255- الله هو الذي يستحق أن يُعبد دون سواه ، وهو الباقي القائم على شئون خلقه دائماً ، الذي لا يغفل أبداً ، فلا يصيبه فتور ولا نوم ولا ما يشبه ذلك لأنه لا يتصف بالنقص في شيء ، وهو المختص بملك السماوات والأرض لا يشاركه في ذلك أحد ، وبهذا لا يستطيع أي مخلوق كان أن يشفع لأحد إلا بإذن الله ، وهو - سبحانه وتعالى - محيط بكل شيء عالم بما كان وما سيكون ، ولا يستطيع أحد أن يدرك شيئاً من علم الله إلا ما أراد أن يعلم به من يرتضيه ، وسلطانه واسع يشمل السماوات والأرض ، ولا يصعب عليه تدبير ذلك لأنه المتعالي عن النقص والعجز ، العظيم بجلاله وسلطانه .
ثم قال تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }
هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها ، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة ، فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات ، فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأن { لا إله إلا هو } أي : لا معبود بحق سواه ، فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى ، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه ، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه ، ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه ، وكل ما سوى الله تعالى باطل ، فعبادة ما سواه باطلة ، لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه ، فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة ، وقوله : { الحي القيوم } هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما ، فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات ، كالسمع والبصر والعلم والقدرة ، ونحو ذلك ، والقيوم : هو الذي قام بنفسه وقام بغيره ، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء ، وسائر أنواع التدبير ، كل ذلك داخل في قيومية الباري ، ولهذا قال بعض المحققين : إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، ومن تمام حياته وقيوميته أن { لا تأخذه سنة ولا نوم } والسنة النعاس { له ما في السماوات وما في الأرض } أي : هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا قال : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } أي : لا أحد يشفع عنده بدون إذنه ، فالشفاعة كلها لله تعالى ، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه ، لا يبتدئ الشافع قبل الإذن ، ثم قال { يعلم ما بين أيديهم } أي : ما مضى من جميع الأمور { وما خلفهم } أي : ما يستقبل منها ، فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور ، متقدمها ومتأخرها ، بالظواهر والبواطن ، بالغيب والشهادة ، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى ، ولهذا قال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض } وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه ، إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما ، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى ، بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش ، وما لا يعلمه إلا هو ، وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار ، وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال ، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها ، والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع ، والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب ، فلهذا قال : { ولا يؤوده } أي : يثقله { حفظهما وهو العلي } بذاته فوق عرشه ، العلي بقهره لجميع المخلوقات ، العلي بقدره لكمال صفاته { العظيم } الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة ، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة ، فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء ، فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ، وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده ، وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته ، فهذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته ، متضمنة لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا .
وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال ، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان . . بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني ، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته ، وأوضح سماته . وهي آية جليلة الشأن ، عميقة الدلالة ، واسعة المجال :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم . لا تأخذه سنة ولا نوم . له ما في السماوات وما في الأرض . من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤوده حفظهما . وهو العلي العظيم ) . .
وكل صفة من هذه الصفات تتضمن قاعدة من قواعد التصور الإسلامي الكلية . ومع أن القرآن المكي في عمومه كان يدور على بناء هذا التصور ، فإننا نلتقي في القرآن المدني كذلك في مناسبات شتى بهذا الموضوع الأصيل إلهام . الذي يقوم على أساسه المنهج الإسلامي كله ، ولا يستقيم هذا المنهج في الحس إلا أن يستقيم ذلك الأساس ، ويتضح ، ويتحول إلى حقائق مسلمة في النفس ، ترتكن إلى الوضوح واليقين .
ولقد تحدثت فيما سبق عند تفسير سورة الفاتحة في أول الجزء الأول من هذه الطبعة من الظلال ، عن الأهمية البالغة لوضوح صفة الله - سبحانه - في الضمير الإنساني . بما أن الركام الذي كان يرين على هذا الضمير من تصورات الجاهلية كان معظمه ناشئا من غموض هذه الحقيقة ، ومن غلبة الخرافة والأسطورة عليها ؛ ومن الغبش التي يغشيها حتى في فلسفة أكبر الفلاسفة . . حتى جاء الإسلام فجلاها هذا الجلاء ، وأنقذ الضمير البشري من ذلك الركام الثقيل ، ومن ذلك الضلال والخبط في الظلماء !
وكل صفة من هذه الصفات التي تضمنتها هذه الآية تمثل قاعدة يقوم عليها التصور الإسلامي الناصع ، كما يقوم عليها المنهج الإسلامي الواضح .
فهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة - بعد الرسل - كعقيدة التثليث المبتدعة من المجامع الكنسية بعد عيسى - عليه السلام - ولا لأي غبش مما كان يرين على العقائد الوثنية التي تميل إلى التوحيد ، ولكنها تلبسه بالأساطير ، كعقيدة قدماء المصريين - في وقت من الأوقات - بوحدانية الله ، ثم تلبيس هذه الوحدانية بتمثل الإله في قرص الشمس ! ووجود آلهة صغيرة خاضعة له !
هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي ؛ والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها . فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة . فلا يكون إنسان عبدا إلا لله ، ولا يتجه بالعبادة إلا لله ، ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله ، وما يأمره الله به من الطاعات . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة : الحاكمية لله وحده . فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ؛ ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله ؛ فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله ، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله . . وهكذا إلى آخرما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء .
والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - بالحياة على هذا المعنى . كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية ، فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - كذلك بالحياة على هذا المعنى . ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة . فالله - سبحانه - ليس كمثله شيء ، ومن ثم يرتفع كل شبه من الخصائص التي تتميز بها حياة الأشياء ، وتثبت لله صفة الحياة مطلقة من كل خصيصة تحدد معنى الحياة في مفهوم البشر . . وتنتفي بهذا جميع المفهومات الأسطورية التي جالت في خيال البشر !
أما صفة( القيوم ) . . فتعني قيامه - سبحانه - على كل موجود . كما تعني قيام كل موجود به فلا قيام لشيء إلا مرتكنا إلى وجوده وتدبيره . . لا كما كان أكبر فلاسفة الإغريق - أرسطو - يتصور أن الله لا يفكر في شيء من مخلوقاته ، لأنه تعالى أن يفكر في غير ذاته ! ويحسب أن في هذا التصور تنزيها لله وتعظيما ؛ وهو يقطع الصلة بينه وبين هذا الوجود الذي خلقه . . وتركه . . فالتصور الإسلامي تصور إيجابي لا سلبي . يقوم على أساس أن الله - سبحانه - قائم على كل شيء ، وأن كل شيء قائم في وجوده على إرادة الله وتدبيره . . ومن ثم يظل ضمير المسلم وحياته ووجوده ووجود كل شيء من حوله مرتبطا بالله الواحد ؛ الذي يصرف أمره وأمر كل شيء حوله ، وفق حكمة وتدبير ، فيلتزم الإنسان في حياته بالمنهج المرسوم القائم على الحكمة والتدبير ؛ ويستمد منه قيمه وموازينه ، ويراقبه وهو يستخدم هذه القيم والموازين .
وهذا توكيد لقيامه - سبحانه - على كل شيء ، وقيام كل شيء به . ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم . في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله - سبحانه - لكل شيء . . ( ليس كمثله شيء ) . . وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أو النوم المستغرق ، وتنزهه - سبحانه - عنهما إطلاقا . .
وحقيقة القيام على هذا الوجود بكلياته وجزئياته في كل وقت وفي كل حالة . . حقيقة هائلة حين يحاول الإنسان تصورها ، وحين يسبح بخياله المحدود مع ما لا يحصيه عد من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل ؛ ويتصور - بقدر ما يملك - قيام الله - سبحانه - عليها ؛ وتعلقها في قيامها بالله وتدبيره . . إنه أمر . . أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني . وما يتصوره منه - وهو يسير - هائل يدير الرؤوس . ويحير العقول ، وتطمئن به القلوب . .
( له ما في السماوات وما في الأرض ) . .
فهي الملكية الشاملة . كما أنها هي الملكية المطلقة . . الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة . وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة . فالله الواحد هو الحي الواحد ، القيوم الواحد ، المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم . كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس . فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله ، لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء . إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء . ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروطالمالك المستخلف في هذه الملكية . وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته ؛ فليس لهم أن يخرجوا عنها ؛ وإلا بطلت ملكيتهم الناشئة عن عهد الاستخلاف ، ووقعت تصرفاتهم باطلة ، ووجب رد هذه التصرفات من المؤمنين بالله في الأرض . . وهكذا نجد أثر التصور الإسلامي في التشريع الإسلامي ، وفي واقع الحياة العملية التي تقوم عليه . وحين يقول الله في القرآن الكريم : ( له ما في السماوات وما في الأرض ) . فإنه لا يقرر مجرد حقيقة تصورية اعتقادية ؛ إنما يضع قاعدة من قواعد الدستور للحياة البشرية ونوع الارتباطات التي تقوم فيها كذلك .
على أن مجرد استقرار هذه الحقيقة في الضمير . . مجرد شعور الإنسان بحقيقة المالك - سبحانه - لما في السماوات وما في الأرض . . مجرد تصور الإنسان لخلو يده هو من ملكية أي شيء مما يقال : إنه يملكه ؛ ورد هذه الملكية لصاحبها الذي له ما في السماوات وما في الأرض . . مجرد إحساسه بأن ما في يده عارية لأمد محدود ، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها له في الأجل المرسوم . . مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر كفيل وحده بأن يطامن من حدة الشره والطمع ، وحدة الشح والحرص ، وحدة التكالب المسعور . وكفيل كذلك بأن يسكب في النفس القناعة والرضى بما يحصل من الرزق ؛ والسماحة والجود بالموجود ؛ وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء ؛ فلا تذهب النفس حسرات على فائت أو ضائع ؛ ولا يتحرق القلب سعارا على المرموق المطلوب !
( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ ) . .
وهذه صفة أخرى من صفات الله ؛ توضح مقام الألوهية ومقام العبودية . . فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية ؛ لا يتعدونه ولا يتجاوزونه ، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع ؛ الذي لا يقدم بين يدي ربه ؛ ولا يجرؤ على الشفاعة عنده ، إلا بعد أن يؤذن له ، فيخضع للإذن ويشفع في حدوده . . وهم يتفاضلون فيما بينهم ، ويتفاضلون في ميزان الله . ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد . .
إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية . يزيد هذا الإيحاء عمقا صيغة الاستفهام الاستنكارية ؛ التي توحي بأن هذا أمر لا يكون ؛ وأنه مستنكر أن يكون . فمن هو هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ وفي ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فزعموا لله - سبحانه - خليطا يمازجه أو يشاركه بالبنوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور ، أو زعموا له - سبحانه - اندادا يشفعون عنده فيستجيب لهم حتما . أو زعموا له - سبحانه - من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له . . في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعدة لا تخطر على الذهن ؛ ولا تجول في الخاطر ، ولا تلوح بظلها في خيال !
وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي ؛ فلا تدع مجالا لتلبيس أو وهم ، أو اهتزاز في الرؤية ! الألوهية الوهية . والعبودية عبودية . ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء . والرب رب ، والعبد عبد . ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء .
فأما صلة العبد بالرب ، ورحمة الرب للعبد ، والقربى والود والمدد . . فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكبا ؛ ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضا ؛ ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة . دون ما حاجة إلى خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية . ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة !
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) . .
وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه ، وفي تحديد مقامه هو من إلهه . فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم . وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم . فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم ؛ ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب . كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت . وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه . . أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه . .
وشطر الحقيقة الأول . . علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم . . من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة . النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها . يعلم ما تضمر علمه بما تجهر . ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل . ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه . . شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان ؛ كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه .
وشطر الحقيقة الثاني . . أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه . . جدير بأن يتدبره الناس طويلا . وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة .
( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) . .
إنه - سبحانه - هو الذي يعلم وحده كل شيء علما مطلقا شاملا كاملا . وهو - سبحانه - يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه ؛ تصديقا لوعده الحق : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . . ولكنهم هم ينسون هذه الحقيقة ؛ ويفتنهم ما يأذن الله لهم فيه من علمه . سواء كان هذا الذي أذن لهم فيه علم شيء من نواميس الكون وقوانينه ؛ أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة وإلى حد معين . . يفتنهم هذا كما يفتنهم ذاك ؛ فينسون الإإذن الأول الذي منحهم الإحاطة بهذا العلم . فلا يذكرون ولا يشكرون . بل يتبجحون وقد يكفرون .
إن الله سبحانه وهب الإنسان المعرفة مذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه . ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس ووعده الحق . وصدقه وعده فكشف له يوما بعد يوم ، وجيلا بعد جيل ، في خط يكاد يكون صاعدا أبدا ، عن بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية التي تلزم له في خلافة الأرض ، ليصل بها إلى أقصى الكمال المقدر له في هذه الرحلة المرسومة .
وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا الجانب وكشف له عنه ، بقدر ما زوى عنه أسرارا أخرى لا حاجة له بها في الخلافة . . زوى عنه سر الحياة وما يزال هذا السر خافيا ، وما يزال عصيا ، وما يزال البحث فيه خبطا في التيه بلا دليل ! وزوى عنه سر اللحظة القادمة . فهي غيب لا سبيل إليه . والستر المسدل دونها كثيف لا تجدي محاولة الإنسان في رفعه . . وأحيانا تومض من وراء الستر ومضة لقلب مفرد بإذن من الله خاص ؛ ثم يسدل الستر ويسود السكون ؛ ويقف الإنسان عند حده لا يتعداه !
وزوى عنه أسرارا كثيرة . . زوى عنه كل ما لا يتعلق بالخلافة في الأرض . . والأرض هي تلك الذرة الصغيرة السابحة في الفضاء كالهباءة . .
ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرف من العلم ، الذي أحاط به بعد الأذن . يفتن فيحسب نفسه في الأرض إلها ! ويكفر فينكر أن لهذا الكون إلها ! وإن يكن هذا القرن العشرون قد بدأ يرد العلماء حقا إلى التواضعوالتطامن . فقد بدأوا يعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ! وبقي الجهال المتعالمون الذين يحسبون أنهم قد علموا شيئا كثيرا !
( وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤوده حفظهما ) . .
وقد جاء التعبير في هذه الصورة الحسية في موضع التجريد المطلق ؛ على طريقة القرآن في التعبير التصويري ، لأن الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقا وثباتا . فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك . فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه . وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية . ولكن الصورة التي ترتسم في الحس من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن . وكذلك التعبير بقوله : ( ولا يؤوده حفظهما ) فهو كناية عن القدرة الكاملة . ولكنه يجيء في هذه الصورة المحسوسة . صورة انعدام الجهد والكلال . لأن التعبير القرآني يتجه إلى رسم صور للمعاني تجسمها للحس ، فتكون فيه أوقع وأعمق وأحس .
ولا حاجة بنا إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن ، إذا نحن فقهنا طريقة القرآن التعبيرية ؛ ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغريبة التي أفسدت علينا كثيرا من بساطة القرآن ووضوحه .
ويحسن أن أضيف هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما ورد منها في القرآن . ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان .
وهذه خاتمة الصفات في الآية ، تقرر حقيقة ، وتوحي للنفس بهذه الحقيقة . وتفرد الله سبحانه بالعلو ، وتفرده سبحانه بالعظمة . فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر . فلم يقل وهو علي عظيم ، ليثبت الصفة مجرد إثبات . ولكنه قال : ( العلي العظيم ) ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك !
إنه المتفرد بالعلو ، المتفرد بالعظمة . وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون ؛ وإلى العذاب في الآخرة والهوان . وهو يقول ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) . . ويقول عن فرعون في معرض الهلاك : إنه كان عاليا . .
ويعلو الإنسان ما يعلو ، ويعظم الإنسان ما يعظم ، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم . وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان ، فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه ؛ وترده إلى مخافة الله ومهابته ؛ وإلى الشعور بجلاله وعظمته ؛ وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده . فهي اعتقاد وتصور . وهي كذلك عمل وسلوك . .
لما ذكر هول يوم القيامة وذكر حال الكافرين استأنف بذكر تمجيد الله تعلى وذكر صفاته إبطالاً لكفر الكافرين وقطعاً لرجائهم ، لأنّ فيها { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ، وجعلت هذه الآية ابتداءً لآيات تقرير الوحدانية والبعث ، وأودعت هذه الآية العظيمة هنا لأنّها كالبرزخ بين الأغراض السابقة واللاّحقة .
وجيء باسم الذات هنا لأنّه طريق في الدلالة على المسمى المنفرد بهذا الاسم ، فإنّ العَلَم أعْرَفُ المَعارف لعدم احتياجه في الدلالة على مسمّاه إلى قرينة أو مَعُونة لولا احتمالُ تعدد التسمية ، فلما انتفى هذا الاحتمالُ في اسم الجلالة كان أعرفَ المعارف لا مَحالةً لاستغنائه عن القرائن والمعونات ، فالقرائنُ كالتكلّم والخطاب ، والمعونات كالمَعاد والإشارةِ باليدِ والصلةِ وسبقِ العهد والإضافة .
وجملة « لا إله إلاَّ هو » خبر أول عن اسم الجلالة ، والمقصود من هذه الجملة إثبات الوحدانية وقد تقدم الكلام على دلالة لا إله إلاّ هو على التوحيد ونفي الآلهة عند قوله تعالى : { وإلهكم إله واحد إلاّ هو } [ البقرة : 163 ] .
وقوله : { الحي } خبر لمبتدأ محذوف ، و { القيّوم } خبر ثان لذلك المبتدإ المحذوف ، والمقصودُ إثبات الحياة وإبطالُ استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية لانتفاء الحياة ، عنهم كما قال إبراهيم عليه السلام { يا أبت لِمَ تعبدُ ما لا يسمع ولا يبصر } [ مريم : 42 ] وفُصِلت هذه الجملة عن التي قبلها للدلالة على استقلالها لأنّها لو عطفت لكانت كالتبع ، وظاهر كلام الكشاف أنّ هذه الجملة مبيّنة لما تضمّنته جملة { الله لا إله إلا هو } من أنّه القائم بتدبير الخلق ، أي لأنّ اختصاصه بالإلهية يقتضي أن لا مدبّر غيره ، فلذلك فصلت خلافاً لما قرر به التفتازاني كلامَه فإنّه غير ملائم لعبارته .
والحيّ في كلام العرب من قامت به الحياة ، وهي صفة بها الإدراكُ والتصرّفُ ، أعني كمال الوجود المتعارف ، فهي في المخلوقات بانبثاث الروح واستقامة جريان الدم في الشرايين ، وبالنسبة إلى الخالق ما يقاربُ أثَر صفة الحياة فينا ، أعني انتفاء الجَمَادِيَّة مع التنزيه عن عوارض المخلوقات . وفسّرها المتكلّمون بأنها « صفة تصحّح لمن قامت به الإدراكَ والفعل » .
وفسّر صاحب « الكشاف » الحيّ بالباقي ، أي الدائم الحياة بحيث لا يعتريه العدم ، فيكون مستعملاً كناية في لازم معناه لأنّ إثباتَ الحياة لله تعالى بغير هذا المعنى لا يكون إلاَّ مجازاً أو كناية . وقال الفخر : « الذي عندي أنّ الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن صحة العلم والقدرة . بل عبار عن كمال الشيء في جنسه ، قال تعالى : { فأحيا به الأرض بعد موتها } [ الجاثية : 5 ] ، وحياة الأشجار إيراقها . فالصفة المسمّاة في عرف المتكلّمين بالحياة سمّيت بذلك لأنّ كمال حال الجسم أن يكون موصوفاً بها ، فالمفهوم الأصلي من لفظ الحيّ كونه واقعاً على أكمل أحواله وصفاته » .
والمقصود بوصف الله هنا بالحيّ إبطال عقيدة المشركين إلاهية أصنامهم التي هي جمادات ، وكيف يكون مدبّر أمور الخلق جماداً .
والحيّ صفة مشبهة من حيِيَ ، أصله حَيِيٌ كحَذِرٍ أدغمت الياءان ، وهو يائي باتفاق أئمة اللّغة ، وأما كتابة السلف في المصحف كلمة حيوة بواو بعد الياء فمخالفة للقياس ، وقيل كتبوها على لغة أهل اليمن لأنّهم يقولون حيوة أي حياة ، وقيل كتبوها على لغة تفخيم الفتحة .
والقيّوم فيعول من قام يقوم وهو وزن مبالغة ، وأصله قَيْوُوم فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمتا ، والمراد به المبالغة في القيام المستعملِ مجازاً مشهوراً في تدبير شؤون الناس ، قال تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبتْ } [ الرعد : 33 ] . والمقصود إثبات عموم العلم له وكمالِ الحياة وإبطالُ إلاهية أصنام المشركين ، لأن المشركين كانوا يعترفون بأن مدبّر الكون هو الله تعالى ، وإنّما جعلوا آلهتهم شفعاء وشركاء ومقتسمين أمور القبائل . والمشركون من اليونان كانوا قد جعلوا لكل إله من آلهتهم أنواعاً من المخلوقات يتصرّف فيها وأمماً من البشر تنتمي إليه ويَحنأ عليها .
وجملة { لا تأخذه سِنة ولا نوم } مُقرّرة لمضمون جملة « الله الحيّ القيوم » ولرفع احتمال المبالغة فيها ، فالجملة منزّلة منزلة البيان لمعنى الحي القيوم ولذلك فصلت عن التي قبلها .
والسِّنة فِعْلة من الوسن ، وهو أول النوم ، والظاهر أنّ أصلها اسم هيأة كسائر ما جاء على وزن فِعله من الواوي لفاء ، وقد قالوا وَسنة بفتح الواو على صيغة المرة . والسنة أول النوم ، قال عدي بن الرقاع :
وسنانُ أقْصَدَه النُّعَاس فَرنَّقَتْ *** في عينه سِنَة وليسَ بنائم
والنوم معروف وهو فتور يعتري أعصَاب الدماغ من تعب أعمال الأعصاب من تصاعد الأبخرة البدنية الناشئة عن الهضم والعملِ العصبي ، فيشتدّ عند مغيب الشمس ومجيء الظُلمة فيطلب الدمَاغ والجهاز العصبي الذي يدبّره الدمَاغ استراحةً طبيعية فيغيب الحِسّ شيئاً فشيئاً وتثقل حركة الأعضاء ، ثم يغيب الحسّ إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها فتكون اليقظة .
ونفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التدبير ، وإثبات لكمال العلم ؛ فإنّ السنة والنوم يشبهان الموت ، فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة ، وهما يعوقان عن التدبير وعن العلم بما يحصل في وقت استيلائهما على الإحساس .
ونفي السنة عن الله تعالى لا يغني عن نفي النوم عنه لأنّ من الأحياء من لا تعتريه السنة فإذا نام نام عميقاً ، ومن الناس من تأخذه السنة في غير وقت النوم غلبة ، وقد تمادحت العرب بالقدرة على السهر ، قال أبو كبير :
فأتَتْ به حُوشَ الفُؤادِ مُبَطَّناً *** سُهُداً إذَا ما نَام ليلُ الهَوْجَلِ
والمقصود أنّ الله لا يحجب علمه شيء حجباً ضعيفاً ولا طويلاً ولا غلبة ولا اكتساباً ، فلا حاجة إلى ما تطلّبه الفخر والبيضاوي من أن تقديم السنة على النوم مراعى فيه ترتيب الوجود ، وأنّ ذكر النوم من قبيل الاحتراس .
وقد أخذ هذا المعنى بشّار وصاغه بما يناسب صناعة الشعر فقال :
وليلٍ دَجُوجِي تَنَامُ بناتُه *** وأبناؤه من طُوله{[193]} ورَبَائِبه
فإنّه أراد من بنات الليل وأبنائه الساهرات والساهرين بمواظبة ، وأراد بربائب الليل من هم أضعف منهم سهراً لليلِ لأنّ الربيب أضعف نسبة من الولد والبنت .
وجملة { له ما في السماوات وما في الأرض } تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته ، وتعليل لاتّصافه بالقيّوميّة لأنّ من كانت جميع الموجودات مِلكاً له فهو حقيق بأن يكون قيّومها وألاّ يهملها ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها .
واللامُ للمِلك . والمراد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات ، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته ، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنّه لا يشذّ عن مِلكه موجود فحصل معنى الحصر ، ولكنّه زاده تأكيداً بتقديم المسند أي لا لِغيره لإفادة الردّ على أصناف المشركين ، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان ومن مشركي العرب لأن مجرّد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفي في الدلالة على إبطال العقائد الضّالة . فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها ، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر ، وهذا بلاغة معجِزة .
وجملة { من ذا الذي يشفع عنده ألا بإذنه } مقرّرة لمضمون جملة { له ما في السموات وما في الأرض } لما أفادُه لام الملك من شمول ملكه تعالى لِجميع ما في السماوات وما في الأرض ، وما تضمنّه تقديم المجرور من قَصْر ذلك الملك عليه تعالى قصرَ قلب ، فبطل وصف الإلهية عن غيره تعالى ، بالمطابقة . وبطل حق الإدلال عليه والشفاعة عنده التي لا تردّ بالالتزام ، لأنّ الإدلال من شأن المساوي والمقارب ، والشفاعة إدلال . وهذا إبطال لمعتقد معظم مشركي العرب لأنّهم لم يثبتوا لإلهتهم وطواغيتهم ألوهية تامة ، بل قالوا : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وقالوا : { ما نعبدهم إلاَّ ليقرّبونا إلى الله زُلْفى } [ الزمر : 3 ] ، فأكّد هذا المدلول بالصريح ، ولذلك فصلت هذه الجملة عمّا قبلها .
وَ { ذا } مزيدة للتأكيد إذ ليس ثمّ مشار إليه معيَّن ، والعرب تزيد ( ذا ) لما تدل عليه الإشارة من وجود شخص معيّن يتعلق به حكم الاستفهام ، حتى إذا أظهر عدم وجوده كان ذلك أدلّ على أن ليس ثمّةَ متطلع ينصب نفسه لادّعاء هذا الحكم ، وتقدم القول في ( من ذا ) عند قوله تعالى : { مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ] . والاستفهام في قوله : { من ذا الذي يشفع عنده } مستعمل في الإنكار والنفي بقرينة الاستثناء مِنه بقوله { إلا بإذنه } .
والشفاعة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة } [ البقرة : 54 ] .
والمعنى أنّه لا يشفع عنده أحد بحق وإدلال لأنّ المخلوقات كلها ملكُه ، ولكن يشفع عنده من أراد هُو أن يُظهر كرامته عنده فيأذَنَه بأن يشفع فيمن أراد هو العفوَ عنه ، كما يُسند إلى الكبراء مناولة المكرمات إلى نبغاء التلامذة في مواكب الامتحان ، ولذلك جاء في حديث الشفاعة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس ليكلّم ربّه فيخفّف عنهم هَوْل موقف الحساب ، فيأتي حتى يسجد تحت العرش ويتكلم بكلمات يعلّمه الله تعالى إياها ، فيقال يا محمدُ ارفع رأسك ، سَل تعطَه ، واشفَع تشفَّع ، فسجوده استيذان في الكلام ، ولا يشفع حتى يقال اشفع ، وتعليمُه الكلمات مقدّمة للإذن .
وجملة { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه } تقرير وتكميل لما تضمنّه مجموع جملتي { الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } ولما تضمنّته جملة { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه } ، فإنّ جملتي { الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } دلتا على عموم علمه بما حدث ووُجد من الأكوان ولم تَدُلاّ على علمه بما سيكون فأُكد وكمل بقوله يعلمُ الآية ، وهي أيضاً تعليل لجملة من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه إذ قد يتّجه سؤال لماذا حُرموا الشفاعة إلاّ بعد الإذن فقيل لأنّهم لا يعلمون من يستحقّ الشفاعة وربّما غرّتهم الظواهر ، والله يعمل من يستحقّها فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولأجل هذين المعنيين فصلت الجملة عما قبلها .
والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما هو ملاحظ لهم من المعلومات وما خفي عنهم أو ذهلوا عنه منها ، أو ما هو واقع بعدهم وما وقع قبلهم . وأما علمه بما في زمانهم فأحرى . وقيل المستقبل هو ما بين الأيدي والماضي هوالخَلف ، وقيل عكس ذلك ، وهما استعمالان مبنيان على اختلاف الاعتبار في تمثيل ما بين الأيدي والخلف ، لأنّ ما بين أيدي المرء هو أمامَه ، فهو يستقبله ويشاهده ويسعى للوصول إليه ، وما خلفه هو ما وراء ظهره ، فهو قد تخلّف عنه وانقطع ولا يشاهده ، وقد تجاوزه ولا يتّصل به بعد وقيل أمور الدنيا وأمور الآخرة ، وهوفرع من الماضي والمستقبل ، وقيل المحسوسات والمعقولات . وأياماً كان فاللفظ مجاز ، والمقصود عموم العلم بسائرِ الكائنات .
وضمير { أيديهم } و { خلفهم } عائد إلى { ما في السماوات وما في الأرض } بِتغليب العقلاء من المخلوقات لأنّ المراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما يشمل أحوال غير العقلاء ، أو هو عائد على خصوص العقلاء من عموم ما في السموات وما في الأرض فيكون المراد ما يختصّ بأحوال البشر وهو البعض ، لضمير ولا يحيطون لأنّ العلم من أحوال العقلاء .
وعطفت جملة { ولا يحيطون بشيء من علمه } على جملة { يعلم ما بين أيديهم } لأنّها تكملة لمعناها كقوله : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } [ البقرة : 216 ] .
ومعنى يحيطون يعلمون علماً تاماً ، وهومجاز حقيقته أنّ الإحاطة بالشيء تقتضي الاحتواء على جميع أطرافه بحيث لا يشذّ منه شيء من أوله ولا آخره ، فالمعنى لا يعلمون علم اليقين شيئاً من معلوماته ، وأمَّا ما يدّعونه فهو رجم بالغيب .
فالعلمُ في قوله : { من علمه } بمعنى المعلوم ، كالخَلْق بمعنى المخلوق ، وإضافته إلى ضمير اسم الجلالة تخصيص له بالعلوم اللدُنية التي استأثر الله بها ولم ينصب الله تعالى عليها دلائل عقلية أو عادية . ولذلك فقوله : { إلا بما شاء } تنبيه على أنّه سبحانه قد يُطلع بعض أصفيائه على ما هو من خواصّ علمه كقوله : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ، 27 ] .
وقوله : { وسّع كرسيّه السموات والأرض } تقرير لما تضمّنته الجمل كلّها من عظمة الله تعالى وكبريائه وعلمِه وقدرته وبيان عظمة مخلوقاته المستلزمة عظمة شأنه ، أو لبيان سعة ملكه كذلك كما سنبيّنه ، وقد وقعت هذه الجمل مترتبة متفرّعة .
والكرسي شيء يُجلس عليه مُتركب من أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية ، عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصاً واحداً في جلوسه ، فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعاً فهو العرش . وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضائه التحيّز ، فتعين أن يكون مراداً به غير حقيقته .
والجمهور قالوا : إنّ الكرسي مخلوق عظيم ، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته ، فقيل هو العرش ، وهو قول الحسَن . وهذا هو الظاهر لأنّ الكرسي لم يذكر في القرآن إلاّ في هذه الآية وتكرّر ذكر العرش ، ولم يَرِد ذكرهما مقترنين ، فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذُكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى : { قل من رب السموات السبع وربُ العرش العظيم } [ المؤمنون : 86 ] ، وقيل الكرسي غير العرش ، فقال ابن زيد هو دون العرش وروى في ذلك عن أبي ذَر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما الكرسيُ في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيَتْ بين ظهري فلاة من الأرض " وهو حديث لم يصح . وقال أبو موسى الأشعري والسُدى والضحاك : الكرسي موضع القدمين من العرش ، أي لأنّ الجالس على عرش يكون مرتفعاً عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربَّع ، وروي هذا عن ابن عباس . وقيل الكرسي مثلَ لعلم الله ، وروي عن ابن عباس لأنّ العالم يجلس على كرسي ليعلّم الناس . وقيل مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق ، قال البيضاوي : « ولعلّه الفلَك المسمّى عندهم بفَلك البروج » . قلت أثبت القرآن سبع سماوات ولم يبيّن مسمّاها في قوله ( سورة نوح ) : { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } [ نوح : 15 ، 16 ] ، فيجوز أن تكون السموات طبقات من الأجواء مختلفة الخصائص متمايزة بما يملاّها من العناصر ، وهي مسبح الكواكب ، ولقد قال تعالى ( سورة الملك ) : { ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح }
[ الملك : 5 ] ، ويجوز أن تكون السماوات هي الكواكب العظيمة المرتبطة بالنظام الشمس وهي : فُلكان ، وعطارد ، والزهرة ، وهذه تحت الشمس إلى الأرض ، والمريخُ ، والمشتري ، وزحلُ ، وأورانوس ، ونبتون ، وهذه فوق الشمس على هذا الترتيب في البعد ، إلاّ أنّها في عظم الحجم يكون أعظمها المشتري ، ثم زحل ، ثم نبتون ، ثم أورانوس ، ثم المريخ ، فإذا كان العرش أكبرها فهو المشتري ، والكرسي دونه فهو زُحل ، والسبع الباقية هي المذكورة ، ويضم إليها القمر ، وإن كان الكرسي هو العرش فلا حاجة إلى عدّ القمر ، وهذا هو الظاهرُ ، والشمس من جملة الكواكب ، وقوله تعالى : { وجعل الشمس سراجاً } [ نوح : 16 ] تخصيص لها بالذكر للامتنان على الناس بأنّها نور للأرض ، إلاّ أنّ الشمس أكبر من جميعها على كل تقدير . وإذا كانت السماوات أفلاكاً سبعة لشموس غير هذه الشمس ولكل فَلك نظامه كما لهذه الشمس نظامها فذلك جائز وسبحان من لا تحيط بعظمةِ قدرتِه الأفهامُ فيكون المعنى على هذا أن الله تعالى نبهنا إلى عظيم قدرته وسعة ملكوته بما يدل على ذلك مع موافقته لما في نفس الأمر ، ولكنّه لم يفصّل لنا ذلك لأنّ تفصيله ليس من غرض لاستدلال على عظمته ، ولأن العقول لا تصل إلى فهمه لتوقفه على علوم واستكمالات فيها لم تتمّ إلى الآن ، ولتعلمُنّ نبأه بعد حين .
وجُملة { ولا يؤوده حفظهما } عطفت على جملة { وَسِع كرسيهُ } لأنّها من تكملتها وفيها ضمير معادُه في التي قبلها ، أي إنّ الذي أوجد هاته العوالمَ لا يعجز عن حفظها .
وآده جعله ذا أود . والأوَدُ بالتحريك العِوَج ، ومعنى آده أثقله لأن المثقَّل ينحني فيصير ذا أوَد .
وعطف عليه { وهو العلي العظيم } لأنّه من تمامه ، والعلو والعظمة مستعاران لشرف القدر وجلال القدرة .
ولهذه الآية فضل كبيرٌ لما اشتملت عليه من أصول معرفة صفات الله تعالى ، كما اشتملت سورة الإخلاص على ذلك وكما اشتملت كلمة الشهادة . في « الصحيحين » عن أبي هريرة " أنّ آتياً أتاه في الليل فأخذ من طعام زكاة الفطر فلما أمسكه قال له إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " صدقك وذلك شيطان " وأخرج مسلم عن أبي ابن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم قلت اللَّهُ لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم ، فضرب في صدري وقال : واللَّهِ لِيَهْنِك العلمُ أبا المُنذر " . وروى النسائي : " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلاّ الموت " وفيها فضائل كثيرة مجرّبة للتأمين على النفس والبيت .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{لا إلَهَ إلاّ هُوَ} معناه: النهي عن أن يعبد شيء غير الله، "الحيّ القيوم": الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره في هذه الآية. يقول: «الله» الذي له عبادة الخلق «الحيّ القيوم»، لا إله سواه، لا معبود سواه، يعني: ولا تعبدوا شيئا سوى الحَيّ القَيّوم الذي لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، والذي صفته ما وصف في هذه الآية. وهذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله عما جاءت به أقوال المختلفين في البينات من بعد الرسل الذين أخبرنا تعالى ذكره أنه فضل بعضهم على بعض، واختلفوا فيه، فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض، وإيمانا به من بعض. فالحمد لله الذي هدانا للتصديق به ووفقنا للإقرار به.
{الحَيّ}: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أوّل له يحدّ، ولا آخر له يُؤْمَد، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا فلحياته أول محدود وآخر مأمود، ينقطع بانقطاع أمدها وينقضي بانقضاء غايتها.
{القَيّومُ}: القائم برزق ما خلق وحفظه.
{لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}: لا يأخذه نعاس فينعس، ولا نوم فيستثقل نوما. والوسن: خثورة النوم.
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: {لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لا تحله الآفات، ولا تناله العاهات. وذلك أن السنة والنوم معنيان يغمران فهم ذي الفهم، ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه.
فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: الله لا إله إلا هو الحيّ الذي لا يموت، القيوم على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال، لا تأخذه سنة ولا نوم، لا يغيره ما يغير غيره، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال وتصريف الليالي والأيام، بل هو الدائم على حال، والقيوم على جميع الأنام، لو نام كان مغلوبا مقهورا، لأن النوم غالب النائم قاهره، ولو وسن لكانت السموات والأرض وما فيهما دكّا، لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته، والنوم شاغل المدبر عن التدبير، والنعاس مانعٌ المقدّر عن التقدير بوسنه. كما: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى صلى الله عليه وسلم على المنبر، قال: «وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى هَلْ يَنامُ اللّهُ تَعالى ذِكْرُهُ؟ فأرْسَلَ اللّهُ إلَيْهِ مَلَكا فَأرّقَهُ ثَلاثا، ثُمّ أعْطَاهُ قارُورَتَيْنِ، فِي كُلّ يَدٍ قارُورَةٌ، وأمَرَهُ أنْ يَحْتَفِظَ بِهما» قال: «فَجَعَلَ يَنامُ وَتَكادُ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ، ثُمّ يَسْتَيْقِظُ فَيَحْبِسُ إحْدَاهُمَا عَنِ الأُخْرَى، ثُمّ نَامَ نَوْمَةً فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ وَانْكَسَرَتِ القارُورَتَانِ». قال: ضرب الله مثلاً له، أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض.
{لَهُ مَا فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بإذْنِهِ}: أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود. وإنما يعني بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه، لأن المملوك إنا هو طوع يد مالكه، وليس له خدمة غيره إلا بأمره. يقول: فجميع ما في السموات والأرض ملكي وخلقي، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه، ولا يطيع سوى مولاه.
{مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإذْنِهِ}: من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم إلا أن يخليه، ويأذن له بالشفاعة لهم. وإنما قال ذلك تعالى ذكره لأن المشركين قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى ذكره لهم: لي ما في السموات وما في الأرض مع السموات والأرض ملكا، فلا ينبغي العبادة لغيري، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي.
{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلاّ بِمَا شاءَ}:
يعني تعالى ذكره بذلك أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما، لا يخفى عليه شيء منه.
عن الحكم: {وَيَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الدنيا {وَما خَلْفَهُمْ} الاَخرة.
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شاءَ} فإنه يعني تعالى ذكره أنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء محيط بذلك كله محص له دون سائر من دونه، وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه فأراد فعلمه.
وإنما يعني بذلك أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلاً، فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنم، يقول: أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها يعلمها، لا يخفى عليه صغيرها وكبيرها.
{وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}؛
اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي الذي أخبر الله تعالى ذكره في هذه الآية أنه وسع السموات والأرض؛ فقال بعضهم: هو علم الله تعالى ذكره. وقال آخرون: الكرسي: موضع القدمين.
وقال آخرون: الكرسي: هو العرش نفسه. ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:
حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: أتت امرأة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة! فعظم الربّ تعالى ذكره، ثم قال: «إنّ كُرْسِيّهُ وَسِعَ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ، وَإنّهُ لَيَقْعُدُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ مِقْدَارُ أرْبَعِ أصَابِعَ» ثم قال بأصابعه فجمعها: «وَإنّ لَهُ أطيطا كأطِيطِ الرّحْلِ الجَدِيدِ إذَا رُكِبَ مِنْ ثِقَلِه».
وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه أنه قال: هو علمه، وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُما} على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حِفظ ما علم، وأحاط به مما في السموات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: {رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْما} فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء، فكذلك قوله: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ}. وأصل الكرسي: العلم، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب كُرّاسة، ومنه يقال للعلماء: الكراسي، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، يعني بذلك أنهم العلماء الذين تصلح بهم الأرض.
والعرب تسمي أصل كل شيء: الكِرْس، يقال منه: فلان كريم الكِرْس: أي كريم الأرض. {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيّ العَظِيمُ}: ولا يشقّ عليه ولا يثقله... لا يجهده حفظهما.
{وَهُوَ العَلِيّ}: والله العليّ. والعلِيّ: الفعيل من قولك علا يعلو علوّا: إذا ارتفع، فهو عالٍ وعليّ، والعليّ: ذو العلوّ والارتفاع على خلقه بقدرته. وكذلك قوله: {العَظِيمُ} ذو العظمة، الذي كل شيء دونه، فلا شيء أعظم منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الله لا إله إلا هو}؛ قيل: هو اسم المعبود بحق... ويحتمل أن يكون على الإضمار: أن قل {الله} الذي {لا إله إلا هو} لأنهم كانوا يقرون بالخالق، ويقرون بالإله كقوله جل وعلا: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} [العنكبوت: 61] [وكقوله: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله}] [لقمان: 25 والزمر: 38] وكقوله: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون} {سيقولون لله قل أفلا تذكرون} {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم} {سيقولون لله قل أفلا تتقون} {قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون}
{سيقولون لله قل فأنى تسحرون} [المؤمنون: 84- 89] فإذا كانوا يقرون به، فأخبرهم أن الذي تقرون به، [وتسمونه، هو {الله} الذي {لا إله إلا هو الحي القيوم}] ويحتمل أن يكون لقوم من أهل الإسلام عرفوا الله تعالى، وآمنوا به، ولم يعرفوا نعته وصفته أنه {الحي القيوم} إلى آخره.
وقوله: {الحي القيوم} قيل: هو {الحي} بذاته لا بحياة هي حياة غيره، كالخلق، وهم أحياء بحياة هي حياة غيرهم، حلت فيهم، لا بد من الموت، والله عز وجلا، تعالى عن أن يحل فيه الموت لأنه حي بذاته، وجميع الخلائق أحياء لا بذاتهم، تعالى الله، عز وجلا عما يقول فيه الملحدون. والأصل أن كل من وصف في الشاهد بالحياة وصف بذلك للعظمة له والجلال والرفعة، ويقال: فلان حي، وكذلك الأرض سماها الله تعالى حية إذا اهتزت، وأنبتت لرفعتها على أعين الخلق. فعلى ذلك الله سبحانه وتعالى حي للعظمة، وكذلك، الأرض سماها الله تعالى حية للعظمة والرفعة ولكثرة ما تكون تذكر في المواطن كلها كما سمى الشهداء أحياء لأنهم مذكورون في الملأ من الخلق، ويحتمل أنه يمسى حيا لما لا يغفل عن شيء، ولا يسهو، ولا يذهب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وبالله العصمة.
وقوله: {القيوم} [القائم على مصالح أعمال الخلق وأرزاقهم، وقيل: {القيوم}، هو القيام على كل شيء يحفظه، ويتعاهده كما يقال: فلان قائم على أمر فلان؛ يعنون أنه يحفظ أموره حتى لا يذهب عنه شيء. وقيل: {هو الحي القيوم} أي لا يغفل عن أحوال الخلق.
وقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم}؛ قيل: السنة النعاس، و] وقيل: السنة بين النوم واليقظة، وسمي وسنان... ويحتمل قوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} على نفي الغفلة والسهو عنه؛ إذ لو أخذه صار مغلوبا مقهورا، فيزول عنه وصفه: حي، قيوم كقوله: {لا يعزب عنه مثقال ذرة} [سبأ: 3] على نفي الغفلة، ويحتمل أنه نفي عن نفسه ذلك لأن الخلق إنما ينامون، ويتغشون طلبا للراحة والمنفعة إما لدفع حزن أو وحشة، فأخبر أنه ليس بالذي يحتاج إلى راحة وإلى دفع حزن أو وحشة، وقيل: لا يفتر، ولا ينام... [و] النوم والسنة حالان تدلان على غفلة من حلاَّ به، وعلى حاجته إلى ما فيه راحته وعلى عجزه؛ إذ هما يغلبان، ويقهران...
وقوله: {له ما في السموات وما في الأرض} أخبر أن ما في السموات والأرض عبيده وإمائه، ليس كما قالوا: فلان ابن الله، والملائكة بنات الله، بل كلهم عبيده وإماؤه، والناس لا يتخذون ولدا من عبيدهم وإمائهم، فالله أحق ألا يتخذ...
وقوله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} أي لا أحد يجترئ على الشفاعة {إلا بإذنه}...
وقوله: {وسع كرسيه السموات والأرض}...المراد منه أنه المعتمد والمفزع للخلق، وذلك بالعظمة والقوة، ويقال: {وسع كرسيه} وهو خلق من خلقه، وقيل: إن الكرسي هو الكرسي، لكنه خلقه ليكرم به من يشاء من خلقه. فعلى ذلك لا يفهم من قوله: {وسع كرسيه} وغيره من الآيات ما يفهم من الخلق بقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11].
وقوله: {وهو العلي العظيم}: {العلي} عن كل موهوم يحتاج إلى عرش أو كرسي، {العظيم} عن أن يحاط به. والله أعلم.
{العلي} عن جميع أحوال الخلق وشبههم و {العظيم} القاهر والغالب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{الله} اسم تفرّد به الحق -سبحانه فلا سمِيّ له فيه. قال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي هل تعرف أحداً غيره تسمَّى "الله "؟. من اعتبر في هذا الاسم الاشتقاق فهو كالمتعارض، فهذا اسم يدل على استحقاق صفات الجلال لا على اشتقاق الألفاظ، فلا يعارض ما لا يعارض فيه من الأقوال. قوله: {لا إله إلا هو}: إخبار عن نفي النظير والشبيه، بما استوجب من التقديس والتنزيه. ومن تحقق بهذه القالة لا يرى ذَرّةً من الإثبات بغيره أو من غيره؛ فلا يرفع إلى غيره حاجته، ولا يشهد من غيره ذرة، فَيَصْدُقُ إليه انقطاعه، ويديم لوجوده انفرادَه، فلا يسمع إلا من الله وبالله، ولا يشهد إلا بالله، ولا يُقْبِلْ إلا على الله، ولا يشتغل إلا بالله، فهو محوٌ عما سِوى الله، فَمَالَهُ شكوى ولا دعوى، ولا يتحرك منه لغيره عِرْقٌ، فإذا استوفى الحق عبداً لم يَبْقَ للحظوظ- البتة -مساغ.
وقوله: {الحي القيوم}: المتولي لأمور عباده، القائم بكل حركة...
{لا تأخذه سنة ولا نوم} لأنه أحدي لا ترهقه غفلة، وصمد لا تمسه علة، وعزيز لا تقاربه قلة، وجبار لا تميزه عزلة، وفَرْدٌ لا تضمه جثة، ووتر لا تحده جهة، وقديم لا تلْحَقُه آفة، وعظيم لا تدركه مسافة. تَقَدَّس مِنْ جمالِه جلالُه، وجلالُه جمالُه، وسناؤه بهاؤه، وبهاؤه سناؤه، وأزله أبده، وأبده سرمده، وسرمدهِ قدَمُه، وقدمه وجوده.
قوله جلّ ذكره: {لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} مِلْكاً وإبداعاً، وخَلْقاً واختراعاً.
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}. من ذا الذي يتنفس بنَفَس إلا بإجرائه، أو يتوسل إليه من دون إذنه وإبدائه. ومن ظنَّ أنه يتوسل إليه باستحقاقٍ أو عمل، أو تذلل أو أمل، أو قربة أو نسب، أو علة أو سبب- فالظنُّ وطنه والجهل مألفه والغلظ غايته والبعد قُصاراه.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} لأنه لا يخرج عن علمه معلوم، ولا يلتبس عليه موجود ولا معدوم.
{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}. يعني من معلوماته، أي تقاصرت العلوم عن الإحاطة بمعلوماته إلا بإذنه. فأي طمع لها في الإحاطة بذاته وحقه؟ وأَنَّى تجوز الإحاطة عليه وهو لا يقطعه في عِزِّه أَمَد، ولا يدركه حَدٌّ؟!.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}. خطاب لهم على قدر فهمهم. وإلا فأي خَطَرٍ للأكوان عند صفاته؟ جلَّ قَدْرُه عن التعزز بعرش أو كرسي، والتجمل بجنٍ أو إنْسِي.
{وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِىُّ العَظِيمُ}. كَيف تُتْعِبُ المخلوقاتُ مَنْ خَلق الذرة والكون بجملته -له سواء؛ فلا من القليل له تَيَسُّر، ولا من الكثير عليه تَعَسُّر...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
-... آية الكرسي سيدة القرآن [جواهر القرآن ودرره: 48]. 141- لعلك تقول: لم خصصت آية الكرسي بأنها السيدة؟... [نفسه: 64]. آية الكرسي تشتمل على المعرفة العظمى التي هي المتبوعة والمقصودة، التي يتبعها سائر المعارف، فكان اسم السيدة بها أليق.
- أقول: هل لك أن تتفكر في آية الكرسي أنها لم تسمى سيدة الآيات؟ فإن كنت تعجز عن استنباطه بتفكرك فارجع إلى الأقسام التي ذكرناها والمراتب التي رتبناها. وقد ذكرنا لك أن معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته هي المقصد الأقصى من علوم القرآن، وأن سائر الأقسام مرادة لنفسه لا لغيره، فهو المتبوع وما عداه التابع، وهي سيدة الاسم المقدم الذي يتجوه إليه وجوه الأتباع وقلوبهم، فيحذون حذوه وينحون نحوه ومقصده، وآية الكرسي تشتمل عل ذكر الذات والصفات والأفعال فقط ليس فيها غيرها.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} روى مسلم في " "صحيحه "" عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله أعظم؟} قال: قلت: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. قال: فضرب صدري، وقال: "" ليهنك العلم يا أبا المنذر "" قال أبو عبيدة: القيوم: الذي لا يزول، لاستقامة وصفه بالوجود، حتى لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه. وقال الزجاج: القيوم: القائم بتدبير أمر الخلق. وقال الخطابي: القيوم: هو القائم الدائم بلا زوال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... لما ابتدأ سبحانه وتعالى الفاتحة كما مضى بذكر الذات، ثم تعرف بالأفعال لأنها مشاهدات، ثم رقى الخطاب إلى التعريف بالصفات، ثم أعلاه رجوعاً إلى الذات للتأهل للمعرفة ابتدأ هذه السورة بصفة الكلام لأنها أعظم المعجزات وأبينها وأدلها على غيب الذات وأوقعها في النفوس لا سيما عند العرب، ثم تعرف بالأفعال فأكثر منها. فلما لم يبق لبس أثبت الوحدانية بآيتها السابقة مخللاً ذلك بأفانين الحكم ومحاسن الأحكام وأنواع الترغيب والترهيب في محكم الوصف والترتيب فلما تمت الأوامر وهالت تلك الزواجر وتشوقت الأنفس وتشوفت الخواطر إلى معرفة سبب انقطاع الوصل بانبتار الأسباب وانتفاء الشفاعة في ذلك اليوم، إذ كان المألوف من ملوك الدنيا أنهم لا يكادون يتمكنون من أمر من الأمور حق التمكن من كثرة الشفعاء والراغبين من الأصدقاء، إذ كان الملك منهم لا يخلو مجلسه قط عن جمع كل منهم صالح للقيام مقامه ولو خذله أو وجه إليه مكره ضعضع أمره وفتّ في عضده فهو محتاج إلى مراعاتهم واسترضائهم ومداراتهم، بين سبحانه وتعالى صفة الآمر بما هو عليه من الجلال والعظمة ونفوذ الأمر والعلو عن الصد والتنزه عن الكفر والند والتفرد بجميع الكمالات والهيبة المانعة بعد انكشافها هناك أتم انكشاف لأن تتوجه الهمم لغيره وأن تنطق بغير إذنه وأن يكون غير ما يريد ليكون ذلك أدعى إلى قبول أمره والوقوف عند نهيه وزجره، ولأجل هذه الأغراض ساق الكلام مساق جواب السؤال فكأنه قيل: هذا ما لا يعرف من أحوال الملوك فمن الملك في ذلك اليوم؟ فذكر آية الكرسي سيدة آي القرآن التي ما اشتمل كتاب على مثلها مفتتحاً لها بالاسم العلم الفرد الجامع الذي لم يتسم به غيره، وذلك لما تأهل السامع بعد التعرف بالكلام والتودد بالأفعال لمقام المعرفة فترقى إلى أوج المراقبة وحضرة المشاهدة فقال عائداً إلى مظهر الجلال الجامع لصفات الجلال والإكرام لأنه من أعظم مقاماته: {الله} أي هو الملك في ذلك اليوم ثم أثبت له صفات الكمال منزهاً عن شوائب النقص مفتتحاً لها بالتفرد فقال: {لا إله إلا هو} مقرراً لكمال التوحيد، فإنه المقصود الأعظم من جميع الشرائع، ولكن الإنسان لما جبل عليه من النقصان لا بد له من ترغيب يشده وترهيب يرده ومواعظ ترفقه وأعمال تصدقه وأخلاق تحققه، فخلل سبحانه وتعالى آي التوحيد بالأحكام والقصص، والأحكام تفيد الأعمال الصالحة فترفع أستار الغفلة عن عيون القلوب وتكسب الأخلاق الفاضلة لتصقل الصدأ عن مرائي النفوس فتتجلى فيها حقائق التوحيد، والقصص تلزم بمواعظها واعتباراتها بالأحكام وتقرر دلائل المعارف فيرسخ التوحيد، وكان هذا التفصيل لأنه أنشط للنفس بالانتقال من نوع إلى آخر مع الهز بحسن النظم وبلاغة التناسب والإلهاب ببداعة الربط وبراعة التلاحم.
قال الحرالي: لما أتى بالخطاب على بيان جوامع من معالم الدين وجهات الاعتبار وبيان أحكام الجهاد والإنفاق فيه فتم الدين بحظيرته معالم إسلام وشعائر إيمان ولمحة إحسان أعلى تعالى الخطاب إلى بيان أمر الإحسان كما استوفى البيان في أمر الإيمان والإسلام فاستفتح هذا الخطاب العلي الذي يسود كل خطاب ليعلي به الذين آمنوا فيخرجهم به من ظلمة الإيمان بالغيب الذي نوره يذهب ظلمة الشك والكفر إلى صفاء ضياء الإيقان الذي يصير نور الإيمان بالإضافة إليه ظلمة كما يصير نور القمر عند ضياء الشمس ظلمة، فكانت نسبة هذه الآية من آية الإلهية في قوله سبحانه وتعالى
{وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163] وما بعدها من الاعتبار في خلق السماوات والأرض نسبة ما بين علو اسمه الله الذي لم يقع فيه شرك بحق ولا بباطل إلى اسمه الإله الذي وقع فيه الشرك بالباطل فينقل تعالى المؤمنين الذين استقر لهم إيمان الاعتبار بآية {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163] وما بعدها من الاعتبار في خلق السماوات والأرض إلى يقين العيان باسمه {الله} وما يلتئم بمعناه من أوصافه العظيمة...
ولما وحّد سبحانه وتعالى نفسه الشريفة أثبت استحقاقه لذلك بحياته وبين أن المراد بالحياة الأبدية بوصف القيومية فقال: {الحي} أي الذي له الحياة وهي صفة توجب صحة العلم والقدرة أي الذي يصح أن يعلم ويقدر {القيوم} أي القائم بنفسه المقيم لغيره على الدوام على أعلى ما يكون من القيام والإقامة.
قال الحرالي: فيعول زيدت في أصوله الياء ليجتمع فيه لفظ ما هو من معناه الذي هو القيام بالأمر مع واوه التي هي من قام يقوم فأفادت صيغته من المبالغة ما في القيام والقوام على حد ما تفهمه معاني الحروف عند المخاطبة بها من أئمة العلماء الوالجين في مدينة العلم المحمدي من بابه العلوي...
ثم بين قيوميته وكمال حياته بقوله: {لا تأخذه سنة} قال الحرالي: هي مجال النعاس في العينين قبل أن يستغرق الحواس ويخامر القلب {ولا نوم} وهو ما وصل من النعاس إلى القلب فغشيه في حق من ينام قلبه وما استغرق الحواس في حق من لا ينام قلبه...
ولما عبر بالأخذ الذي هو بمعنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة، كما لو قيل: فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان، ثم بين هذه الجملة بقوله: {له} أي بيده وفي تصرفه واختصاصه {ما في السماوات} الذي من جملته الأرض {وما في الأرض} أي من السنة والنوم وغيرهما إبداعاً ودواماً وما هو في قبضته وتصرفه لا يغلبه.
قال الحرالي: وسلب بالجملة الأولى أمر الملكوت من أيدي الملائكة إلى قهر جبروته والآثار من نجوم الأفلاك إلى جبره، وسلب بالجملة الثانية الآثار والصنائع من أيدي خليفته وخليقته إلى قضائه وقدره وظهور قدرته...
ثم بين ما تضمنته هذه الجملة بقوله منكراً على من ربما توهم أن شيئاً يخرج عن أمره فلا يكون مختصاً به {من ذا الذي يشفع} أي مما ادعى الكفار شفاعته وغيره {عنده إلا بإذنه} أي بتمكينه لأن من لم يقدر أحد على مخالفته كان من البيّن أن كل شيء في قبضته، وكل ذلك دليل على تفرده بالإلهية. قال الحرالي: وحقيقة الشفاعة وصلة بين الشفيع والمشفوع له لمزية وصلة بين الشفيع والمشفوع عنده، فكان الإذن في باطن الشفاعة حظاً من سلب ما للشفعاء ليصير بالحقيقة إنما الشفاعة لله سبحانه وتعالى عند الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى بالحقيقة الذي شفع عند نفسه بنفسه، فبإخفائه تعالى شفاعته في شفاعة الشفعاء كان هو الشفيع في الابتداء من وراء حجاب لأن إبداءه كله في حجاب وإعادته من غير حجاب، فلذلك هو سبحانه وتعالى خاتم الشفعاء...
ثم بين جميع ما مضى بقوله: {يعلم ما بين أيديهم} أي ما في الخافقين ممن ادعت شفاعته وغيرهم. قال الحرالي: أي ما أتاهم علمه من أمر أنفسهم وغيرهم، لأن ما بين يدي المرء يحيط به حسه، وما علمه أيضاً فكأنه بين يدي قلبه يحيط به علمه {وما خلفهم} وهو ما لم ينله علمهم، لأن الخلف هو ما لا يناله الحس، فأنبأ أن علمه من وراء علمهم محيط بعلمهم فيما علموا وما لم يعلموا...
ولما بين قهره لهم بعلمه بين عجزهم عن كل شيء من علمه إلا ما أفاض عليهم بحلمه فقال: {ولا يحيطون بشيء} أي قليل ولا كثير {من علمه إلا بما شاء} فبان بذلك ما سبقه، لأن من كان شامل العلم ولا يعلم غيره إلا ما علمه كان كامل القدرة، فكان كل شيء في قبضته، فكان منزهاً عن الكفوء متعالياً عن كل عجز وجهل، فكان بحيث لا يقدر غيره أن ينطق إلاّ بإذنه لأنه يسبب له ما يمنعه مما لا يريده.
ثم بين ما في هذه الجملة من إحاطة علمه وتمام قدرته بقوله مصوراً لعظمته وتمام علمه وكبريائه وقدرته بما اعتاده الناس في ملوكهم: {وسع كرسيه} ومادة كرس تدور على القوة والاجتماع والعظمة...
قال الأصفهاني: الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد. وقال الحرالي: معنى الكرس هو الجمع، فكل ما كان أتم جمعاً فهو أحق بمعناه... فبان بذلك ما قبله لأن من كان بهذه العظمة في هذا التدبير المحكم والصنع المتقن كان بهذا العلم وهذه القدرة التي لا يثقلها شيء ولذا قال: {ولا يؤوده} أي يثقله.
قال الحرالي: من الأود أي بلوغ المجهود ذوداً، ويقابله ياء من لفظ الأيد أي وهو القوة، وأصل معناه والله سبحانه وتعالى أعلم أنه لا يعجزه علو أيده ولذلك يفسره اللغويون بلفظة يثقله {حفظهما} في قيوميته كما يثقل غيره أو يعجزه حفظ ما ينشئه بل هو عليه يسير لأنه لو أثقله لاختل أمرهما ولو يسيراً ولقدر غيره ولو يوماً ما على غير ما يريده. والحفظ قال الحرالي: الرعاية لما هو متداع في نفسه فيكون تماسكه بالرعاية له عما يوهنه أو يبطله... ولما لم يكن علوه وعظمته بالقهر والسلطان والإحاطة بالكمال منحصراً فيما تقدم عطف عليه قوله: {وهو} أي مع ذلك كله المتفرد بأنه {العلي} أي الذي لا رتبة إلا وهي منحطة عن رتبته {العظيم} كما أنبأ عن ذلك افتتاح الآية بالاسم العلم الأعظم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى علواً وعظمة تتقاصر عنهما الأفهام لما غلب عليها من الأوهام، ونظم الاسمين هكذا دال على أنه أريد بالعظم علو الرتبة وبعد المنال عن إدراك العقول، وقد ختمت الآية بما بدئت به غير أن بدأها بالعظمة كما قال الحرالي: كان باسم {الله} إلاحة، وختمها كان بذلك إفصاحاً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعد أن أمرنا تعالى بالإنفاق في سبيله قبل أن يأتي يوم لا مال فيه ولا كسب، ولا ينجي من عقابه فيه شفاعة ولا فداء، انتقل كدأب القرآن إلى تقرير أصول التوحيد والتنزيه التي تشعر متدبرها بعظيم سلطانه تعالى ووجوب الشكر له والإذعان لأمره والوقوف عند حدوده وبذل المال في سبيله وتحول بينه وبين الغرور والاتكال على الشفاعات والمكفرات التي جرأت الناس على نبذ كتاب الله وراء ظهورهم فقال:
{الله لا إلاه إلا هو الحي القيوم}. فسر الجلال الإله بالمعبود بحق والحي بالدائم البقاء والقيوم بالمبالغ بالقيام بتدبير خلقه. وقد استحسن الأستاذ الإمام قوله في تفسير كلمة التوحيد وقال إن تفسيره لكلمة (إله) هو الشائع وهو إنما يصح إذا حملنا العبادة على معناها الحقيقي وهو استعباد الروح وإخضاعها لسلطان غيبي لا تحيط به علما، ولا تعرف له كنها، فهذا هو معنى التأليه في نفسه وكل ما ألهه البشر من جماد ونبات وحيوان وإنسان فقد اعتقدوا فيه هذا السلطان الغيبي بالاستقلال أو بالتبع لإله آخر أقوى سلطانا. ومن ثم تعددت الآلهة المنتحلة. وكل تعظيم واحترام ودعاء ونداء يصدر عن هذا الاعتقاد فهو عبادة حقيقية وإن كان المعبود غير إله حقيقة، أي ليس له هذا السلطان الذي اعتقده العابد له، لا بالذات ولا بالتوسط إلى ما هو أعظم منه. فالإله الحق هو الذي يعبد بحق وهو واحد، والآلهة التي تعبد بغير حق كثيرة جدا. وهي غير آلهة في الحقيقة ولكن في الدعوى الباطلة التي يثيرها الوهم. ذلك أن الإنسان إذا رأى أو سمع أو توهم أن شيئا صدر عن موجود بغير علة معروفة ولا سبب مألوف، يتوهم أنه لو لم تكن له تلك السلطة العليا والقوة الغيبية لما صدر عنه ذلك، حتى أن الذين يعتقدون النفع ببعض الشجر والجماد... يعدون عابدين لها حقيقة.
والحاصل أن معنى "لا إله إلا الله "ليس في الوجود صاحب سلطة حقيقية على النفوس يبعثها على تعظيمه والخضوع له قهرا منها معتقدا أن بيده منح الخير ورفع الضر بتسخير الأسباب أو بإبطال السنن الكونية إلا الله تعالى وحده.
قال الأستاذ الإمام: وأما الحي فهو ذو الحياة وهي مبدأ الشعور والإدراك والحركة والنمو. ومثل لذلك بالنبات والحيوان. فإن كلا منهما حي وإن تفاوتت الحياة فيهما فكانت في الحيوان أكمل منها في النبات. قال والحياة بهذا المعنى مما ينزه الله تعالى عنه لأنه محال عليه. ولذلك فسر مفسرنا "الحي" بالدائم البقاء وهو بعيد جدا لا يفهم من اللفظ مطلقا إنما معنى الحياة بالنسبة إليه سبحانه مبدأ العلم والقدرة أي الوصف الذي يعقل معه الاتصاف بالعلم والقدرة. وهذا الوصف يبطل قول الماديين الذين يزعمون أن مبدأ الكون علة تتحرك بطبعها ولا شعور لها بنفسها ولا بحركتها وما ينشأ عنها من الأفعال والآثار. أي إن هذا النظام والأحكام في الخلق من آثار المادة الميتة التي لا شعور لها ولا علم...
{له ما في السماوات وما في الأرض} فهم ملكه وعبيده مقهورون لسنته خاضعون لمشيئته وهو وحده المصرف لشؤونهم والحافظ لوجودهم
{من ذا الذي يشفع عنده} منهم فيحمله على ترك مقتضى ما مضت به سنته، وقضت به حكمته وأوعدت به شريعته، من تعذيب من دسى نفسه بالعقائد الباطلة، ودنسها بالأخلاق السافلة، وأفسد في الأرض، وأعرض عن السنة والفرض، من ذا الذي يقدم على هذا من عبيده {إلا بإذنه} والأمر كله له صورة وحقيقة. وليس هذا الاستثناء نصا في أن الأذن سيقع، وإنما هو كقوله: {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} [هود: 105] فهو تمثيل لانفراده بالسلطان والملك في ذلك اليوم {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} [التكوير: 19] ولهذا قال البيضاوي في تفسير الجملة: "بيان لكبرياء شأنه وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه ويستقل بأن يدفع ما يريد شفاعة واستكانة فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة". وقال الأستاذ الإمام ما محصله: إن في هذا الاستثناء قطعا لأمر الشافعين والمتكلمين على الشفاعة المعروفة التي كان يقول بها المشركون وأهل الكتاب عامة ببيان انفراده تعالى بالسلطان والملك وعدم جراءة أحد من عبيده على الشفاعة أو التكلم بدون إذنه، وإذنه غير معروف لأحد من خلقه.
ثم قال تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس أو أمور الدنيا التي خلفوها وأمور الآخرة التي يستقبلونها أو ما يدركون وما يجهلون. وهذا دليل على نفي الشفاعة بالمعنى المعروف. وبيان ذلك أنه لما كان عالما بكل شيء فعله العباد في الماضي وما هو حاضر بين أيديهم وما يستقبلهم، وكان ما يجازيهم به مبنيا على هذا العلم كانت الشفاعة المعهودة مما يستحيل عليه تعالى. لأنها لا تتحقق إلا بإعلام الشفيع المشفوع عنده من أمر المشفوع له، وما يستحق ما لم يكن يعلم. مثال ذلك: إذا أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينفي رجلا من المدينة ولا يمكن أن يريد ذلك وهو عادل إلا إذا كان يعتقد المصلحة فيه بأن يكون الرجل مفسدا ضارا بالناس. فإذا شفع له شافع ولم يبين لعمر ما لم يكن يعلم من أن المصلحة في بقائه دون نفيه. فإنه لا يقبل شفاعته. هذا إذا كانت الشفاعة عند سلطان عادل كعمر. وأما إذا كانت عند سلطان جائر فيجوز أن تقبل ويترك نفي المفسد الضار بالناس لأجل مرضاة الشفيع، كأن يكون من أعوان السلطان وبطانته الذين يؤثر مرضاتهم على المصلحة العامة لأنهم يؤثرون هواه على المصلحة الحقيقية. وفي هذه الحال يظن الغافل أن الشفاعة ليس فيها إعلام المشفوع عنده بما لم يكن يعلم ولو رجع نظر البصيرة لرأى أن الشفيع قد أعلم السلطان أن هذا الرجل الجاني ممن يلوذ به ويهمه شأنه ويرضيه بقاؤه ولم يكن يعلم ذلك. فالشفاعة المعروفة التي يغتر بها الكافرون والفاسقون ويظنون أن الله تعالى يرجع عن تعذيب من استحق العذاب منهم لأجل أشخاص ينتظرون شفاعتهم هي مما يستحيل على الله تعالى لأنها وهي من شأن أهل الظلم والبغي وتستلزم الجهل وهو ذو العلم المحيط...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة، فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات، فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأن {لا إله إلا هو} أي: لا معبود بحق سواه، فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه، ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه، وكل ما سوى الله تعالى باطل، فعبادة ما سواه باطلة، لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة.
وقوله: {الحي القيوم} هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما، فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات، كالسمع والبصر والعلم والقدرة، ونحو ذلك، والقيوم: هو الذي قام بنفسه وقام بغيره، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء، وسائر أنواع التدبير، كل ذلك داخل في قيومية الباري، ولهذا قال بعض المحققين: إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى، ومن تمام حياته وقيوميته أن {لا تأخذه سنة ولا نوم} والسنة النعاس {له ما في السماوات وما في الأرض} أي: هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا قال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} أي: لا أحد يشفع عنده بدون إذنه، فالشفاعة كلها لله تعالى، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه، لا يبتدئ الشافع قبل الإذن،
ثم قال {يعلم ما بين أيديهم} أي: ما مضى من جميع الأمور {وما خلفهم} أي: ما يستقبل منها، فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها، بالظواهر والبواطن، بالغيب والشهادة، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى، ولهذا قال: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض} وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه، إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى، بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش، وما لا يعلمه إلا هو، وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار، وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها، والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع، والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب، فلهذا قال: {ولا يؤوده} أي: يثقله {حفظهما وهو العلي} بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته {العظيم} الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة، فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء، فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده، وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته، فهذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته، متضمنة لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكل صفة من هذه الصفات تتضمن قاعدة من قواعد التصور الإسلامي الكلية. ومع أن القرآن المكي في عمومه كان يدور على بناء هذا التصور، فإننا نلتقي في القرآن المدني كذلك في مناسبات شتى بهذا الموضوع الأصيل إلهام. الذي يقوم على أساسه المنهج الإسلامي كله، ولا يستقيم هذا المنهج في الحس إلا أن يستقيم ذلك الأساس، ويتضح، ويتحول إلى حقائق مسلمة في النفس، ترتكن إلى الوضوح واليقين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وجملة « لا إله إلاَّ هو» خبر أول عن اسم الجلالة، والمقصود من هذه الجملة إثبات الوحدانية...
والمقصود بوصف الله هنا بالحيّ إبطال عقيدة المشركين إلاهية أصنامهم التي هي جمادات، وكيف يكون مدبّر أمور الخلق جماداً...
والقيّوم فيعول من قام يقوم وهو وزن مبالغة، وأصله قَيْوُوم فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمتا، والمراد به المبالغة في القيام المستعملِ مجازاً مشهوراً في تدبير شؤون الناس، قال تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبتْ} [الرعد: 33]. والمقصود إثبات عموم العلم له وكمالِ الحياة وإبطالُ إلاهية أصنام المشركين، لأن المشركين كانوا يعترفون بأن مدبّر الكون هو الله تعالى، وإنّما جعلوا آلهتهم شفعاء وشركاء ومقتسمين أمور القبائل...
وجملة {لا تأخذه سِنة ولا نوم} مُقرّرة لمضمون جملة « الله الحيّ القيوم» ولرفع احتمال المبالغة فيها، فالجملة منزّلة منزلة البيان لمعنى الحي القيوم ولذلك فصلت عن التي قبلها...
وجملة {له ما في السماوات وما في الأرض} تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته، وتعليل لاتّصافه بالقيّوميّة لأنّ من كانت جميع الموجودات مِلكاً له فهو حقيق بأن يكون قيّومها وألاّ يهملها ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها. واللامُ للمِلك. والمراد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنّه لا يشذّ عن مِلكه موجود فحصل معنى الحصر، ولكنّه زاده تأكيداً بتقديم المسند أي لا لِغيره لإفادة الردّ على أصناف المشركين، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان ومن مشركي العرب لأن مجرّد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفي في الدلالة على إبطال العقائد الضّالة. فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر، وهذا بلاغة معجِزة...
وجملة {من ذا الذي يشفع عنده ألا بإذنه} مقرّرة لمضمون جملة {له ما في السموات وما في الأرض} لما أفادُه لام الملك من شمول ملكه تعالى لِجميع ما في السماوات وما في الأرض، وما تضمنّه تقديم المجرور من قَصْر ذلك الملك عليه تعالى قصرَ قلب، فبطل وصف الإلهية عن غيره تعالى، بالمطابقة. وبطل حق الإدلال عليه والشفاعة عنده التي لا تردّ بالالتزام، لأنّ الإدلال من شأن المساوي والمقارب، والشفاعة إدلال. وهذا إبطال لمعتقد معظم مشركي العرب لأنّهم لم يثبتوا لإلهتهم وطواغيتهم ألوهية تامة، بل قالوا: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وقالوا: {ما نعبدهم إلاَّ ليقرّبونا إلى الله زُلْفى} [الزمر: 3]، فأكّد هذا المدلول بالصريح، ولذلك فصلت هذه الجملة عمّا قبلها...
وجملة {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه} تقرير وتكميل لما تضمنّه مجموع جملتي {الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} ولما تضمنّته جملة {من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه}، فإنّ جملتي {الحيّ القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} دلتا على عموم علمه بما حدث ووُجد من الأكوان ولم تَدُلاّ على علمه بما سيكون فأُكد وكمل بقوله يعلمُ الآية، وهي أيضاً تعليل لجملة من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه إذ قد يتّجه سؤال لماذا حُرموا الشفاعة إلاّ بعد الإذن فقيل لأنّهم لا يعلمون من يستحقّ الشفاعة وربّما غرّتهم الظواهر، والله يعلم من يستحقّها فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولأجل هذين المعنيين فصلت الجملة عما قبلها.
والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما هو ملاحظ لهم من المعلومات وما خفي عنهم أو ذهلوا عنه منها، أو ما هو واقع بعدهم وما وقع قبلهم. وأما علمه بما في زمانهم فأحرى [بما سواه]... وضمير {أيديهم} و {خلفهم} عائد إلى {ما في السماوات وما في الأرض} بِتغليب العقلاء من المخلوقات لأنّ المراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما يشمل أحوال غير العقلاء، أو هو عائد على خصوص العقلاء من عموم ما في السموات وما في الأرض فيكون المراد ما يختصّ بأحوال البشر وهو البعض، لضمير ولا يحيطون لأنّ العلم من أحوال العقلاء.
وعطفت جملة {ولا يحيطون بشيء من علمه} على جملة {يعلم ما بين أيديهم} لأنّها تكملة لمعناها كقوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216]. ومعنى يحيطون يعلمون علماً تاماً، وهومجاز حقيقته أنّ الإحاطة بالشيء تقتضي الاحتواء على جميع أطرافه بحيث لا يشذّ منه شيء من أوله ولا آخره، فالمعنى لا يعلمون علم اليقين شيئاً من معلوماته، وأمَّا ما يدّعونه فهو رجم بالغيب. فالعلمُ في قوله: {من علمه} بمعنى المعلوم، كالخَلْق بمعنى المخلوق، وإضافته إلى ضمير اسم الجلالة تخصيص له بالعلوم اللدُنية التي استأثر الله بها ولم ينصب الله تعالى عليها دلائل عقلية أو عادية. ولذلك فقوله: {إلا بما شاء} تنبيه على أنّه سبحانه قد يُطلع بعض أصفيائه على ما هو من خواصّ علمه كقوله: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول}
وقوله: {وسّع كرسيّه السموات والأرض} تقرير لما تضمّنته الجمل كلّها من عظمة الله تعالى وكبريائه وعلمِه وقدرته وبيان عظمة مخلوقاته المستلزمة عظمة شأنه، أو لبيان سعة ملكه كذلك كما سنبيّنه، وقد وقعت هذه الجمل مترتبة متفرّعة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
فهذه آية الكرسي، أعظم آية في كتاب الله، كما ورد في بعض الآثار المثبتة في الصحاح، وإنها لتدل على وحدانية الله تعالى بكل شعبها، ذلك بأن الوحدانية لها شعب ثلاثة:
وحدانية الألوهية، وقد دلت عليها بقوله تعالى: {الله لا إله إلا هو}
ووحدانية الخلق والتكوين فلا خالق مع الله تعالى، ولا إرادة تمنع إرادته، وقد دل على ذلك بأكثر ما في الآية الكريمة كقوله سبحانه: {الحي القيوم} وقوله تعالى: {ما في السماوات وما في الأرض}
والشعبة الثالثة وحدانية الذات والصفات، بمعنى أنه لا يشبهه شيء أو أحد من خلقه:"ليس كمثله شيء" (الشورى 11) وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: "لا تأخذه سنة ولا نوم "وبقوله تعالى: "وهو العلي العظيم" تعالى الله رب العالمين علوا كبيرا؛ تولانا سبحانه بعنايته وتوفيقه وهدايته...