{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } من روائها ونضارتها ، { وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي : من حسن منطقهم تستلذ لاستماعه ، فأجسامهم وأقوالهم معجبة ، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدى الصالح شيء ، ولهذا قال : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } لا منفعة فيها ، ولا ينال منها إلا الضرر المحض ، { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم ، والريب الذي في قلوبهم يخافون{[1104]} أن يطلع عليهم .
فهؤلاء { هُمُ الْعَدُوُّ } على الحقيقة ، لأن العدو البارز المتميز ، أهون من العدو الذي لا يشعر به ، وهو مخادع ماكر ، يزعم أنه ولي ، وهو العدو المبين ، { فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يصرفون عن الدين الإسلامي بعد ما تبينت أدلته ، واتضحت معالمه ، إلى الكفر الذي لا يفيدهم إلا الخسار والشقاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} يعني عبد الله بن أبي، وكان رجلا جسيما صبيحا ذلق اللسان، فإذا قال، سمع النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة} فيها تقديم يقول: كأن أجسامهم خشب بعضها على بعض قياما، لا تسمع، ولا تعقل، لأنها خشب ليست فيها أرواح، فكذلك المنافقون لا يسمعون الإيمان ولا يعقلون، ليس في أجوافهم إيمان فشبه أجسامهم بالخشب.
{يحسبون كل صيحة} أنها {عليهم} يقول: إذا نادى مناد في العسكر أو أفلتت دابة، أو أنشدت ضالة يعني طلبت، ظنوا أنما يرادون بذلك مما في قلوبهم من الرعب.
{هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله} يعني لعنهم الله {أنى} يعنى من أين {يؤفكون}: يكذبون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رأيت هؤلاء المنافقين يا محمد تعجبك أجسامهم لاستواء خلقها وحسن صورها.
"وَإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ" يقول جلّ ثناؤه: وإن يتكلموا تسمع كلامهم يشبه منطقهم منطق الناس "كأنّهُمْ خُشُبٌ مُسَنّدَةٌ" يقول كأن هؤلاء المنافقين خُشُب مسّندة لا خير عندهم ولا فقه لهم ولا علم، وإنما هم صور بلا أحلام، وأشباح بلا عقول.
وقوله: "يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ" يقول جلّ ثناؤه: يحسب هؤلاء المنافقون من خُبثهم وسوء ظنهم، وقلة يقينهم كلّ صيحة عليهم، لأنهم على وَجَل أن يُنْزل الله فيهم أمرا يهتك به أستارهم ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، فهم من خوفهم من ذلك كلما نزل بهم من الله وحي على رسوله، ظنوا أنه نزل بهلاكهم وعَطَبهم. يقول الله جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: "هم العدوّ" يا محمد "فاحذرهم"، فإن ألسنتهم إذا لَقُوكم معكم وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم عين لأعدائكم عليكم.
وقوله: "قَاتَلَهُمُ اللّهُ أنّى يُؤفَكُونَ" يقول: أخزاهم الله إلى أيّ وجه يصرفون عن الحقّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} في هذا بيان أن الله تعالى قد كان آتاهم حسن الصورة وحسن البيان، وأنه قد آتاهم العلم لأن حسن البيان، لا يكاد يكون إلا عن علم. فكأن الله تعالى ذكر نعمه التي آتاهم؛ وإنهم لم يشكروا نعمه، وأساؤوا صحبتها؛ فكأنه يقول: كيف ترجو منهم حسن الصحبة لك، وإنهم لم يحسنوا صحبة نِعم رب العالمين؟ فيكون بعض التسلي لما أهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سوء صنيعهم به وإعراضهم عن اتباعه وطاعته. وقوله تعالى: {وإن يقولوا تسمع لقولهم} يعني وإن يقولوا تحسب قولهم حقا، فتسمع لقولهم لتقبله. ويحتمل أي تسمع لقولهم لما يعجبك قولهم، أو تسمع لقولهم على ما كانت عادته عليه السلام في كل من كلمه أنه لا يغير عليه، ولا يقطع عليه كلامه حتى يفرغ منه، ثم يقبله إن كان مما يجب قبوله أو يغيره على صاحبه أو يرده إن كان مستحقا للتغيير عليه، والله أعلم.
وقوله تعالى: {كأنهم خشب مسنّدة} يقول: إنهم في ما يكون من جانبهم وناحيتهم من حسن الصورة والبيان بحيث يعجبك، وفي ما تلقي إليهم من الحق والدين والحكمة {كأنهم خشب مسندة} لا ينجع فيهم الحق، ولا يقبلونه كالخشب المسندة. ويحتمل أن يكون هذا تمثيلا بالخشب من حيث إن الخشب المسندة في الظاهر، هي الخشب اليابسة التي لا أجواف لها، فيوضع فيها شيء، فكذلك المنافقون، كأنهم لا أجواف لهم توضع فيها الحكمة والدين والحق، والله أعلم. وجائز أن يكون معناه: {كأنهم خشب مسنّدة} من حيث إن الخشب المسندة، ليس لها أسماع ولا أبصار ولا قلوب، فكذلك المنافقون، كأنهم صم بكم عمي من ناحية الحق وقبوله، والله المستعان.
وقوله تعالى: {يحسبون كل صيحة عليهم} يحتمل وجوها:
والثاني: أن يكون ذلك في الحرب؛ أنهم كلما سمعوا صيحة، خافوا أن يكون فيها هلاكهم؛ وذلك أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكل فريق على حدة؛ وإذا وافقوا هذا الفريق صاروا حربا للفريق الآخر، وإذا وافقوا الآخر صاروا حربا لهؤلاء. فأخبر الله تعالى أنهم يحسبون من كل صيحة، سمعوها، أن يكون ذلك سببا لهلاكهم. والثالث: أن يكون الله تعالى عاقبهم بالخوف الدائم لتأميلهم الأمن من وجه لم يؤذنوا فيه؛ وذلك لما وصفنا أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكل رجاء أمّنهم، وكانت جميع مقاصدهم في ذلك تحصيل منافع الدنيا دون الديانة بدين من الأديان، وذلك غير مأذون فيه. فلما آثروا ذلك، واختاروه من غير أن يؤذن لهم عاقبهم بالخوف الدائم إما من الافتضاح والاطلاع على ما في قلوبهم وإما من الهلاك، والله أعلم.
وقوله تعالى: {هم العدو فاحذرهم} له أوجه من التأويل:
أحدها: أن يقول: {هم العدو} يعني أنهم أدنى عدوّ لكم {فاحذرهم قاتلهم الله} في جميع أحوالهم في المطعم والمشرب وغيره لأن الحذر ممن قرب من الأعداء ودنا أوجب ممّن بعد.
والثاني: احذرهم أن تطلعهم على سر في ما يرون، وتضمره من الجهاد والحرب، فيحتالون على إهلاكك أو يطلعون الكفرة على سرك.
والثالث: احذرهم أن تقبل منهم قولا، يقولون عن أصحابك لأنهم يغرون أصحابك عليك، فاحذرهم أن تقبل قولهم على أصحابك...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{يَحْسَبُونَ} من جبنهم وسوء ظنهم وقلّة يقينهم.
{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} يصرفون عن الحق.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
["كأنهم خشب مسندة"] قيل: إنهم شبهوا بخشب نخرة متآكلة لا خير فيها إلا أنها مسندة يحسب من يراها أنها صحيحة سليمة...
(قاتلهم الله)... هذا اشد ما يكون من الذم والبلاء الذي ينزل بهم وأبلغ ما يكون في البيان عن مكروههم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} هم عدوٌّ لك -يا محمد- فاحْذَرْهم، ولا يَغُرَّنْكَ تَبَسُّطُهم في الكلام على وجهِ التودُّدِ والتقرُّب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}؟ قلت: شبهوا في استنادهم -وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير- بالخشب المسندة إلى الحائط؛ ولأنّ الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع. ويجوز أن يراد بالخشب المسندة: الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان؛ شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم؛ والخطاب في {رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ} لرسول الله، أو لكل من يخاطب...
يوقف على {عَلَيْهِمْ} ويبتدأ {هُمُ العدو} أي الكاملون في العداوة: لأنّ أعدى الأعداء العدوّ المداجي، الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي {فاحذرهم} ولا تغترر بظاهرهم...
{قاتلهم الله} دعاء عليهم، وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم. أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك {أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يعدلون عن الحق، تعجباً من جهلهم وضلالتهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وقوله تعالى: {قاتلهم الله} دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة، وتمني الشر لهم، وقوله تعالى: {أنى يؤفكون} معناه: كيف يصرفون، ويحتمل أن يكون {أنى} استفهاماً، كأنه قال كيف يصرفون أو لأي سبب لا يرون أنفسهم، ويحتمل أن يكون: {أنى} ظرفاً ل {قاتلهم} كأنه قال {قاتلهم الله}، كيف انصرفوا أو صرفوا، فلا يكون في القول استفهام على هذا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما وصف سبحانه بواطنهم بما زهد فيهم لأن الإنسان بعقله كما أن المأكول بشكله، وكانت لهم أشكال تغر ناظرها لأن العرب كانت تقول: جمال المنظر يدل غالباً على حسن المخبر، قال تعالى: {وإذا رأيتهم} أي أيها الرسول على ما لك من الفطنة ونفوذ الفراسة أو أيها الرائي كائناً من كان بعين البصر {تعجبك أجسامهم} لضخامتها وصباحتها، فإن غايتهم كلها بصلاح ظواهرهم وترفيه أنفسهم، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ابن أبي -يعني- الذي نزلت السورة بسببه -جسيماً فصيحاً صحيحاً ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستندون فيه ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم. ولما وصف البواطن والظواهر، وكان قولهم: المرء بأصغريه قلبه ولسانه مشروطاً كما هو ظاهر العبارة بمطابقة اللسان للقلب، قال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنهم لا يكلمونه صلى الله عليه وسلم إلا اضطراراً لأنهم لا يحبون مكالمته ولا باعث لهم عليها لما عندهم من أمراض القلوب: {وإن يقولوا} أي يوجد منهم قول في وقت من الأوقات {تسمع لقولهم} أي لأنه يكون بحيث يلذذ السمع ويروق الفكر لما فيه من الادهان مع الفصاحة فهو يأخذ بمجامع القلب.
ولما أخبر عن ظاهرهم، دل على أن ذلك الظاهر أمر لا حقيقة له، وأنهم لما وطنوا أنفسهم على الوقاحة وخلعوا لباس الحياء بالكذب بذلوا جميع الجهد في تحسين القول لأنه لا درك عليهم فيه فيما يحسبون بوجه لأنهم لا يحسبون للآخرة حساباً فقال: {كأنهم} أي في حسن ظواهرهم وسوء بواطنهم وفي الجبن والخور وعدم الانتفاع بهم في شيء من فهم أو ثبات فإنهم لا حقيقة لهم {خشب} جمع كثرة لخشبة وهو دليل على كثرتهم. ولما كان الخشب ربما أطلق على المغروس، نفى ذلك بقوله منبهاً بالتشديد على الكثرة: {مسندة} أي قد قطعت من مغارسها وقشرت وأسندت إلى الجدر لئلا يفسدها التراب، فهي بيض تلوح تعجب ناظرها ولا ثبات لها ولا باطن بثمرة ولا سقي فلا مدد سماوي لها أصلاً يزكيها نوع زكاء فقد فقدت روح الإنبات الذي به كمالها كما فقد المنافق روح الإيمان الذي به كمال الناطق وبقاؤه، فهم في تلك الحالة أشباح بلا أرواح أجسام بلا أحلام.
ولما كان من يقول ما لا يفعل يصير متهماً لكل من يكلمه، لأنه لإخلافه له قد صار عدوه فيتوهم الناس كلهم أعداء له فيكسبه ذلك أشد الجبن، وذلك هو السبب الأعظم في تحسين قوله، قال: {يحسبون} أي لضعف عقولهم وكثرة ارتيابهم لكثرة ما يباشرون من سوء أعمالهم {كل صيحة} أي من نداء مناد في انفلات دابة أو إنشاد ضالة، ونحو ذلك {عليهم} أي واقعة. ولما كان من يظن عداوة الناس له يكون هو عدواً لهم، قال نتيجة ما مضى: {هم} أي خاصة {العدو} أي كامل العداوة بما دل عليه الإخبار بالمفرد الذي يقع على الجمع دون الجمع إشارة إلى أنهم- في شدة عداوتهم للإسلام وأهله وكمال قصدهم وشدة سعيهم فيه -على قلب واحد وإن أظهروا التودد في الكلام والتقرب به إلى أهل الإسلام، فإن ألسنتهم معكم إذا لقوكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهو عيون لهم عليكم.
ولما بين ذلك من سوء أحوالهم سبب عنه قوله: {فاحذرهم}... فإن من استشعر أنك عدو له بغى لك الغوائل، وأغلب من يعجبك قوله على هذا الوصف يكون، ولكنه يكون بلطف الله دائم الخذلان منكوساً في أكثر تقلباته بيد القهر والحرمان لسر قوله تعالى: {قاتلهم الله} أي أحلهم الملك المحيط علماً وقدرة محل من يقاتله عدو قاهر له أشد مقاتلة على عادة الفعل الذي يكون بين اثنين.
ولما كان حالهم في غاية العجب في صرفهم عن الإسلام أولاً بالعمى عن الآيات الظاهرات، وثانياً عن الإخبار بأسرارهم، وخفي مكرهم وأخبارهم، وفي عدم صرفهم عما هم عليه من قبح السرائر وسوء الضمائر بتعكيس مقاصدهم، وتخييب مصادرهم في مكرهم ومواردهم، دل على ذلك بقوله: {أنّى} أي كيف ومن أيّ وجه {يؤفكون} أي يصرفهم عن إدراك قبح ما هم عليه صارف ما كائناً ما كان ليرجعوا عنه إلى حسن الدين والأنس به وإدراك بركته وعظيم أثره.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
"قاتلهم الله" أي لعنهم وطردهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم. وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة. يحسبون كل صيحة عليهم. هم العدو فاحذرهم. قاتلهم الله! أنى يؤفكون؟).. فهم أجسام تعجب. لا أناسي تتجاوب! وما داموا صامتين فهم أجسام معجبة للعيون.. فأما حين ينطقون فهم خواء من كل معنى ومن كل حس ومن كل خالجة.. (تسمع لقولهم كأنهم خشب).. ولكنها ليست خشبا فحسب. إنما هي (خشب مسندة).. لا حركة لها، ملطوعة بجانب الجدار! هذا الجمود الراكد البارد يصورهم من ناحية فقر أرواحهم إن كانت لهم أرواح! ويقابله من ناحية أخرى حالة من التوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم: (يحسبون كل صيحة عليهم).. فهم يعرفون أنهم منافقون مستورون بستار رقيق من التظاهر والحلف والملق والالتواء. وهم يخشون في كل لحظة أن يكون أمرهم قد افتضح وسترهم قد انكشف. والتعبير يرسمهم أبدا متلفتين حواليهم؛ يتوجسون من كل حركة ومن كل صوت ومن كل هاتف، يحسبونه يطلبهم، وقد عرف حقيقة أمرهم!! وبينما هم خشب مسندة ملطوعة إذا كان الأمر أمر فقه وروح وشعور بإيقاعات الإيمان.. إذا هم كالقصبة المرتجفة في مهب الريح إذا كان الأمر أمر خوف على الأنفس والأموال! وهم بهذا وذاك يمثلون العدو الأول للرسول [صلى الله عليه وسلم] وللمسلمين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا انتقال إلى وضَحْ بعض أحوالهم التي لا يبرزونها إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها تبرز من مشاهدتهم، فكان الوضح الأول مفتتحاً ب {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1] وهذا الوضح مفتتحاً ب {إذا رأيتهم}. فجملة {وإذا رأيتهم} معطوفة على جملة {فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3] واقعة موقع الاحتراس والتتميم لدفع إيهام من يغره ظاهر صورهم. واتبع انتفاء فقه عقولهم بالتنبيه على عدم الاغترَار بحسن صورهم فإنها أجسام خالية عن كمال الأنفس... فالخطاب في هذه الآية لغير معيّن يشمل كل من يراهم ممن يظن أن تغرّه صورهم فلا يدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله قد أطلعه على أحوالهم وأوقفه على تعيينهم... والمراد بالسَّماع في قوله: {تسمع لقولهم} الإِصغاء إليهم لحسن إبانتهم وفصاحة كلامهم مع تغريرهم بحلاوة معانيهم تمويه حالهم على المسلمين. فاللام في قوله: {لقولهم} لتضمين {تسمع} معنى: تُصْغ أيها السامع، إذ ليس في الإِخبار بالسماع للقول فائدة لولا أنه ضمن معنى الإِصغاء لوعي كلامهم. وجملة {كأنهم خشب مسندة} مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً عن سؤال يَنشأ عن وصف حسن أجسامهم وذَلاقة كلامهم، فإنه في صورة مدح فلا يناسب ما قبله من ذمهم فيترقب السامع ما يَرد بعد هذا الوصف...
والمسنَّدة التي سُندت إلى حائط أو نحوه، أي أميلت إليه فهي غليظة طويلة قوية لكنها غير منتفع بها في سَقف ولا مشدود بها جدار. شُبهوا بالخُشُب المسنَّدة تشبيه التمثيل في حُسن المرأى وعدم الجَدوى، أفيد بها أن أجسامهم المعجَب بها ومقالَهم المصغى إليه خاليان عن النفع كخُلوّ الخُشب المسنَّدة عن الفائدة، فإذا رأيتموهم حسبتموهم أرباب لبّ وشجاعة وعلم ودراية. وإذا اختبرتموهم وجدّتموهم على خلاف ذلك فلا تحْتفلوا بهم...
{هُمُ العدو فاحذرهم}. يجوز أن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة {يحسبون كل صيحة عليهم} لأن تلك الجملة لغرابة معناها تثير سؤالاً عن سبب هلعهم وتخوفهم من كلّ ما يتخيَّل منه بأس المسلمين فيجاب بأن ذلك لأنهم أعداء ألِدّاءُ للمسلمين ينظرون للمسلمين بمرآة نفوسهم فكما هم يتربصون بالمسلمين الدوائر ويتمنون الوقيعة بهم في حين يظهرون لهم المودة كذلك يظنون بالمسلمين التربص بهم وإضمار البطش بهم... ويجوز أن تكون الجملة بمنزلة العلة لِجملة {يحسبون كل صيحة عليهم} على هذا المعنى أيضاً. ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً لِذكر حالة من أحوالهم تهُم المسلمين معرفتُها ليترتب عليها تفريع {فاحذرهم} وعلى كل التقادير فنظم الكلام واف بالغرض من فضح دخائلهم...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
فيه ما يشعر بحصر العداوة في المنافقين مع وجودها في المشركين واليهود، ولكن إظهار المشركين شركهم، وإعلان اليهود كفرهم مدعاة للحذر طبعاً. أما هؤلاء فادعاؤهم الإيمان وحلفهم عليه، قد يوحي بالركون إليهم ولو رغبة في تأليفهم. فكانوا أولى بالتحذير منهم لشدة عداوتهم ولقوة مداخلتهم مع المسلمين، مما يمكنهم من الاطلاع على جميع شؤونهم...