البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة } الآية ، حدث الحرث بن ضرار قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فأسلمت ، وإلى الزكاة فأقررت بها ، فقلت : أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة ، فمن أجابني جمعت زكاته ، فترسل من يأتيك بما جمعت .

فلما جمع ممن استجاب له ، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، واحتبس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لسروات قومه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً إلى من يقبض الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ، ولا أرى حبس الرسول إلا من سخطه .

فانطلقوا بها إليه ، وكان عليه السلام البعث بعث الوليد بن الحارث ، ففرق ، فرجع فقال : منعني الحارث الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث ، فاستقبل الحارث البعث وقد فصل من المدينة ، فقالوا : هذا الحارث ، إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك قال : ولم ؟ فقالوا : بعث إليك الوليد ، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيت رسولك ، ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك خشية أن يكون سخطة من الله ورسوله ، قال : فنزلت هذه الآية .

وفاسق وبنبأ مطلقان ، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل ، وتقدم قراءة فتبينوا وفتثبتوا في سورة النساء ، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق ، ولا يبنى عليه حكم .

وجاء الشرط بحرف إن المقتضي للتعليق في الممكن ، لا بالحرف المقتضي للتحقيق ، وهو إذا ، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب ، إنما كان على سبيل الندرة .

وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم ، ونبأ ما يترتب على كلامه .

فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت ، كف عن مجيئهم بما يريد .

{ أن تصيبوا } : مفعول له ، أي كراهة أن يصيبوا ، أو لئلا تصيبوا ، { بجهالة } حال ، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق ، { فتصبحوا } : فتصيروا ، { على ما فعلتم } : من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق ، { نادمين } : مقيمين على فرط منكم ، متمنين أنه لم يقع .

ومفهوم { إن جاءكم فاسق } : قبول كلام غير الفاسق ، وأنه لا يتثبت عنده ، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل .

وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « التثبت من الله والعجلة من الشيطان » وقال مقلد بن سعيد : هذه الآية ترد علي من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول . انتهى .

وليس كما ذكر ، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق ، لا مجيء المسلم ، بل بشرط الفسق .

والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقاً ، فالاحتياط لازم .