فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } قرأ الجمهور من التبين وقرئ فتثبتوا من التثبيت ، والمراد من التبين التعرف والتفحص ومن التثبت الإفادة وعدم العجلة ، والتبصر بالأمر الواقع ، والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر ، وفي تنكير الفاسق والنبأ شياع في الفساق والأنباء كأنه قال : أي فاسق جاءكم بأي نبأ فتوقفوا فيه ، وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ، ولا تعتمدوا على قول الفساق لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه والفسوق الخروج من الشيء يقال فسقت الرطبة عن قشرها ، ومن مقلوبه فقست البيضة إذا كسرتها ، وأخرجت ما فيها من بياضها وصفرتها ؛ ومن مقلوبه أيضا فقست الشيء إذا أخرجته من يد مالكه مغتصبا له ، عليه ، ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر قال المفسرون إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط كما سيأتي بيانه .

{ أن } أي كراهة أن أو لئلا { تصيبوا } بالقتل والأسر { قوما بجهالة } لأن الخطأ ممن لم يتبين الأمر ولم يثبت فيه هو الغالب ، وهو جهالة ، لأنه لم يصدر عن علم والمعنى متلبسين بجهالة بحالهم { فتصبحوا على ما فعلتم } بهم من إصابتهم بالخطأ { نادمين } على ذلك مغتمين له ، مهتمين به ، وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد العدل ، لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق ، ولخلا التخصيص به عن الفائدة .

عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : " قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه ، وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت : يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام ، وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته ، وترسل إلى يا رسول الله رسولا إبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة ، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أن قد حدث فيه سخط من الله ورسوله ، فدعا سروات قومه فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ، ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وسلم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا : هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك قال : ولم ؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ، ولا أتاني ، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : منعت الزكاة وأوردت قتلي يا رسولي ؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ، ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله فنزلت { يا أيها الذين آمنوا } إلى قوله { حكيم } " {[1521]} أخرجه أحمد وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن منده وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند جيد قال ابن كثير هذا من أحسن ما روي في سبب نزول الآية .

وقد رويت روايات كثيرة متفقة على أنه سبب نزول الآية ، وأنه المراد بها وإن اختلفت القصص ثم وعظهم الله سبحانه فقال :

{ واعلموا أن فيكم رسول الله } فلا تقولوا قولا باطلا ولا تتسرعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبين ، فإن الله يخبره فينهتك ستر الكاذب ، أو فارجعوا إليه واطلبوا رأيه ، ثم قال مستأنفا : { لو يطيعكم في كثير من الأمر } أي : مما تخبرونه من الأخبار الباطلة ، وتشيرون به عليه من الآراء التي ليست بصواب { لعنتم } أي : لوقعتم في العنت وهو التعب والجهد والإثم والهلاك ، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له ، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه .


[1521]:رواه أحمد.