152- وإن نصر الله محقق واقع ، ولقد صدقكم الله الوعد بالنصر حين قتلتم كثيرين منهم أول الأمر بإرادته ، حتى إذا ضعف رأيكم في القتال ، واختلفتم في فهم أمر النبي إياكم بالمقام في مراكزكم ، فرأي بعضكم ترك موقعه حيث ظهر النصر ، ورأي البعض البقاء حتى النهاية ، وعصى فريق منكم أمر الرسول فمضى لطلب الغنيمة من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر ، وصرتم فريقين منكم من يريد متاع الدنيا ، ومنكم من يريد ثواب الآخرة ، لما كان ذلك ، منعكم نصره ثم ردكم بالهزيمة عن أعدائكم ، ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره . ولقد تجاوز عنكم لما ندمتم . والله ذو الفضل عليكم بالعفو وقبول التوبة .
{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
أي : { ولقد صدقكم الله وعده } بالنصر ، فنصركم عليهم ، حتى ولوكم أكتافهم ، وطفقتم فيهم قتلا ، حتى صرتم سببا لأنفسكم ، وعونا لأعدائكم عليكم ، فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور { وتنازعتم في الأمر } الذي فيه ترك أمر الله بالائتلاف وعدم الاختلاف ، فاختلفتم ، فمن قائل نقيم في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قائل : ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو ، ولم يبق محذور ، فعصيتم الرسول ، وتركتم أمره من بعد ما أراكم الله ما تحبون وهو انخذال أعدائكم ؛ لأن الواجب على من أنعم الله عليه بما أحب ، أعظم من غيره .
فالواجب في هذه الحال خصوصًا ، وفي غيرها عموما ، امتثال أمر الله ورسوله .
{ منكم من يريد الدنيا } وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب ، { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذين لزموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا حيث أمروا .
{ ثم صرفكم عنهم } أي : بعدما وجدت هذه الأمور منكم ، صرف الله وجوهكم عنهم ، فصار الوجه لعدوكم ، ابتلاء من الله لكم وامتحانا ، ليتبين المؤمن من الكافر ، والطائع من العاصي ، وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة ما صدر منكم ، فلهذا قال : { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } أي : ذو فضل عظيم عليهم ، حيث منَّ عليهم بالإسلام ، وهداهم لشرائعه ، وعفا عنهم سيئاتهم ، وأثابهم على مصيباتهم .
ومن فضله على المؤمنين أنه لا يقدر عليهم خيرا ولا مصيبة ، إلا كان خيرا لهم . إن أصابتهم سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين ، وإن أصابتهم ضراء فصبروا ، جازاهم جزاء الصابرين .
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها . فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها . ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار ، وتركوا وراءهم الغنائم ، وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة ! . . ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم ؛ وتنازعوا فيما بينهم ، وخالفوا عن أمر رسول الله [ ص ] نبيهم وقائدهم . . وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها ، في حيوية عجيبة :
( ولقد صدقكم الله وعده ، إذ تحسونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ، وعصيتم - من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . ثم صرفكم عنهم ليبتليكم . ولقد عفا عنكم ، والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم ، فأثابكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم ، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، يقولون : هل لنا من الأمر من شيء ؟ قل : إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم . وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم . إن الله غفور حليم ) . .
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة ، ولتداول النصر والهزيمة . مشهدا لا يترك حركة في الميدان ، ولا خاطرة في النفوس ، ولا سمة في الوجوه ، ولا خالجة في الضمائر ، إلا ويثبتها . . وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر ، ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة . وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل ، والهروب في دهش وذعر ، ودعاء الرسول [ ص ] للفارين المرتدين عن المعركة ، المصعدين للهرب . يصحب ذلك كله حركة النفوس ، وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع . . ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة ، تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن ، ومنهج القرآن التربوي العجيب :
( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) . .
وكان ذلك في مطالع المعركة ، حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين ، أي يخمدون حسهم ، أو يستأصلون شأفتهم . قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة . وكان رسول الله [ ص ] قد قال لهم : " لكم النصر ما صبرتم " فصدقهم الله وعده على لسان نبيه .
( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . .
وهو تقرير لحال الرماة . وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ؛ ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله [ ص ] وانتهى الأمر إلى العصيان . بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه . فكانوا فريقين : فريقا يريد غنيمة الدنيا ، وفريقا يريد ثواب الآخرة . وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة ، ولم يعد الهدف واحدا . وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة . فمعركة العقيدة ليست ككل معركة . إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير . ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير . إنها معركة لله ، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له .
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها ، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ؛ كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية . ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد ، فلا يمنحهم الله النصر أبدا ، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا . . وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة ، وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة ، وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح !
( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . .
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب ، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم . . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله [ ص ] يريد الدنيا ، حتى نزل فينا يوم أحد : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . . وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ؛ ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها !
وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره ، وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ؛ ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة :
( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) . .
لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر . فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين ، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل ، وصرف المقاتلين عن الميدان ، فلاذوا بالفرار . . وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم ؛ ولكن مدبرا من الله ليبتليهم . . ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح ؛ وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب ، ومن تمحيص النفوس ، وتمييز الصفوف - كما سيجيء .
وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها ، وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها . بلا تعارض بين هذا وذاك . فلكل حادث سبب ، ووراء كل سبب تدبير . . من اللطيف الخبير . .
عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان ؛ وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد . . عفا عنكم فضلا منه ومنة ، وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة . . عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله ، والاستسلام له ، وتسليم قيادكم لمشيئته :
( والله ذو فضل على المؤمنين ) . .
ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم ، ما داموا سائرين على منهجه ، مقرين بعبوديتهم له ؛ لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم ، ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم ، ولا موازينهم إلا منه . . فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة . . فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص . .
جاءت المخاطبة في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين ، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها لم يقع فيها جميعهم ، ولذلك وجوه من الفصاحة : منها وعظ الجميع وزجره ، إذ من لم يفعل معد أن يفعل إن لم يزجر ، ومنها الستر والإبقاء على من فعل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يومئذ على خبر الله تعالى -إن صبروا وجدوا- فصدق الله الوعد أولاً ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاف المسلمين يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه في صدر تفسير هذه الآيات في قصة أُحد ، فبارز علي بن أبي طالب أبا سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين ، وحمل الزبير وأبو دجانة{[3611]} فهزّا عسكر المشركين ، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، فأبلى حمزة بن عبد المطلب وعاصم بن ابي الأقلح ، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلاً فهذا معنى قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } والحس : القتل الذريع ، يقال حسهم إذا استأصلهم قتلاً ، وحس البرد النبات وقال رؤبة : [ الرجز ]
إذا تَشَكَّوْا سُنَّةً حَسُوسا . . . تَأْكُلُ بَعْدَ الأَخْضَرِ الْيَبِيسا{[3612]}
قال بعض الناس : هو مأخوذ من الحاسة ، والمعنى في حس : أفسد الحواس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، و «الإذن » : التمكين مع العلم بالممكن منه ، وقوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } يحتمل أن تكون { حتى } غاية مجردة ، كأنه قال : إلى أن فشلتم ، ويقوي هذا أن { إذا } بمعنى «إذ » لأن الأمر قد كان تقضى ، وإنما هي حكاية حال ، فتستغني { إذا } على هذا النظر عن جواب ، والأظهر الأقوى أن { إذا } على بابها تحتاج إلى الجواب ، وتكون حتى كأنها حرف ابتداء على نحو دخولها على الجمل ، واختلف النحاة في جواب { إذا } فذهبت فرقة إلى أن الجواب قوله { تنازعتم } ، والواو زائدة{[3613]} ، وحكى المهدوي عن أبي علي أنه قال : الجواب قوله : { صرفكم } و { ثم } زائدة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا يشبه نظر أبي علي وسيبويه ، والخليل وفرسان الصناعة ، إن الجواب محذوف مقدر ، يدل عليه المعنى ، تقديره : انهزمتم ونحوه ، و «الفشل » - استشعار العجز وترك الجد ، وهذا مما فعله يومئذ قوم ، و «التنازع » هو الذي وقع بين الرماة ، فقال بعضهم : الغنيمة الغنيمة ، الحقونا بالمسلمين ، وقال بعضهم : بل نثبت كما أمرنا { وعصيتم } عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة حتى تمكن خالد بن الوليد من غرة المسلمين ، وقوله تعالى : { من بعد ما أراكم ما تحبون } يعني من هزم القوم ، قال الزبير بن العوام : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة{[3614]} وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم ، وقوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } إخبار عن الذين حرصوا على الغنيمة وكان المال همهم ، قاله ابن عباس وسائر المفسرين ، وقال عبد الله بن مسعود : ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد { منكم من يريد الدنيا } وقوله تعالى : { ومنكم من يريد الآخرة } إخبار عن ثبوت من ثبت من الرماة مع عبد الله بن جبير امتثالاً للأمر حتى قتلوا ، ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين ، وقوله تعالى : { ليبتليكم } معناه : لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص ، وقوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل ، وهذا تحذير ، والمعنى «ولقد عفا عنكم » بأن لم يستأصلوكم ، فهو بمنزلة : ولقد أبقى عليكم ، ويحتمل أن يكون إخباراً بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة أحد ، فيكون بمنزلة العفو المذكور بعد ، وبالتفسير الأول قال ابن جريج وابن إسحاق وجماعة من المفسرين ، وقال الحسن بن أبي الحسن : قتل منهم سبعون ، وقتل عم النبي عليه السلام وشج في وجهه وكسرت رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم ، هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم ، فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم .
{ ولقد صدقكم } عطف على قوله : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وهذا عود إلى التَّسلية على ما أصابهم ، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين ، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين : تطميناً لهم بذكر نظيره ومماثله السابقِ ، فإنّ لذلك موقعاً عظيماً في الكلام على حدّ قولهم ( التَّاريخ يعيد نفسه ) وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تَبِعة الهزيمة عليهم ، وأنّ الله لم يُخلفهم وعده ، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله : { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ] .
وصِدق الوعد : تحقيقُه والوفاءُ به ، لأنّ معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع ، وقد عدّي صدق هنا إلى مفعولين ، وحقّه أن لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد . قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة [ الأحزاب : 23 ] : { من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه } يقال : صدقني أخوك وكذَبني إذا قال لك الصدق والكذب ، وأمَّا المثَل ( صَدَقَنِي سِنّ بَكْرِه ) فمعناه صدقني في سنّ بَكره بطرح الجارّ وإيصال الفعل . فنصب { وعدَه } هنا على الحذف والإيصال ، وأصل الكلام صدقَكم في وعده ، أو على تضمين صَدَق معنى أعطى .
والوعد هنا وعد النصر الواقعُ بمثل قوله : { يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] أو بخبر خاصّ في يوم أحُد .
وإذْن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب .
و ( إذ ) في قوله : { إذ تحسونهم } نصب على الظرفية لقوله : { صدقكم } أي : صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسّونهم بإذنه فإنّ ذلك الحسّ تحقيق لوعد الله إيّاهم بالنَّصر ، و ( إذْ ) فيه للمضيّ ، وأتى بعدها بالمضارع لإفادة التجدّد أي لحكاية تجدّد الحسّ في الماضِي .
والحَسّ بفتح الحاء القَتل أطلقه أكثر اللغويين ، وقَيّده في « الكشاف » بالقتل الذريع ، وهو أصوب .
وقوله : { حتى إذا فشلتم } ( حتَّى ) حرف انتهاء وغاية ، يفيد أنّ مضمون الجملة الَّتي بعدها غاية لمضمون الجملة الَّتي قبلها ، فالمعنى : إذ تقتلونهم بتيسير الله ، واستمرّ قتلكم إيّاهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم .
و ( حتَّى ) هنا جارّة و ( إذا ) مجرور بها .
و ( إذا ) اسم زمان ، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقاً كما هنا ، ولعلّ نكتة ذلك أنَّه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعاً لقوله : { تحسونهم } .
و ( إذا ) هنا مجرّدة عن معنى الشرط لأنَّها إذا صارت للمضيّ انسلخت عن الصلاحية للشرطية ، إذ الشرط لا يكون ماضياً إلاّ بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلّف تقديره : انقسمتم ، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلاً عليه وهو قوله : { منكم من يريد الدنيا } إلى آخرها .
والفشل : الوهن والإعياء ، والتنازع : التخالف ، والمُراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول ، وقد رتّبت الأفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول ، إذ كان الفشل ، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة ، قد حصل أولاً فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة ، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الَّذي أمرهم الرسول عليه الصلاة والسّلام بملازمته وعدم الانصراف منه ، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه .
والتعريف في قوله : { في الأمر } عوض عن المضاف إليه أي في أمركم أي شأنكم .
ومعنى { من بعد ما أراكم ما تحبون } أراد به النَّصر إذ كانت الريح أوّل يوم أُحُد للمسلمين ، فهزموا المشركين ، وولوا الأدبار ، حتَّى شوهدت نساؤهم مشمّرات عن سوقهنّ في أعلى الجبل هاربات من الأسر ، وفيهنّ هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان ، فلمَّا رأى الرماة الَّذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين ، الغنيمة ، التحقوا بالغزاة ، فرأى خالد بن الوليد ، وهو قائد خيل المشركين يومئذ ، غرّة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا ، فذلك قوله تعالى : { من بعد ما أراكم ما تحبون } فيكون المجرور متعلّقاً بفشلهم . والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم .
والأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبّون هو الغنيمة فإنّ المال محبوب ، فيكون المجرور يتنازعه كُلّ من ( فشلتم ، وتنازعتم ، وعصيتم ) ، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها ، إلى الموصول تنبيهاً على أنَّهم عجّلوا في طلب المَال المحبوب ، والكلام على هذا تمهيد لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعصيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبّر عنه ب ( إحدى الحسنيين ) ولم يكن ذلك عن جبن ، ولا عن ضعف إيمان ، أو قصد خذلان المسلمين ، وكلّه تمهيد لما يأتي من قوله : { ولقد عفا عنكم } .
وقوله : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة } تفصيل لتنازعتم ، وتبيين ل ( عصيتم ) ، وتخصيص له بأنّ العاصين بعض المخاطبين المتنازعين ، إذ الَّذين أرادوا الآخرة ليسوا بعاصين ، ولذلك أخّرت هاته الجملة إلى بعد الفعلين ، وكان مقتضى الظاهر أن يعقب بها قوله : { وتنازعتم في الأمر } وفي هذا الموضع للجملة ما أغنى عن ذكر ثلاث جمل وهذا من أبدع وجوه الإعجاز ، والقرينة واضحة .
والمراد بقوله : { منكم من يريد الدنيا } إرادة نعمة الدنيا وخيرها ، وهي الغنيمة ، لأنّ من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل ، وليس هو مفرّطاً في الآخرة مطلقاً ، ولا حاسباً تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتاً عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل ، فليس في هذا الكلام ما يدلّ على أنّ الفريق الَّذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدّوا عن الإيمان حينئذ ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال ، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بِدالَ على استخفاف بالآخرة ، وإنكار لها ، كما هو بيّن ، ولا حاجة إلى تقدير : منكم من يريد الدنيا ، فقط .
وإنَّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصياناً ، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف ، إذ كانوا قالوا : إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين ، فلمَّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتَّى تفوتنا الغنائم ، فكانوا متأوَّلين ، فإنَّما سمّيت هنا عصياناً لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد ، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل ، أو لأنّ التأويل كان بعيداً فلم يعذروا فيه ، أو لأنَّه كان تأويلاً لإرضاء حبّ المال ، فلم يكن مكافئاً لدليل وجوب طاعة الرّسول .
وإنَّما قال : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره ، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء ، ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره ، ولأنّ في الابتلاء أسراراً عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه .
وعُقب هذا الملام بقوله : { ولقد عفا عنكم } تسكيناً لخواطرهم ، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين ، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول عليه السلام في قوله تعالى : { عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] ، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو ، وفيه أيضاً دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفاً من غضب الله تعالى .
وفي تذييله بقوله : { والله ذو فضل على المؤمنين } تأكيد ما اقتضاه قوله : { ولقد عفا عنكم } والظاهر أنَّه عفو لأجل التأويل ، فلا يحتاج إلى التَّوبة ، ويجوز أن يكون عفواً بعدما ظهر منهم من الندم والتَّوبة ، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان .