{ 6 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }
وهذا أيضًا ، من الآداب التي على أولي الألباب ، التأدب بها واستعمالها ، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره ، ولا يأخذوه مجردًا ، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا ، ووقوعًا في الإثم ، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل ، حكم بموجب ذلك ومقتضاه ، فحصل من تلف النفوس والأموال ، بغير حق ، بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة ، بل الواجب عند خبر الفاسق ، التثبت والتبين ، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه ، عمل به وصدق ، وإن دلت على كذبه ، كذب ، ولم يعمل به ، ففيه دليل ، على أن خبر الصادق مقبول ، وخبر الكاذب ، مردود ، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا ، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير [ من ] الخوارج ، المعروفين بالصدق ، ولو كانوا فساقًا .
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين . واعلموا أن فيكم رسول الله ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ؛ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، أولئك هم الراشدون ، فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم ) . .
كان النداء الأول لتقرير جهة القيادة ومصدر التلقي . وكان النداء الثاني لتقرير ما ينبغي من أدب للقيادة وتوقير . وكان هذا وذلك هو الأساس لكافة التوجيهات والتشريعات في السورة . فلا بد من وضوح المصدر الذي يتلقى عنه المؤمنون ، ومن تقرير مكان القيادة وتوقيرها ، لتصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها . ومن ثم جاء هذا النداء الثالث يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء وكيف يتصرفون بها ، ويقرر ضرورة التثبت من مصدرها :
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ، أن تصيبوا قوما بجهالة ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . .
ويخصص الفاسق لأنه مظنة الكذب . وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء ، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها . فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها ، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذا بها . فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره . وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطا بين الأخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء . ولا تعجل الجماعة في تصرف بناء على خبر فاسق . فتصيب قوما بظلم عن جهالة وتسرع . فتندم على ارتكابها ما يغضب الله ، ويجانب الحق والعدل في اندفاع .
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على صدقات بني المصطلق . وقال ابن كثير . قال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم فتلقوه بالصدقة ، فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك - زاد قتادة وأنهم قد ارتدوا عن الإسلام - فبعث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إليهم ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالدا - رضي الله عنه - أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد - رضي الله عنه - فرأى الذي يعجبه ؛ فرجع إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة . قال قتادة : فكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " . . وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل بن حبان . وغيرهم في هذه الآية أنها نزلت في الوليد بن عقبة . والله أعلم . . [ انتهى كلام ابن كثير في التفسير ] " . .
ومدلول الآية عام ، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق ؛ فأما الصالح فيؤخذ بخبره ، لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة ، وخبر الفاسق استثناء . والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت لأنه أحد مصادره . أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار ، فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة ، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة . والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي ، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداء . وهذا نموذج من الإطلاق والاستثناء في مصادر الأخبار .
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليُحتَاطَ له ، لئلا يحكم بقوله فيكون - في نفس الأمر - كاذبًا أو مخطئًا ، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه ، وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين ، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر ، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق ، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال . وقد قررنا {[27062]} هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة .
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق . وقد روي ذلك من طرق ، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق ، وهو الحارث بن ضِرَار ، والد جُويرية{[27063]} بنت الحارث أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن سابق ، حدثنا عيسى بن دينار ، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي يقول : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها ، وقلت : يا رسول الله ، أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته ، ويُرسل إليَّ رسول الله رسولا لإبَّان كذا وكذا ليأتيك بما جمَعتُ من الزكاة . فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، احتبس عليه الرسول فلم يأته ، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سُخْطة من الله ورسوله ، فدعا بسَرَوات قومه ، فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وَقَّت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخُلْف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت ، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَق - أي : خاف - فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي . فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث . وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفَصَل عن المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا : هذا الحارث ، فلما غشيهم قال لهم : إلى من بُعثتم ؟ قالوا : إليك . قال : ولم ؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة ، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله . قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بَتَّةً ولا أتاني . فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟ " . قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله {[27064]} صلى الله عليه وسلم ، خشيت أن يكون كانت سخطة من الله ورسوله . قال : فنزلت الحجرات : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } إلى قوله : { حكيم }
ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار ، عن محمد بن سابق به . ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق ، به{[27065]} ، غير أنه سماه الحارث بن سرار ، والصواب : الحارث بن ضرار ، كما تقدم .
وقال{[27066]} ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا جعفر بن عَوْن ، عن موسى بن عبيدة ، عن ثابت مولى أم سلمة ، عن أم سلمة قالت : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة {[27067]} ، فسمع بذلك القوم ، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، قالت : فرجع إلى رسول الله{[27068]} فقال : إن بني المصطلق قد منعوني{[27069]} صدقاتهم . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون . قالت : فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصفوا له حين صلى الظهر ، فقالوا : نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله ، بعثت إلينا رجلا مصدقًا ، فسررنا بذلك ، وقرت به أعيننا ، ثم إنه رجع من بعض الطريق ، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله ، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن بصلاة العصر ، قالت : ونزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } {[27070]} .
وروى ابن جرير أيضا من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات ، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لما حُدِّثَ الوليد أنهم خرجوا يتلقونه ، رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا ، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا : يا رسول الله ، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله . وإن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهمّ بهم ، فأنزل الله{[27071]} عذرهم في الكتاب ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } إلى آخر الآية{[27072]} .
وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليُصدّقهم ، فتلقوه بالصدقة ، فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك - زاد قتادة : وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام - فبعث رسول الله خالد بن الوليد إليهم ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل . فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي يعجبه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ، فأنزل الله هذه الآية . قال قتادة : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " التَّبيُّن من الله ، والعَجَلَة من الشيطان " .
وكذا ذكر غير واحد من السلف ، منهم : ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل بن حَيَّان ، وغيرهم في هذه الآية : أنها نزلت في الوليد بن عقبة ، والله أعلم{[27073]} .
{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } فتعرفوا وتصفحوا ، روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم إحنة ، فلما سمعوا به استقبلوه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهم بقتالهم فنزلت . وقيل بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع ، وتنكير الفاسق والنبأ للتعميم ، وتعليق الأمر بالتبين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول خبر العدل من حيث إن المعلق على شيء بكلمة إن عدم عند عدمه ، وأن خبر الواحد لو وجب تبينه من حيث هو كذلك لما رتب على الفسق ، إذ الترتيب يفيد التعليل وما بالذات لا يعلل بالغير . وقرأ حمزة والكسائي فتثبتوا أي فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال . { أن تصيبوا } كراهة إصابتكم . { قوما بجهالة } جاهلين بحالهم . { فتصبحوا } فتصيروا . { على ما فعلتم نادمين } مغتمين غما لازما متمنين أنه لم يقع ، وتركيب هذه الأحرف الثلاثة دائر مع الدوام .