تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

الآية 6 وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنإٍ فتبيّنوا } أجمع أهل التأويل أو عامتهم على أن الآية نزلت في الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط ؛ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصْطَلَق وإلى قوم سواهم لجِباية الصّدقات ، وكان بينه وبين أولئك القوم عداوة في الجاهلية ، فخروا يتلقّونه ، فخافهم ، فرجع ، وقال : إن القوم قد منعوا الصدقات ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بعد ذلك خالد بن الوليد لجباية الصدقات ، فوجدهم يصلّون ، ويعملون الطاعات ، واجتمعوا ، وجمعوا له الصدقات : جبوها{[19643]} ، وسلّموها إليه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، فنزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا } .

لكن إن كان ما ذكروا ، فلم يكن في ذلك النبإ التثبُّت لأن الآية نزلت بعد نبإ الرجل ، وفي الآية الأمر بالتثبّت في نبإ الفاسق في ما يحدث من الأمور من بعد .

فدل أن الآية نزلت لبيان الحكم في نبإ الفاسق ، والله أعلم ، ولأنه يحتمل أن يكون ذلك الرجل منافقا ، ولم يأمر الله تعالى بالتثبّت في خبر المنافق ، ولم يُشرّع ذلك ، لأن النفاق يكون في الضمير ، فلا يظهر ذلك .

فأما الفِسق فإنه يظهر ، فأمرنا بالتثبّت فيه .

فدلّ أن الآية لم تنزل في ذلك الرجل ؛ إذ لا يُحتمل من المنافق أن يزوِّر على المسلمين مثل ما ذُكر منه . دلّ أن ما قاله أهل التأويل فيه وهم .

ثم في الآية دلالة قبول الخبر الواحد ، إذ كان عدلا له ، لأنه لو لم يقبل خبره ، إذا كان عدلا ، لم يكن لذِكر الفسق فائدة سوى الشّتم ، والشّتم سَفَهٌ ، فلا يجوز أن يوصف الله تعالى [ به ]{[19644]} .

فدلّ ذكر الفسق على أن هذا الحكم ، وهو ردّ الشهادة ، مختص باسم الفسق ، وأن العدل لا يشاركه فيه حتى [ لا يكون ]{[19645]} ذكر الفسق سفها لما تعلق به بيان حكم شرعي ، يختص بالفاسق ، ولا يُعرف ذلك دون ذكره .

فأما متى كن الحكم عامّا في الفاسق والعدل عند الانفراد ، فكان ذكر الفاسق مع شتمه ، وأنه لا يليق بالحكمة ، فدلّ [ على ]{[19646]} ما ذكرنا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { أن تصيبوا قوما بجهالة } في الظاهر بسبب تُهمة الفِسق . فأما في الحقيقة فإنه يجوز أن نصيب ذلك بخبر الواحد ، لكن الأحكام وقبول الأخبار في ما بين الخلق لم توضع على الحقائق ، وإنما وُضعت على الظواهر ، وكذلك قبول الشهادات والحُكم بها . وجميع الشرائع التي جُعلت في الناس إنما هو على الظواهر من الأحوال والأمور{[19647]} . فأما على إصابة حقيقة ذلك فلا ؛ إذ قد يجوز أن يحكم الحاكم ، ويقضي بقتل إنسان ، وتُقطَع يده بشهود عنده . لم ظهرت عنده عدالته ، ولم تكن في الحقيقة كذلك .

وعلى ذلك قول يعقوب عليه السلام لبنيه ، { هل آمنُكم عليه إلا كما أمنتُكم على أخيه من قبل } [ يوسف : 64 ] لم يأمن عليه بما ظهر له منهم زلّة وجناية حين طلبوا منه إرساله ولده يوسف عليه السلام في الرّعي ، بل قال هنالك : { إني ليحزُنُني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب } [ يوسف : 13 ] إنما اعتلّ عليهم ، واحتج بأكل الذئب ، ولم يتّهمهم فيه بما لم يكن ظهر له منهم زلّةٌ وجناية . فلما ظهر ذلك منهم اتهمهم وأخبر أنه لا يأمن عليه بما ظهر له من زلّتهم ، فدل أن التُّهمة سبب الرّدّ وأنه يجب التثبُّت لدفع الجهالة من حيث الظاهر{[19648]} للحقيقة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين } أي نادمين بما فعلوا على خلاف ما كان في الظاهر ؛ ويندموا لما تركوا التثبّت في الخبر .


[19643]:في الأصل وم: وجبوها.
[19644]:ساقطة من الأصل وم.
[19645]:ساقطة ن الأصل وم.
[19646]:ساقطة من الأصل وم.
[19647]:من م، في الأصل: الأموال.
[19648]:أدرج بعدها في الأصل وم: لا.