اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَا يَزۡنُونَۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ يَلۡقَ أَثَامٗا} (68)

قوله{[36674]} : { والذين لاَ يَدْعُونَ } الآية . قال ابن عباس : إن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقالوا{[36675]} : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت هذه الآية{[36676]} ، ونزل «يَا عِبَادِيَ »{[36677]} { الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } [ الزمر : 53 ] وروي أن رجلاً قال : يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : «أن تدعو لله نداً وهو خلقك » قال : ثم أي ؟ قال : «ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك » قال : ثم أي ؟ قال : «أن تُزَاني حليلة جارك » فأنزل الله تصديقها هذه الآية{[36678]} .

فإن قيل : إن الله تعالى ذكر أن من صفات عباد الرحمن الاحتراز عن الشرك والقتل والزنا ، فلو كان الترتيب{[36679]} بالعكس كان أولى ؟ فالجواب : أن الموصوف بتلك الصفات السالفة قد يكون متمكناً بالشرك تديناً ، ويقتل المولود تديناً ، ويزني تديناً ، فبين تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يتجنب هذه الكبائر . وأجاب الحسن فقال : المقصود من ذلك التنبيه{[36680]} على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال : وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، وأنتم تدعون ، «وَلاَ يَقْتُلُونَ » وأنتم تقتلون الموءودة ، «وَلاَ يَزْنُونَ » وأنتم تزنون{[36681]} .

قوله : «إلاَّ بالحَقِّ » يجوز أن تتعلق الباء بنفس «يَقْتلُون » أي : لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، وأن تتعلق بمحذوف على أنها صفة للمصدر ، أي : قَتْلاً مُلْتَبِساً بالحق{[36682]} ، أو على أنها حال أي : إلاَّ مُلْتَبِسِينَ بالحق{[36683]} .

فإن قيل : من حلَّ قتله لا يدخل في النفس المحرمة ، فكيف يصحّ هذا الاستثناء فالجواب : أن المقتضي لحرمة القتل قائم أبداً ، وجواز القتل إنما ثبت بمعارض ، فقوله : «حَرَّمَ اللَّهُ » إشارة إلى المقتضي ، وقوله : «إلاَّ بالحَقِّ » إشارة إلى المعارض{[36684]} والسبب المبيح للقتل هو الردة ، والزنا بعد الإحصان ، وقتل النفس المحرمة{[36685]} .

قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } هذه إشارة إلى جميع ما تقدم ، لأنه بمعنى ما ذكر ( فلذلك وحِّدَ{[36686]} ) {[36687]} .

قوله : «يَلْقَ »{[36688]} قراءة العامة مجزوماً على جزاء الشرط بحذف الألف ، وقرأ عبد الله وأبو رجاء «يَلْقَى » بإثباتها{[36689]} كقوله : «فلا تَنْسَى »{[36690]} على أحد القولين{[36691]} ، وكقراءة { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى }{[36692]} [ طه : 77 ] في أحد القولين{[36693]} أيضاً ، وذلك بأن نقدر علامة الجزم حذف الضمة المقدرة{[36694]} . وقرأ بعضهم «يُلَقَّ » بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف{[36695]} من لقاه كذا . والأثام مفعول على قراءة الجمهور ، ومفعول ثان على قراءة هؤلاء والأثام العقوبة ، قال :

جَزَى اللَّهُ ابْنَ عُرْوَةَ حَيْثُ أَمْسَى *** عُقُوقاً وَالعُقُوقُ لَهُ أَثَامُ{[36696]}

أي عقوبةٌ .

وقيل : هو الإثم نفسه ، أي : يَلْقَ جَزَاءَ إثْمٍ{[36697]} . قال أبو مسلم : والأثام والإثم واحد ، والمراد هاهنا جزاء الأثام ، فأطلق اسم الشيء على جزائه{[36698]} .

وقال الحسن : الأثام اسم من أسماء جهنم{[36699]} ، وقال مجاهد : اسم وادٍ في جهنم{[36700]} وقيل : بئر فيها{[36701]} . وقرأ ابن مسعود : «أَيَّاماً »{[36702]} جمع يومٍ ، يعني شدائد ، والعرب تعبر عن ذلك بالأيَّام ، يقال : يوم ذو أيام لليوم الصعب{[36703]} .


[36674]:في ب: قوله تعالى.
[36675]:في ب: فقال.
[36676]:انظر أسباب النزول للواحدي (249) والقرطبي 13/76.
[36677]:في ب: يا عباد.
[36678]:أخرجه البخاري (تفسير) 3/169. أبو داود (طلاق) 2/732 – 733، الترمذي (تفسير) 5/17، 18، النسائي (تحريم) 7/89 – 90، أحمد 1/380، 431، 434. وانظر أسباب النزول للواحدي (249 – 250). القرطبي 13/75.
[36679]:في ب: بالترتيب.
[36680]:في ب: النسبة.
[36681]:انظر الفخر الرازي 24/110 – 111.
[36682]:انظر الكشاف 3/104.
[36683]:انظر التبيان 2/991.
[36684]:انظر الفخر الرازي 24/111.
[36685]:المرجع السابق.
[36686]:انظر البحر المحيط 6/515.
[36687]:ما بين القوسين في ب: فكذلك وجد. وهو تحريف.
[36688]:في ب: "يلق أثاما".
[36689]:انظر البحر المحيط 6/515.
[36690]:من قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6].
[36691]:القول الثاني: أن الألف حذفت للجزم، والألف الثابتة ناشئة عن إشباع الفتحة.
[36692]:[طه: 77]. و "لا تخف" جزما والتاء مفتوحة قراءة حمزة وحده، وقرأ الباقون "لا تخاف" رفعا بالألف. السبعة (421).
[36693]:أي على قراءة حمزة "لا تخف" بالجزم فقوله: "ولا تخشى" قيل نشأت الألف لإشباع الفتحة ليتوافق رؤوس الآي، وقيل: الألف في تقدير الجزم، شبهت بالحروف الصحاح. انظر التبيان 2/899.
[36694]:انظر البحر المحيط 6/515.
[36695]:وهي قراءة ابن مسعود وأبي رجاء، كذا نسبها ابن خالويه في المختصر (105).
[36696]:البيت من بحر الوافر، نسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/81، إلى بلعاء بن قيس الكناني، ونسبه ابن منظور في اللسان (أثم) إلى شافع الليثي. وهو في الكشاف 3/104، وتفسير ابن عطية 11/74، القرطبي 13/76 البحر المحيط 6/515، العقوق بالضم: منع بر الوالدين وقطع صلتهما. والشاهد فيه أن قوله: (أثام) بمعنى: جزاء وعقاب.
[36697]:انظر الكشاف 3/104.
[36698]:انظر الفخر الرازي 24/111.
[36699]:المرجع السابق.
[36700]:المرجع السابق.
[36701]:انظر البحر المحيط 6/515.
[36702]:انظر المختصر وهامشه (105)، الكشاف 3/104، البحر المحيط 6/515.
[36703]:انظر الكشاف 3/104، البحر المحيط 6/515.