40- حتى إذا جاء وقت أمرنا بإهلاكهم ، جاء الماء بقوة فائراً ذا رغوة ، كالماء الذي يغلى فوق النار ، قلنا لنوح : احْمل معك في السفينة من كل نوع من أنواع الحيوانات ذكراً وأنثى ، واحْمل فيها أيضاً أهل بيتك جميعاً ، إلا من سبق عليه حكمنا بإهلاكه ، واحْمل فيها أيضاً من آمن من قومك ، ولم يكونوا إلا عدداً قليلاً .
{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا } أي قدرنا بوقت نزول العذاب بهم { وَفَارَ التَّنُّورُ } أي : أنزل الله السماء بالماء بالمنهمر ، وفجر الأرض كلها عيونا حتى التنانير التي هي محل النار في العادة ، وأبعد ما يكون عن الماء ، تفجرت فالتقى الماء على أمر ، قد قدر .
{ قُلْنَا } لنوح : { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي : من كل صنف من أصناف المخلوقات ، ذكر وأنثى ، لتبقى مادة سائر الأجناس وأما بقية الأصناف الزائدة عن الزوجين ، فلأن السفينة لا تطيق حملها { وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } ممن كان كافرا ، كابنه الذي غرق .
{ وَمَنْ آمَنَ } { و } الحال أنه { مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ }
ثم مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة :
( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ، قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك - إلا من سبق عليه القول - ومن آمن ، وما آمن معه إلا قليل . وقال : اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم ) .
وتتفرق الأقوال حول فوران التنور ، ويذهب الخيال ببعضها بعيدا ، وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها وفي قصة الطوفان كلها واضحة . أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل ، في هذا الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص ، وفي حدود مدلوله بلا زيادة .
وأقصى ما نملك أن نقوله : إن فوران التنور - والتنور الموقد - قد يكون بعين فارت فيه ، أو بفوارة بركانية . وأن هذا الفوران ربما كان علامة من الله لنوح ، أو كان مصاحبا مجرد مصاحبة لمجيء الأمر ، وبدءا لنفاذ هذا الأمر بفوران الأرض بالماء . وسح الوابل من السماء .
لما حدث هذا ( قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين . . . ) كأن نظام العملية كان يقتضي أن يؤمر نوح بمراحلها واحدة واحدة في حينها . فقد أمر أولا بصنع الفلك فصنعه ، ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه ، ولم يذكر أنه أطلع نوحا على هذا الغرض كذلك . ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) . . أمر بالمرحلة التالية .
( قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ) . .
ومرة أخرى تتفرق الأقوال حول ( من كل زوجين اثنين ) وتشيع في الجو رائحة الإسرائيليات قوية . أما نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص : ( احمل فيها من كل زوجين اثنين ) . . مما يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء . وما وراء ذلك خبط عشواء . .
( وأهلك - إلا من سبق عليه القول - ) . .
{ حتى إذا جاء أمرنا } غاية لقوله { ويصنع الفلك } وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام . { وفار التّنور } نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور ، و{ التنور } تنور الخبز ابتدأ منه النبوع على خرق العادة وكان في الكوفة في موضع مسجدها ، أو ي الهند أو بعين وردة من أرض الجزيرة وقيل التنور وجه الأرض أو أشرف موضع فيها . { قلنا احمل فيها } في السفينة . { من كل } من كل نوع من الحيوانات المنتفع بها . { زوجين اثنين } ذكرا وأنثى هذا على قراءة حفص والباقون أضافوا على معنى احمل اثنين من كل صنف ذكر وصنف أنثى . { وأهلك } عطف على { زوجين } أو { اثنين } ، والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم . { إلا من سبق عليه القول } بأنه من المغرقين يريد ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين . { ومن آمن } والمؤمنين من غيرهم . { وما آمن معه إلا قليل } قيل كانوا تسعة وسبعين زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم . روي أنه عليه الصلاة والسلام اتخذ السفينة في سنتين من الساج وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين وسمكها ثلاثين ، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحش وفي أوسطها الأنس وفي أعلاها الطير .
{ حتى } غاية ل { يصنع الفلك } [ هود : 38 ] أي يصنعه إلى زمن مجيء أمرنا ، ف { إذا } ظرف مضمن معنى الشرط ولذلك جيء له بجواب . وهو جملة { قلنا احمل } . وجعل الشرط وجوابه غاية باعتبار ما في حرف الشرط من معنى الزمان وإضافته إلى جملة الشرط ، فحصل معنى الغاية عند حصول مضمون جملة الجزاء ، وهو نظم بديع بإيجازه .
والأمر هنا يحتمل أمْر التكوين بالطوفان ، ويحتمل الشّأن وهو حادث الغرق ، وإضافته إلى اسم الجلالة لتهويله بأنّه فوق ما يعرفون .
والفوران : غليان القدر ، ويطلق على نبع الماء بشدة ، تشبيهاً بفوران ماء في القدر إذا غلي ، وحملوه على ما جاء في آيات أخرى من قصة نوح عليه السّلام مثل قوله : { وفجّرنا الأرض عيوناً } [ القمر : 12 ] . ولذلك لم يتضح لهم إسناده إلى التنور ، فإن التنور هو الموقد الذي ينضج فيه الخبز ، فكثرت الأقوال في تفسير التنور ، بلغت نسبة أقوال منها ما لا ينبغي قبوله . ومنها ما له وجه وهو متفاوت .
فمن المفسرين من أبقى التنور على حقيقته ، فجعل الغوران خروج الماء من أحد التنانير وأنه علامة جعلها الله لنوح عليه السّلام إذ أفار الماء من تنوره علم أن ذلك مبدأ الطوفان فركِب الفلكَ وأركبَ من معه .
ومنهم من حمل التنور على المَجاز المفرد ففسره بسطح الأرض ، أي فار الماء من جميع الأرض حتى صار بسطح الأرض كفوهة التنور .
ومنهم من حمل { فار } و { التنور } على الحقيقة ، وأخرج الكلام مَخرج التمثيل لاشتداد الحال ، كما يقال : حمي الوطيس . وقع حكاية ذلك في تفسير ابن عطية في هذه الآية وفي الكشاف في تفسير سورة المؤمنون : وأنشد الطبرسي قول الشاعر . وهو النابغة الجعدي :
تفورُ علينا قِدرهم فنديمها *** ونفثأها عنّا إذا قِدرها غلى
يريد بالقدر الحرب ، ونفثأها ، أي نسكنها ، يقال : فثأ القِدر إذا سكن غليانها بصب الماء فيها . وهذا أحسن ما حكي عن المفسرين .
والذي يظهر لي أن قوله : { وفارَ التنور } مثَل لبلوغ الشيء إلى أقصَى ما يتحمل مثله ، كما يقال : بلغ السيل الزُبى ، وامتلأ الصاع ، وفاضت الكأس وتفاقم .
والتنور : محفل الوادي ، أي ضفته ، فيكون مثل طَما الوادي من قبيل بلغ السيل الزُبى . والمعنى : بأن نفاذ أمرنا فيهم وبلغوا من طول مدة الكفر مبلغاً لا يغتفر لهم بعدُ كما قال تعالى : { فلما آسفونا انتقمنا منهم } [ الزخرف : 55 ] .
والتنور : اسم لمَوقد النار للخبز . وزعمه . الليث مما اتفقت فيه اللغات ، أي كالصابون والسمور . ونسب الخفاجي في شفاء الغليل هذا إلى ابن عباس . وقال أبو منصور : كلام الليث يدل على أنه في الأصل أعجمي .
والدليل على ذلك أنه فعّول من تنر ولا نعرف تنر في كلام العرب لأنه مهمل ، وقال غيره : ليس في كلام العرب نون قبل رَاء فإن نرجس معرب أيضاً .
وقد عدّ في الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن . ونظمها ابن السبكي في شرحه على مختصر ابن الحاجب الأصلي ونسب ذلك إلى ابن دريد . قال أبو علي الفارسي : وزنه فَعّول . وعن ثعلب أنه عربي ، قال : وزنه تَفعول من النور ( أي فالتاء زايدة ) وأصله تنوور بواوين ، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم حذفت الهمزة تخفيفاً ثم شددت النون عوضاً عما حذف أي مثل قوله : تقَضّى البَازي بمعنى تقضّض .
وقرأ الجمهور { من كلّ زوجين } بإضافة { كل } إلى { زوجين } .
والزوج : شيء يكون ثَانياً لآخَرَ في حالة . وأصله اسم لما ينضم إلى فرد فيصير زوجاً له ، وكل منهما زوج للآخر . والمراد ب { زوجين } هنا الذكر والأنثى من النوع ، كما يدل عليه إضافة { كل } إلى { زوجين } ، أي احمل فيها من أزواج جميع الأنواع .
و { من } تبعيضية ، و { اثنين } مفعول { احمل } ، وهو بيان لئلاّ يتوهّم أن يحمل كل زوجين واحداً منهما لأن الزوج هو واحد من اثنين متصلين ، كما تقدم في قوله تعالى : { ثمانية أزواج } في سورة [ الأنعام : 143 ] . ولئلا يحمل أكثر من اثنين من نوع لتضيق السفينة وتثقل .
وقرأه حفص { من كلَ } بتنوين { كلَ } فيكون تنوين عوض عن مضاف إليه ، أي من كل المخلوقات ، ويكون { زوجين } مفعول { احمل } ، ويكون { اثنين } صفة ل { زوجين } أي لا تزد على اثنين .
وأهل الرجل قرابته وأهل بيته وهو اسم جمع لا واحد له . وزوجه أول من يبادر من اللفظ ، ويطلق لفظ الأهل على امرأة الرجل قال تعالى : { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } [ القصص : 29 ] ، وقال : { وإذ غدوتَ من أهلك } [ آل عمران : 121 ] أي من عند عائشة رضي الله عنها .
و { من سبق عليه القول } أي من مضى قول الله عليه ، أي وعيده . فالتعريف في { القول } للعهد ، يعني إلاّ من كان من أهلك كافراً . ، وماصدق هذا إحدى امرأتيه المذكورة في سورة التّحريم وابنه منها المذكور في آخر هذه القصة . وكان لنوح عليه السّلام امرأتان .
وعدّي { سبَق } بحرف { على } لتضمين { سَبَق } معنى : حَكَم ، كما عدّي باللام في قوله : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } [ الصافات : 171 ] لتضمينه معنى الالتزام النافع .
وجملة { وما آمن معه إلا قليل } اعتراض لتكميل الفائدة من القصة في قلة الصالحين . قيل : كان جميع المؤمنين به من أهله وغيرهم نيفاً وسبعين بين رجال ونساء ، فكان معظم حمولة السفينة من الحَيوان .