{ يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ } أخرج أحمد . وابن أبي الدنيا . والطبراني . وابن منده . وابن مردويه بسند جيد عن الحرث بن أبي ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلى يا رسول الله رسولاً لإبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة فلما جمع الحرث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحرث أن قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فدعا سروات قومه فقال لهم : رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندنا من الزكاة وليس من رسول الله عليه الصلاة والسلام الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان رضي الله تعالى عنه لأمه إلى الحري ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما إن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الحرث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحرث فأقبل الحرث بأصحابه حتى إذا استقبله الحرث وقد فصل عن المدينة قالوا : هذا الحرث فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك قال : ولم ؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحرث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني ولا أقبلت إلا حين احتبس على رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يكون سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فنزل : { يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ } إلى قوله سبحانه : { حَكِيمٌ } [ الحجرات : 6 8 ] وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إن بني فلان حياً من أحياء العرب وكان في نفسه عليهم شيء وكار حديث عهد بالإسلام قد تركوا الصلاة وارتدوا وكفروا بالله تعالى فلم يعجل رسول الله عليه الصلاة والسلام ودعا خالد بن الوليد فبعثه إليهم ثم قال : ارمقهم عند الصلوات فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم وإلا فلا تعجل عليهم فدنا منهم عند غروب الشمس فكمن حتى يسمع الصلاة فرمقهم فإذا هو بالمؤذن قد قام عند غروب الشمس فأذن ثم أقام الصلاة فصلوا صلاة المغرب فقال خالد : ما أراهم إلا يصلون فلعلهم تركوا صلاة غير هذه ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذن مؤذنهم فصلوا فقال : لعلهم تركوا صلاة أخرى فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدم حتى أطل الخيل بدورهم فإذا القوم تعلموا شيئاً من القرآن فهم يتهجدون به من الليل ويقرؤنه ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذن وأقام فقاموا وصلوا فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم فقالوا : ما هذا ؟ قالوا : خالد بن الوليد قالوا : يا خالد ما شأنك ؟ قال : أنتم والله شأني أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : إنكم تركتم الصلاة وكفرتم بالله تعالى فجثوا يبكون فقالوا : نعوذ بالله تعالى أن نكفر أبداً فصرف الخيل وردها عنهم حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } الآية قال الحسن : فوالله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنها المرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء ، والرواية السابقة أصح وأشهر ، وكلام صاحب الكشف مصرح بأن بعث خالد بن الوليد كان في قضية الوليد بن عقبة ، وأن النبي عليه الصلاة والسلام بعثه إلى أولئك الحي من خزاعة بعد رجوع الوليد وقوله ما قال ، والقائل بذلك قال : إنهم سلموا إليه الصدقات فرجع ، والخطاب بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } شامل للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أمته الكاملين منهم محاسن آداب وغيرهم ، وتخصيص الخطاب بحسب ما يقع من الأمر بعد إذ يليق بحال بعضهم لا يخرجه عن العموم لوجوده فيما بينهم فلا تغفل ، والفاسق الخارج عن حجر الشرع من قولهم : فسق الرطب إذا خرج عن قشره ، قال الراغب : والفسق أعم من الكفر ويقع بالقليل من الذنوب وبالكثير لكن تعورف فيما كانت كثيرة ، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقربه ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضها ، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة .
ووصف الإنسان به على ما قال ابن الأعرابي لم يسمع في كلام العرب ، والظاهر أن المراد به هنا المسلم المخل بشيء من أحكام الشرع أو المروءة بناءً على مقابلته بالعدل وقد اعتبر في العدالة عدم الإخلال بالمروءة ، والمشهور الاقتصار في تعريفه على الإخلال بشيء من أحكام الشرع فلا تغفل ، والتبين طلب البيان والتعرف ؛ وقريب منه التثبت كما في قراءة ابن مسعود .
وحمزة . والكسائي { فتثبتوا } وهو طلب الثبات والتأني حتى يتضح الحال .
وقد أخرج عبد بن حميد . وابن جرير عن قتادة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم نزلت الآية : التثبت من الله تعالى والعجلة من الشيطان " وتنكير { فَاسِقُ } للتعميم لأنه نكرة في سياق الشرط وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرر في الأصول وكذا نبأ ، وهو كما في «القاموس » الخبر ، وقال الراغب : لا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ، وقوله تعالى : { إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ } تنبيه على أنه إذا كان الخبر شيئاً عظيماً وماله قدر فحقه أن يتوقف فيه وإن علم أو غلب صحته على الظن حتى يعاد النظر فيه ويتبين فضل تبين ، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة قيل : { أَن جَاءكُمْ } بحرف الشك ، وفي النداء { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } دلالة على أن الإيمان إذا اقتضى التثبت في نبأ الفاسق فأولى أن يقتضي عدم الفسق ، وفي إخراج الفاسق عن الخطاب ما يدل على تشديد الأمر عليه من باب «لا يزني الزاني وهو مؤمن » والمؤمن لا يكذب ، واستدل بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة ، ألا ترى أن العبد إذا شهد ترد شهادته ولا يتثبت فيها خلافاً للشافعي ، وعلى جواز قبول خبر العدل الواحد ، وقرره الأصوليون بوجهين . أحدهما : أنه لو لم يقبل خيره لما كان عدم قبوله معللاً بالفسق ، وذلك لأن خبر الواحد على هذا التقدير يقتضي عدم القبول لذاته وهو كونه خبر واحد فيمتنع تعليل عدم قبوله بغيره لأن الحكم المعلل بالذات لا يكون معللاً بالغير إذ لو كان معللاً به اقتضى حصوله به مع أنه حاصل قبله لكونه معللاً بالذات وهو باطل لأنه تحصيل للحاصل أو يلزم توارد علتين على معلول واحد في خبر الفاسق ، وامتناع تعليله بالفسق باطل للآية فإن ترتب الحكم على الوصف المناسب يغلب على الظن أنه علة له والظن كاف هنا لأن المقصود هو العمل فثبت أن خبر الواحد ليس مردوداً وإذا ثبت ذلك ثبت أنه مقبول يعمل به . ثانيهما : أن الأمر بالتبين مشروط بمجيء الفاسق ومفهوم الشرط معتبر على الصحيح فيجب العمل به إذا لم يكن فاسقاً لأن الظن يعمل به هنا ، والقول بالواسطة منتف ؛ والقول بأنه يجوز اشتراك أمور في لازم واحد فيعلق بكل منهما بكلمة إن مع أنه لا يلزم من انتفاء ذلك الملزوم انتفاء اللازم غير متوجه لأن الشرط مجموع تلك الأمور وكل واحد منها لا يعد شرطاً على ما قرر في الأصول .
نعم قال ابن الحاجب . وعضد الدين : قد استدل من قبلنا على وجوب العمل بخبر الواحد بظواهر لا تفيد إلا الظن ولا يكفي في المسائل العلمية وذكراً من ذلك الآية المذكورة ، ثم إن للقائلين بوجوب العمل به اختلافاً كثيراً مذكوراً في محله .
واستدل الحنفية بها على قبول خبر المجهول الذي لا تعلم عدالته وعدم وجوب التثبت لأنها دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت فإذا انتفى الفسق انتفى وجوبه وههنا قد انتفى الفسق ظاهراً ونحن نحكم به فلا يجب التثبت .
وتعقب بأنا لا نسلم أنه ههنا انتفى الفسق بل انتفى العلم به ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه والمطلوب العلم بانتفائه ولا يحصل إلا بالخبرة به أو بتزكية خبير به له ، قال العضد : إن هذا مبني على أن الأصل الفسق أو العدالة والظاهر أنه الفسق لأن العدالة طارئة ولأنه أكثر . واستدل بها على أن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من ليس بعدل لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة فيها ، فإن سبب النزول قطعي الدخول وهو صحابي بالاتفاق فيرد بها على من قال : إنهم كلهم عدول ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة ، وهذا أحد أقوال في المسألة وقد ذهب إليه الأكثر من العلماء السلف والخلف . وثانيهما : أنهم كغيرهم فيبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهرها أو مقطوعها كالشيخين . وثالثها : أنهم عدول إلى قتل عثمان رضي الله تعالى عنه ويبحث عن عدالتهم من حين قتله لوقوع الفتن من حينئذٍ وفيهم الممسك عن خوضها . ورابعها : أنهم عدول إلا من قاتل علياً كرم الله تعالى وجهه لفسقه بالخروج على الإمام الحق وإلى هذا ذهبت المعتزلة .
والحق ما ذهب إليه الأكثرون وهم يقولون : إن من طرأ له منهم قادح ككذب أو سرقة أو زنا عمل بمقتضاه في حقه إلا أنه لا يصر على ما يخل بالعدالة بناءً على ما جاء في مدحهم من الآيات والأخبار وتواتر من محاسن الآثار ، فلا يسوغ لنا الحكم على من ارتكب منهم مفسقاً بأنه مات على الفسق ، ولا ننكر أن منهم من ارتكب في حياته مفسقاً لعدم القول بعصمتهم وأنه كان يقال له قبل توبته فاسق لكن لا يقال باستمرار هذا الوصف فيه ثقة ببركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ومزيد ثناء الله عز وجل عليهم كقوله سبحانه : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا } [ البقرة : 143 ] أي عدولاً وقوله سبحانه : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] إلى غير ذلك ، وحينئذٍ أن أريد بقوله : إن من الصحابة من ليس بعدل إن منهم من ارتكب في وقت ما ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه مسلمة لكن ذلك ليس محل النزاع ، وإن أريد به أن منهم من استمر على ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه غير مسلمة كما لا يخفى فتدبر فالمسألة بعد تتحمل الكلام وربما تقبل زيادة قول خامس فيها .
هذا ثم اعلم أن الفاسق قسمان فاسق غير متأول وهو ظاهر ولا خلاف في أنه لا يقبل خبره وفاسق متأول كالجبري والقدري ويقال له المبتدع بدعة واضحة ، فمن الأصوليين من رد شهادته وروايته للآية ومنهم الشافعي . والقاضي ، ومنهم من قبلهما ، أما الشهادة فلأن ردها لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه بل هو إمارة الصدق لأن موقعه فيه تعمقه في الدين ، والكذب حرام في كل الأديان لاسيما عند من يقول بكفر الكاذب أو خروجه من الإيمان وذلك يصده عنه إلا من يدين بتصديق المدعي المتحلي بحليته كالخطابية ، وكذا من اعتقد بحجية الإلهام ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " نحن نحكم بالظاهر " وأما الرواية فلأن من احترز عن الكذب على غير الرسول صلى الله عليه وسلم فاحترازه من الكذب عليه صلى الله عليه وسلم أولى إلا من يعتقد حل وضع الأحاديث ترغيباً أو ترهيباً كالكرامية أو ترويجاً لمذهبه كابن الراوندي ، وأصحابنا الحنفية قبلوا شهادتهم لما مر دون روايتهم إذا دعوا الناس إلى هواهم ، وعلى هذا جمهور أئمة الفقه والحديث لأن الدعوة إلى ذلك داعية إلى النقول فلا يؤتمنون على الرواية ولا كذلك الشهادة . ورجح ما ذهب إليه الشافعي والقاضي بأن الآية تقتضيه والعمل بها أولى من العمل بالحديث لتواترها وخصوصها ، والعام يحتمل التخصيص ولأنها لم تخصص إذ كل فاسق مردود ، والحديث خص منه خبر الكافر . وأجيب بأن مفهومها أن الفسق هو المقتضي للتثبت فيراد به ما هو إمارة الكذب لا ما هو إمارة الصدق فافهم ، وليس من الفسق نحو اللعب بالشطرنج من مجتهد يحله أو مقلد له صوبنا أو خطأنا لوجوب العمل بموجب الظن ولا تفسيق بالواجب .
وحد الشافعي عليه الرحمة شارب النبيذ ليس لأنه فاسق بل لزجره لظهور التحريم عنده ، ولذا قال : أحده وأقبل شهادته ، وكذا الحد في شهادة الزنا لعدم تمام النصاب لا يدل على الفسق بخلافه في مقام القذف فليحفظ .
{ أَنْ تُصيبُواْ } تعليل للأمر بالتبين أي فتبينوا كراهة أن تصيبوا أو لئلا تصيبوا { قَوْماً } أي قوم كانوا { بجهالة } ملتبسين بجهالة لحالهم ، ومآله جاهلين حالهم ، { فَتُصْبِحُواْ } فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما رموا به { على مَا فَعَلْتُمْ } في حقهم { نادمين } مغتمين غماً لازماً متمنين أنه لم يقع ، فإن الندم الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه ، ويشعر باللزوم وكذا سائر تصاريف حروفه وتقاليبها كمدن بمعنى لزم الإقامة ومنه المدينة وأدمن الشيء أدام فعله ، وزعم بعضهم أن في الآية إشارة إلى أنه يجب على الإنسان تجديد الندم كلما ذكر الذنب ونسب إلى الزمخشري وليس بشيء ، وفي «الكشف » التحقيق أن الندم غم خاص ولزومه قد يقع لقوته في أول الأمر وقد يكون لعدم غيبة موجبه عن الخاطر ، وقد يكون لكثرة تذكره ولغير ذلك من الأسباب ، وأن تجديد الندم لا يجب في التوبة لكن التائب الصادق لا بد له من ذلك .
ومن باب الإشارة : وقوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ } يشير إلى أنه إن سولت النفس الأمارة بالسوء وجاءت بنبأ شهوة من شهوات الدنيا ينبغي التثبت للوقوف على ربحها وخسرانها { أن تصيبوا قَوْماً } من القلوب وصفاتها { بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ } صباح يوم القيامة { على مَا فَعَلْتُمْ نادمين } [ الحجرات : 6 ] فإن ما فيه شفاء النفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها