البحر 7/514 ومحبوب هو محمد بن الحسن بن هلال بن محبوب أبو بكر محبوب البصري مولى قريش مشهور كبير، روى القراءة عن شبل بن عباد، وأبي عمرو بن العلاء وعنه خلف بن هشام وروح بن عبد المؤمن. انظر غاية النهاية 2/123.
[49197]:المحتسب لأبي الفتح 2/249 وهي كسابقتها شذوذا.
[49198]:سقط من أ الأصل.
[49199]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي كعب 5/134.
[49200]:زيادة من أ.
[49201]:في ب طلب.
[49202]:في ب منها.
[49203]:ما بين القوسين ساقط من أ الأصل.
[49204]:في الرازي التسمية.
[49205]:في ب ثم الحصد.
[49206]:انظر الرازي 27/162.