{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } بل يعبدونه وحده مخلصين له الدين حنفاء مقبلين عليه معرضين عما سواه .
{ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } وهي نفس المسلم والكافر المعاهد ، { إِلَّا بِالْحَقِّ } كقتل النفس بالنفس وقتل الزاني المحصن والكافر الذي يحل قتله .
{ وَلَا يَزْنُونَ } بل يحفظون فروجهم { إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } أي : الشرك بالله أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق أو الزنا فسوف { يَلْقَ أَثَامًا }
وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله ، ويتحرجون من قتل النفس ، ومن الزنا . تلك الكبائر المنكرات التي تستحق أليم العذاب :
( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا يزنون . ومن يفعل ذلك يلق أثاما . يضاعف له العذاب يوم القيامة ، ويخلد فيه مهانا . إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وكان الله غفورا رحيما . ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ) .
وتوحيد الله أساس هذه العقيدة ، ومفرق الطريق بين الوضوح والاستقامة والبساطة في الاعتقاد ؛ والغموض والالتواء والتعقيد ، الذي لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة .
والتحرج من قتل النفس - إلا بالحق - مفرق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة التي تحترم فيها الحياة الإنسانية ويقام لها وزن ؛ وحياة الغابات والكهوف التي لا يأمن فيها على نفسه أحد ولا يطمئن إلى عمل أو بناء .
والتحرج من الزنا هو مفرق الطريق بين الحياة النظيفة التي يشعر فيها الإنسان بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ ، ويحس بأن لالتقائه بالجنس الآخر هدفا أسمى من إرواء سعار اللحم والدم ، والحياة الهابطة الغليظة التي لا هم للذكران والإناث فيها إلا إرضاء ذلك السعار .
ومن أجل أن هذه الصفات الثلاثة مفرق الطريق بين الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله ؛ والحياة الرخيصة الغليظة الهابطة إلى درك الحيوان . . من أجل ذلك ذكرها الله في سمات عباد الرحمن . أرفع الخلق عند الله وأكرمهم على الله . وعقب عليها بالتهديد الشديد : ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما )أي عذابا .
{ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله } أي حرمها بمعنى حرم قتلها . { إلا بالحق } متعلق بالقتل المحذوف ، أو بلا يقتلون { ولا يزنون } نفى عنهم أمهات المعاصي بعدما أثبت لهم أصول الطاعات إظهارا لكمال إيمانهم وإشعارا بأن الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك ، وتعريضا للكفرة بأضداده ولذلك عقبه بالوعيد تهديدا لهم فقال : { ومن يفعل ذلك يلق أثاما } جزاء إثم أو إثما بإضمار الجزاء ، وقرئ " أياما " أي شدائد يقال يوم ذو أيام أي صعب .
هذا قسم آخر من صفات عباد الرحمان ، وهو قسم التخلّي عن المفاسد التي كانت ملازمة لقومهم من المشركين ؛ فتنزه عباد الرحمن عنها بسبب إيمانهم ، وذكر هنا تنزههم عن الشرك وقتل النفس والزنا ، وهذه القبائح الثلاث كانت غالبة على المشركين .
ووَصْفُ النفس ب { التي حرم الله } بيانٌ لحُرمة النفس التي تقررت من عهد آدم فيما حكى الله من محاورة ولدَيْ آدم بقوله { قال لأقتلنّك } [ المائدة : 27 ] الآيات ، فتقرر تحريم قتل النفس من أقدم أزمان البشر ولم يجهله أحد من ذرية آدم ، فذلك معنى وصف النفس بالموصول في قوله { التي حرم الله } . وكان قتل النفس متفشياً في العرب بالعداوات ، والغارات ، وبالوأْد في كثير من القبائل بناتهم ، وبالقتل لفرط الغَيرة ، كما قال امرؤ القيس :
تجاوزتُ أحراساً إليها ومعشراً *** عليَّ حراصاً لو يُسِرُّون مقتلي
عُلّقْتُها عَرضاً وأقتُلُ قومها *** زعماً لعمرُ أبيك ليس بمزعم
وقوله { إلا بالحق } المراد به يومئذ : قتل قاتل أحدهم ، وهو تهيئة لمشروعية الجهاد عقب مدة نزول هذه السورة . ولم يكن بيد المسلمين يومئذ سلطان لإقامة القصاص والحدود . ومضى الكلام على الزنا في سورة سبحان .
وقد جُمع التخلّي عن هذه الجرائم الثلاث في صلة موصول واحد ولم يكرر اسم الموصول كما كرّر في ذكر خصال تحلّيهم ، للإشارة إلى أنهم لما أقلعوا عن الشرك ولم يَدْعُوا مع الله إلهاً آخر فقد أقلعوا عن أشد القبائح لصوقاً بالشرك وذلك قتل النفس والزِنا . فجعل ذلك شَبيهَ خصلةٍ واحدة ، وجُعل في صلة موصول واحد .
وقد يكون تكرير { لا } مجزئاً عن إعادة اسم الموصول وكافياً في الدلالة على أن كل خصلة من هذه الخصال موجبة لمضاعفة العذاب ، ويؤيدّه ما في « صحيح مسلم » من حديث عبد الله بن مسعود قال : قلت يا رسول الله أيُّ الذنب أكبر ؟ قال : " أن تدعوَ لله نِدًّا وهو خَلَقَك . قلتُ : ثم أيُّ ؟ قال : أن تقتل ولدك خِيفةَ أن يطْعَم معَك . قلت : ثم أيّ : قال : أن تُزانيَ حليلةَ جارك " فأنزل الله تعالى تصديقها { والذين لا يدعون مع الله إلها آخراً } إلى { أثاماً } ، وفي رواية ابن عطية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية .
وقد علمت أن هذه الآيات الثلاث إلى قوله { غفوراً رحيماً } [ الفرقان : 68 70 ] قيل نزلت بالمدينة .
والإشارة ب { ذلك } إلى ما ذكر من الكبائر على تأويله بالمذكور ، كما تقدم في نظيره آنفاً . والمتبادر من الإشارة أنها إلى المجموع ، أي من يفعل مجموع الثلاث . ويُعلم أن جزاء من يفعل بعضها ويترك بعضاً عدا الإشراك دون جزاء من يفعل جميعها ، وأنَّ البعض أيضاً مراتب ، وليس المراد من يفعل كل واحدة مما ذكر يلقَ آثاماً لأن لُقِيَّ الآثام بُيّن هنا بمضاعفة العذاب والخلودِ فيه .
وقد نهضتْ أدلةٌ متظافرة من الكتاب والسنة على أن ما عدا الكفر من المعاصي لا يوجب الخلود ، مما يقتضي تأويلَ ظواهر الآية .
ويجوز أن تكون مضاعفة العذاب مستعملة في معنى قوته ، أي يعذب عذاباً شديداً وليست لتكرير عذاب مقدر .
والآثام بفتح الهمزة جزاء الإثم على زنة الوَبال والنَكال ، وهو أشد من الإثم ، أي يجازى على ذلك سُوءاً لأنها آثام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين لا يدعون} يعني: لا يعبدون {مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله} قتلها {إلا بالحق} يعني: بالقصاص.
{ولا يزنون ومن يفعل ذلك} جميعا {يلق أثاما} يعني: جزاؤه واديا في جهنم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر، فيشركون في عبادتهم إياه، ولكنهم يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة.
"وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ قتلها إلاّ بِالحَقّ" إما بكفر بالله بعد إسلامها، أو زنا بعد إحصانها، أو قتل نفس، فتقتل بها.
"وَلاَ يَزْنُونَ" فيأتون ما حرّم الله عليهم إتيانه من الفروج.
"وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ" يقول: ومن يأت هذه الأفعال، فدعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرّم الله بغير الحقّ، وزنى "يَلْقَ أثاما"، يقول: يلق من عقاب الله عقوبة ونكالاً، كما وصفه ربنا جلّ ثناؤه، وهو أنه "يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانا"... عن قتادة، في قوله: "يَلْقَ أثاما" قال: نكالاً.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... ونفي هذه المقبحات العظام على الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين، للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم، كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه.
والقتل بغير الحق: يدخل فيه الوأد وغيره.
الصفة السادسة: اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن من صفة عباد الرحمان الاحتراز عن الشرك والقتل والزنا، ثم ذكر بعد ذلك حكم من يفعل هذه الأشياء من العقاب، ثم استثنى من جملتهم التائب، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى قبل ذكر هذه الصفة، نزه عباد الرحمان عن الأمور الخفيفة، فكيف يليق بعد ذلك أن يطهرهم عن الأمور العظيمة مثل الشرك والقتل والزنا، أليس أنه لو كان الترتيب بالعكس منه كان أولى؟
الجواب: أن الموصوف بتلك الصفات السالفة قد يكون متمسكا بالشرك تدينا ومقدما على قتل الموءودة تدينا وعلى الزنا تدينا، فبين تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمان، حتى يضاف إلى ذلك كونه مجانبا لهذه الكبائر، وأجاب الحسن رحمه الله من وجه آخر فقال: المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار، كأنه قال: وعباد الرحمان هم الذين لا يدعون مع الله إلها آخر وأنتم تدعون {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} وأنتم تقتلون الموءودة، {ولا يزنون} وأنتم تزنون.
السؤال الثاني: ما معنى قوله: {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} ومعلوم أنه من يحل قتله لا يدخل في النفس المحرمة فكيف يصح هذا الاستثناء؟
الجواب: المقتضى لحرمة القتل قائم أبدا، وجواز القتل إنما ثبت بالمعارض فقوله: {حرم الله} إشارة إلى المقتضى وقوله {إلا بالحق} إشارة إلى المعارض.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر ما تحلوا به من أصول الطاعات، بما لهم من العدل والإحسان بالأفعال والأقوال، في الأبدان والأموال، أتبعه ما تخلوا عنه من أمهات المعاصي التي هي الفحشاء والمنكر، فقال: {والذين لا يدعون} رحمة لأنفسهم واستعمالاً للعدل {مع الله} أي الذي اختص بصفات الكمال {إلهاً} وكلمة "مع "وإن أفهمت أنه غير، لكن لما كانوا يتعنتون حتى أنهم يتعرضون بتعديد الأسماء كما مر في آخر سبحان والحجر، قال تعالى قطعاً لتعنتهم: {آخر} أي دعاء جلياً بالعبادة له، ولا خفياً بالرياء، فيكونوا كمن أرسلت عليهم الشياطين فأزتهم أزاً.
ولما نفى عنهم ما يوجب قتل أنفسهم بخسارتهم إياها، أتبعه قتل غيرهم فقال: {ولا يقتلون} أي بما تدعو إليه الحدة {النفس} أي رحمة للخلق وطاعة للخالق. ولما كان من الأنفس ما لا حرمة له، بين المراد بقوله: {التي حرم الله} أي قتلها، أي منع منعاً عظيماً الملك الأعلى -الذي لا كفوء له- من قتلها {إلا بالحق} أي بأن تعمل ما يبيح قتلها.
ولما ذكر القتل الجلي، أتبعه الخفي بتضييع نسب الولد، فقال: {ولا يزنون} أي رحمة لما قد يحدث من ولد، إبقاء على نسبه، ورحمة للمزني بها ولأقاربها أن تنهتك حرماتهم، مع رحمته لنفسه، على أن الزنا جارّ أيضاً إلى القتل والفتن، وفيه التسبب لإيجاد نفس بالباطل كما أن القتل تسبب إلى إعدامها بذلك، وقد روي في الصحيح
" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم -وفي رواية: أكبر- عند الله؟ قال: أن تدعو لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أيّ؟ قال: أن تزني بحليلة جارك، فأنزل الله تصديق ذلك {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} [الفرقان: 68] الآية "وقد استشكل تصديق الآية للخبر من حيث أن الذي فيه قتل خاص وزنا خاص، والتقييد بكونه أكبر، والذي فيها مطلق القتل والزنا من غير تعرض لعظم، ولا إشكال لأنها نطقت بتعظيم ذلك من سبعة أوجه:
الأول: الاعتراض بين المبتدأ الذي هو" وعباد "وما عطف عليه، والخبر الذي هو {أولئك يجزون} [الفرقان: 75] على أحد الرأيين بذكر جزاء هذه الأشياء الثلاثة خاصة، وذلك دال على مزيد الاهتمام الدال على الإعظام.
الثاني: الإشارة بأداة البعد -في قوله: {ومن يفعل ذلك} أي الفعل العظيم القبح- مع قرب المذكورات، فدل على أن البعد في رتبها.
الثالث: التعبير باللقى مع المصدر المزيد الدال على زيادة المعنى في قوله: {يلق أثاماً} دون يأثم أو يلق إثماً أو جزاء إثمه.
الرابع: التقييد بالمضاعفة في قوله مستأنفاً: {يضاعف} أي بأسهل أمر {له العذاب} جزاء ما أتبع نفسه هواها بما فيه من الحرارة الشيطانية -هذا في قراءة ابن عامر وأبي بكر عن عاصم بالرفع وهو بدل" يلق "في قراءة الجماعة، لأنهما تؤولان إلى معنى واحد، ومضاعفة العذاب- والله أعلم -إتيان بعضه في أثر بعض بلا انقطاع كما كان يضاعف سيئته كذلك، وقراءة ابن كثير وأبي جعفر وابن عامر ويعقوب بالتشديد تفيد مطلق التعظيم للتضعيف، وقراءة الباقين بالمفاعلة تقتضيه بالنسبة إلى من يباري آخر فيه فهو أبلغ.
الخامس: التهويل بقوله: {يوم القيامة} الذي هو أهول من غيره بما لا يقايس.
السادس: الإخبار بالخلود الذي هو أول درجاته أن يكون مكثاً طويلاً، فقال عاطفاً في القراءتين على يضاعف: {ويخلد فيه}.
السابع: التصريح بقوله: {مهاناً} ولعله للاحتراز عما يجوز من أن بعض عصاة هذه الأمة- الذين يريد الله تعذيبهم -يعلمون أنهم ينجون ويدخلون الجنة، فتكون إقامتهم- مع العلم بالمآل -ليست على وجه الإهانة، فلما عظم الأمر من هذه الأوجه، علم أن كلاًّ من هذه الذنوب كبير، وإذا كان الأعم كبيراً، كان الأخص المذكور أعظم من مطلق الأعم، لأنه زاد عليه بما صار به خاصاً، فثبت بهذا أنها كبائر، وأن قتل الولد والزنا بحليلة الجار أكبر لما ذكر، فوضح وجه تصديق الآية للخبر، ولا يقال: إن الإشارة ترجع إلى المجموع، فالتهويل خاص بمن ارتكب مجموع هذه الذنوب لأنا نقول: السياق يأباه، لأن تكرار" لا "أفاد- كما حققه الرضي -ورود النفي على وقوع الخصال الثلاث حال الاجتماع والانفراد، فالمعنى: لا يوقعون شيئاً منها، فكان معنى {ومن يفعل ذلك}: ومن يفعل شيئاً من ذلك- ليرد الإثبات على ما ورد عليه النفي، فيحصل التناسب. وأما عدم منافاة الآية للترتيب فمن وجهين:
الأول أن الأصل في التقديم الاهتمام بما سبقت له الآية، وهو التنفير المفيد للتغليظ، فيكون كل واحد منها أعلى مما بعده.
الثاني: أن الواو لا تنافيه، وقد وقعت الأفعال مرتبة في الذكر كما رتبت في الحديث ب" ثم "فيكون مراداً بها الترتيب -والله الهادي.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
تنظير: وعلى وزانه تقول: لما كان الدعاء عبادة، والعبادة لا تكون إلا للإله، كان الداعي لشيء من المخلوقات متخذا إياه إلها، لما نزله بدعائه إياه منزلة الإله، سواء دعاه وحده دون الله، أو دعاه مع الله. والعياذ بالله.
تحذير وإرشاد: من دعاء غير الله: ما أكثر ما تسمع في دعاء الناس "يا ربي والشيخ"، "يا ربي وناس ربي"، "يا ربي والناس الملاح". وهذا من دعاء غير الله، فإياك أيا المسلم وإياه، وادع الله ربك وخالقك وحده وحده وحده، وأنف الشرك راغم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله، ويتحرجون من قتل النفس، ومن الزنا. تلك الكبائر المنكرات التي تستحق أليم العذاب: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون. ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهانا. إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما. ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا). وتوحيد الله أساس هذه العقيدة، ومفرق الطريق بين الوضوح والاستقامة والبساطة في الاعتقاد؛ والغموض والالتواء والتعقيد، الذي لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة. والتحرج من قتل النفس -إلا بالحق- مفرق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة التي تحترم فيها الحياة الإنسانية ويقام لها وزن؛ وحياة الغابات والكهوف التي لا يأمن فيها على نفسه أحد ولا يطمئن إلى عمل أو بناء. والتحرج من الزنا هو مفرق الطريق بين الحياة النظيفة التي يشعر فيها الإنسان بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ، ويحس بأن لالتقائه بالجنس الآخر هدفا أسمى من إرواء سعار اللحم والدم، والحياة الهابطة الغليظة التي لا هم للذكران والإناث فيها إلا إرضاء ذلك السعار. ومن أجل أن هذه الصفات الثلاثة مفرق الطريق بين الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله؛ والحياة الرخيصة الغليظة الهابطة إلى درك الحيوان.. من أجل ذلك ذكرها الله في سمات عباد الرحمن. أرفع الخلق عند الله وأكرمهم على الله. وعقب عليها بالتهديد الشديد: (ومن يفعل ذلك يلق أثاما) أي عذابا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا قسم آخر من صفات عباد الرحمان، وهو قسم التخلّي عن المفاسد التي كانت ملازمة لقومهم من المشركين؛ فتنزه عباد الرحمن عنها بسبب إيمانهم، وذكر هنا تنزههم عن الشرك وقتل النفس والزنا، وهذه القبائح الثلاث كانت غالبة على المشركين. ووَصْفُ النفس ب {التي حرم الله} بيانٌ لحُرمة النفس التي تقررت من عهد آدم فيما حكى الله من محاورة ولدَيْ آدم بقوله {قال لأقتلنّك} [المائدة: 27] الآيات، فتقرر تحريم قتل النفس من أقدم أزمان البشر ولم يجهله أحد من ذرية آدم، فذلك معنى وصف النفس بالموصول في قوله {التي حرم الله}. وكان قتل النفس متفشياً في العرب بالعداوات، والغارات، وبالوأْد في كثير من القبائل بناتهم، وبالقتل لفرط الغَيرة،...
وقوله {إلا بالحق} المراد به يومئذ: قتل قاتل أحدهم، وهو تهيئة لمشروعية الجهاد عقب مدة نزول هذه السورة. ولم يكن بيد المسلمين يومئذ سلطان لإقامة القصاص والحدود. ومضى الكلام على الزنا في سورة سبحان. وقد جُمع التخلّي عن هذه الجرائم الثلاث في صلة موصول واحد ولم يكرر اسم الموصول كما كرّر في ذكر خصال تحلّيهم، للإشارة إلى أنهم لما أقلعوا عن الشرك ولم يَدْعُوا مع الله إلهاً آخر فقد أقلعوا عن أشد القبائح لصوقاً بالشرك وذلك قتل النفس والزِنا. فجعل ذلك شَبيهَ خصلةٍ واحدة، وجُعل في صلة موصول واحد. وقد يكون تكرير {لا} مجزئاً عن إعادة اسم الموصول وكافياً في الدلالة على أن كل خصلة من هذه الخصال موجبة لمضاعفة العذاب...
والإشارة ب {ذلك} إلى ما ذكر من الكبائر على تأويله بالمذكور، كما تقدم في نظيره آنفاً. والمتبادر من الإشارة أنها إلى المجموع، أي من يفعل مجموع الثلاث. ويُعلم أن جزاء من يفعل بعضها ويترك بعضاً عدا الإشراك دون جزاء من يفعل جميعها، وأنَّ البعض أيضاً مراتب، وليس المراد من يفعل كل واحدة مما ذكر يلقَ آثاماً لأن لُقِيَّ الآثام بُيّن هنا بمضاعفة العذاب والخلودِ فيه. وقد نهضتْ أدلةٌ متظافرة من الكتاب والسنة على أن ما عدا الكفر من المعاصي لا يوجب الخلود، مما يقتضي تأويلَ ظواهر الآية.
ويجوز أن تكون مضاعفة العذاب مستعملة في معنى قوته، أي يعذب عذاباً شديداً وليست لتكرير عذاب مقدر. والآثام بفتح الهمزة جزاء الإثم على زنة الوَبال والنَكال، وهو أشد من الإثم، أي يجازى على ذلك سُوءاً لأنها آثام.
وهنا قد يسأل سائل: أبعد كل هذه الصفات لعباد الرحمن ننفي عنهم هذه الصفة {لا يدعون مع الله إلها آخر} وهم ما اتصفوا بالصفات السابقة إلا لأنهم مؤمنون بالإله الواحد سبحانه؟ قالوا: هذه المسألة عقيدة وأساس لا بد للقرآن أن يكررها، ويهتم بالتأكيد عليها.
ومعنى: {لا يدعون مع الله إلها آخر} أي: لا يدعون أصحاب الأسباب لمسبباتهم، وهذا هو الشرك الخفي. ومنه قولهم: توكلت على الله وعليك. فنقول له، انتبه ليس علي شيء، الأمر كله على الله. فقل: توكلت على الله. وإن أردت فقل: ثم عليك 101.
ونسمع آخر يقول للأمر الهام: هذا علي، والباقي على الله، فجعل الأصل المهم لنفسه، وأسند الباقي لله، أيليق هذا والمسألة كلها أصلها وفروعها على الله؟
إذن: يمكن أن تكون هذه الآية للمفتونين في الأسباب الذين ينتظرون منها العطاء، وينسون المسبب سبحانه، وهذا هو الشرك الخفي.
ثم يقول سبحانه: {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} سبق أن تحدثنا عن الفرق بين الموت والقتل، وقلنا: إن كليهما تذهب به الحياة، لكن في الموت تذهب الحياة أولا، ثم تنقض البنية بعد ذلك، أما في حالة القتل فتنقض البنية أولا، ثم يتبعها خروج الروح. فالموت- إذن- بيد الله عز وجل، أما القتل فقد يكون بيد البشر.
وهنا نهي صريح عن هذه الجريمة؛ لأنه "ملعون من يهدم بنيان الله "ويقضي على الحياة التي وهبها الله تعالى لعباده.
وقوله تعالى: {إلا بالحق} أي: حق يبيح القتل كرجم الزاني حتى الموت، وكالقصاص من القاتل، وكقتل المرتد عن دينه، فإن قتلنا هؤلاء فقتلهم بناء على حق استوجب قتلهم.
فإن قال قائل: فأين حرية الدين إذن؟ نقول: أنت حر في أن تؤمن أو لا تؤمن، لكن أعلم أولا أنك إن ارتددت عن إيمانك قتلناك، فإياك أن تدخل في ديننا إلا بعد اقتناع تام حتى لا تعرض نفسك لهذه العاقبة.
وهذا الشرط يمثل عقبة وحاجزا أمام من أراد الإيمان ويجعله يفكر مليا قبل أن ينطق بكلمة الإيمان ويحتاط لنفسه، إذن: فربك عز وجل ينبهك أولا، ويشترط عليك، وليس لأحد بعد ذلك أن يقول: أين حيرة الدين؟.
وقوله تعالى: {ولا يزنون} تحدثنا عن هذه المسألة في أول سورة النور وقلنا: إن الإنسان الذي كرمه الله وجعله خليفة له في أرضه أراد له الطهر والكرامة، وأن يسكن الدنيا على مقتضى قانون الله، فلا يدخل في عنصر الخلافة شيئا يخالف هذا القانون؛ لأن الله تعالى يريد أن يبني المجتمع المؤمن على الطهر ويبنيه على عناية المربى بالمربي...
وهذا يدل على أن الفطرة السليمة تأبى أن يوجد في كون الله شخص غير منسوب لأبيه الحق، من هنا نهى الإسلام عن الزنا، وجعل من صفات عباد الرحمان أنهم لا يزنون.