ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف ، فقال : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
أي : مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا ، أي : كان في ظلمة عظيمة ، وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره ، ولم تكن عنده معدة ، بل هي خارجة عنه ، فلما أضاءت النار ما حوله ، ونظر المحل الذي هو فيه ، وما فيه من المخاوف وأمنها ، وانتفع بتلك النار ، وقرت بها عينه ، وظن أنه قادر عليها ، فبينما هو كذلك ، إذ ذهب الله بنوره ، فذهب عنه النور ، وذهب معه السرور ، وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة ، فذهب ما فيها من الإشراق ، وبقي ما فيها من الإحراق ، فبقي في ظلمات متعددة : ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة المطر ، والظلمة الحاصلة بعد النور ، فكيف يكون حال هذا الموصوف ؟ فكذلك هؤلاء المنافقون ، استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين ، ولم تكن صفة لهم ، فانتفعوا بها{[56]} وحقنت بذلك دماؤهم ، وسلمت أموالهم ، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا ، فبينما هم على ذلك{[57]} إذ هجم عليهم الموت ، فسلبهم الانتفاع بذلك النور ، وحصل لهم كل هم وغم وعذاب ، وحصل لهم ظلمة القبر ، وظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظُلَمُ{[58]} المعاصي على اختلاف أنواعها ، وبعد ذلك ظلمة النار [ وبئس القرار ] . فلهذا قال تعالى [ عنهم ] : { صُمٌّ }
ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية . .
ذلك أن كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء وفيه بساطة على معنى من المعاني . . الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها ، والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها . أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة . وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات ، ومزيد من الخطوط كيما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة . .
على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة ، ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه ؛ كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم ، ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم .
وزيادة في الإيضاح ، يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه الطائفة ويكشف عن طبيعتها ، وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا :
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ( 17 ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( 18 )
إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء ، ولم يصموا آذانهم عن السماع ، وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك ، كما صنع الذين كفروا . ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه . . لقد استوقدوا النار ، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها . عندئذ ( ذهب الله بنورهم ) الذي طلبوه ثم تركوه : ( وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) جزاء إعراضهم عن النور !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ضرب الله للمنافقين مثلا، فقال عز وجل: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله} طفئت ناره، يقول الله عز وجل: مثل المنافق إذا تكلم بالإيمان كان له نور بمنزلة المستوقد نارا يمشي بضوئها ما دامت ناره تتقد، فإذا ترك الإيمان كان في ظلمة كظلمة من طفئت ناره، فقام لا يهتدي ولا يبصر، فذلك قوله سبحانه: {ذهب الله بنورهم}، يعني بإيمانهم، نظيرها في سورة النور: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} (النور: 40)، يعني به الإيمان... {وتركهم في ظلمات}، يعني الشرك، {لا يبصرون} الهدى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به قولاً وهم به مكذّبون اعتقادا، كمثل استضاءة الموقد نارا.
عن ابن عباس، قال: ضرب الله للمنافقين مثلاً فقال:"مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ" أي يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق...
عن ابن عباس: "مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا "إلى آخر الآية. هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات، يقول في عذاب... عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ": زعم أن أناسا دخلوا في الإسلام مَقْدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشرّ. فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر.
وأما النور فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت الظلمة نفاقهم.
وقوله: "ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ" قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به.
وأما الظلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم، يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك...
عن قتادة قوله: "مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلّمَا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ" وإن المنافق تكلم بلا إلَه إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين، وغازى بها المسلمين، ووارث بها المسلمين، وحقن بها دمه وماله. فلما كان عند الموت سُلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في علمه...
عن مجاهد في قول الله: "مَثَلَهُمُ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أَضَاءَتْ ما حَوْلَهُ" قال: أما إضاءة النار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضلالة...
عن الربيع بن أنس، قال: ضرب مثل أهل النفاق فقال: "مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا" قال: إنما ضوء النار ونورها ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، كذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة...
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة والضحاك، وما رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما ضرب هذا المثل للمنافقين الذين وصف صفتهم وقصّ قصصهم من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله: "ومِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا باللّهِ وبَاليَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ" لا المعلنين بالكفر المجاهرين بالشرك... فإذا كان الأمر على ما وصفنا في ذلك، فأولى تأويلات الآية بالآية: مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به، وقولهم له وللمؤمنين: آمَنا باللّهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ، حتى حُكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين في حقن الدماء والأموال والأمن على الذرية من السباء، وفي المناكحة والموارثة، كمثل استضاءة الموقد النار بالنار، حتى إذا ارتفق بضيائها، وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلمة، خمدت النار وانطفأت، فذهب نوره، وعاد المستضيء به في ظلمة وحيرة. وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه في حياته القتل والسباء مع استبطانه ما كان مستوجبا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه، تُخيّل إليه بذلك نفسه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادع، حتى سوّلت له نفسه، إذ ورد على ربه في الآخرة، أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ثم أخبرهم عند ورودهم عليه: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُمْ على شَيْءٍ ألاَ إِنّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} ظنا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الاَخرة في مثل الذي كان به نجاتهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا من الكذب والإفك، وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم في الدنيا. حتى عاينوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال، واستهزاء بأنفسهم وخداع، إذ أطفأ الله نورهم يوم القيامة فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم، فقيل لهم: "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا" واصلوا سعيرا. فذلك حين ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، كما انطفأت نار المستوقد النار بعد إضاءتها له، فبقي في ظلمته حيران تائها يقول الله جل ثناؤه: "يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ والمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يُنادونَهُمْ ألَم نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنّكُمْ فَتَنْتُمْ أنْفُسَكُمْ وَتَرَبّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرّتْكُمُ الأمانِيّ حتى جاءَ أمْرُ اللّهِ وَغَرَكُمْ باللّهِ الغَرُورُ فاليَوْمَ لا يُؤْخَذُ منْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ المَصِير" [الحديد،13-15].
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... كأنَّ ما حصلوا فيه من الظلمة بعد الضياء أسوأ حالاً، لأن من طُفِئَت عنه النار حتى صار في ظلمة، فهو أقل بصراً ممن لم يزل في الظلمة، وهذا مَثَل ضربه الله تعالى للمنافقين.
وفيما كانوا فيه من الضياء، وجعلوا فيه من الظلمة قولان:
أحدهما: أن ضياءهم دخولهم في الإسلام بعد كفرهم، والظلمة خروجهم منه بنفاقهم.
والثاني: أن الضياء يعود للمنافقين بالدخول في جملة المسلمين، والظلمة زوالُهُ عنهم في الآخرة، وهذا قول ابنِ عباسٍ وقتادةَ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما جاء بحقيقة صفتهم، عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان. ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد. وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبيّ، ولأمر مّا أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء. قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون} [العنكبوت: 43]. والمثل في أصل كلامهم: بمعنى المثل، وهو النظير. يقال: مثل ومثل ومثيل، كشبه وشبه وشبيه. ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده: مثل. ولم يضربوا مثلاً، ولا رأوه أهلا للتسيير، ولا جديراً بالتداول والقبول، إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه. ومن ثمّ حوفظ عليه وحمى من التغيير.
فإن قلت: ما معنى مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً، وما مثل المنافقين ومثل الذي استوقد ناراً حتى شبه أحد المثلين بصاحبه؟ قلت: قد استعير المثل استعارة الأسد للمقدام، للحال أو الصفة أو القصة، إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً. وكذلك قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] أي وفيما قصصنا عليك من العجائب: قصة الجنة العجيبة. ثم أخذ في بيان عجائبها. {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60]: أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة. {مَثَلُهُمْ في التوراة} [الفتح: 29] أي صفتهم وشأنهم المتعجب منه. ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا: فلان مثلة في الخير والشر، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن. فإن قلت: فما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى في قوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ}؟ قلت: إذا طفئت النار بسبب سماوي ريح أو مطر، فقد أطفأها الله تعالى وذهب بنور المستوقد. ووجه آخر، وهو أن يكون المستوقد في هذا الوجه مستوقد نار لا يرضاها الله. ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام، وتلك النار متقاصرة مدّة اشتعالها قليلة البقاء. ألا ترى إلى قوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} [المائدة: 64]، وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي، ويتهدوا بها في طرق العبث، فأطفأها الله وخيب أمانيهم.
فإن قلت: هلا قيل ذهب الله بضوئهم؟ لقوله: {فَلَمَّا أَضَاءتْ}؟ قلت: ذكر النور أبلغ؛ لأنّ الضوء فيه دلالة على الزيادة. فلو قيل: ذهب الله بضوئهم، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، والغرض إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلاً. ألا ترى كيف ذكر عقيبه {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات} والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه، وكيف جمعها، وكيف نكرها، وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله: {لاَّ يُبْصِرُونَ}.
فإن قلت: فلم وصفت بالإضاءة؟ قلت: هذا على مذهب قولهم: للباطل صولة ثم يضمحل. ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت، ونار العرفج مثل لنزوة كل طماح. والفرق بين أذهبه وذهب به، أن معنى أذهبه: أزاله وجعله ذاهباً. ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه. وذهب السلطان بماله: أخذه (فلما ذهبوا به)، {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91]. ومنه: ذهب به الخيلاء. والمعنى: أخذ الله نورهم وأمسكه، {وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ} [فاطر: 2] فهو أبلغ من الإذهاب. وقرأ اليماني: أذهب الله نورهم.
وترك: بمعنى طرح وخلى، إذا علق بواحد، كقولهم: تركه ترك ظبي ظله. فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير، فيجري مجرى أفعال القلوب، ومنه قوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات} أصله: هم في ظلمات.
والظلمة عدم النور... واشتقاقها من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا: أي ما منعك وشغلك، لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية...
فإن قلت: وأين الإضاءة في حال المنافق؟ وهل هو أبداً إلا حائر خابط في ظلماء الكفر؟ قلت: المراد ما استضاءوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله وظلمة العقاب السرمد.
ويجوز أن يشبه بذهاب الله بنور المستوقد اطلاع الله على أسرارهم وما افتضحوا به بين المؤمنين واتسموا به من سمة النفاق.
والأوجه أن يراد الطبع. لقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ}.
وفي الآية تفسير آخر: وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
وفي ضرب المثل لهم بالنار... حكم:
إحداها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم؛ كان نور إيمانهم كالمستعار.
والثانية: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب، فهو له كغذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة الاعتقاد ليدوم...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
قال سبحانه وتعالى: {ذهب الله بنورهم} ولم يقل: ذهب نورهم. وفيه سر بديع: وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى، فإن الله تعالى مع المؤمنين، و {إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153] و {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 168]. فذهاب الله بذلك النور انقطاع المعية التي خص بها أولياءه، فقطعها بينه وبين المنافقين فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم، فليس لهم نصيب من قوله: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] ولا من {كلا إن معي ربي سيهدين} [الشعراء: 62]
وتأمل قوله تعالى: {أضاءت ما حوله} كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا؟ ولو اتصل ضوءها به ولابسه لم يذهب، ولكنه كان ضوءه مجاورة، لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية. فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به، حجة من الله قائمة. وحكمة بالغة، تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده.
وتأمل قوله: {ذهب الله بنورهم} ولم يقل «بنارهم» ليطابق أول الآية. فإن النار فيها إشراق وإحراق، فذهب بما فيها من الإشراق -وهو النور- وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وهو النارية.
وتأمل كيف قال: {بنورهم} ولم يقل بضوئهم، مع قوله: {فلما أضاءت ما حوله} لأن الضوء هو زيادة في النور، فلو قال: ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط، دون الأصل. فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته. وأيضا: فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم من أهل الظلمات، الذين لا نور لهم. وأيضا: فإن الله تعالى سمى كتابه نورا، ورسوله نورا، ودينه نورا، ومن أسمائه سبحانه وتعالى «النور»، والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم: ذهاب بهذا كله. وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} كيف طابق بين هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها، وبدل الهدى في مقابلتها، وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها، بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور، فبدلوا الهدى والنور، وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة، فيا لها من تجارة ما أخسرها! وصفقة ما أشد غبنها! طريق الحق واحد:
وتأمل كيف قال الله تعالى: {ذهب الله بنورهم} فوحده، ثم قال: {وتركهم في ظلمات} فجمعها. فإن الحق واحد، وهو «صراط الله المستقيم»، الذي لا صراط يوصل إليه سواه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بالأهواء والبدع، وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الهدى ودين الحق، بخلاف طرق الباطل، فإنها متعددة متشعبة، ولهذا يفرد سبحانه الحق ويجمع الباطل. كقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} [البقرة:257]، وقال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] فجمع سبيل الباطل، ووحد سبيل الحق.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أقول: المثل –بفتحتين- والمثل بالكسر والمثيل كالشبه والشبه والشبيه وزنا ومعنى في الجملة، وهو من مثل الشيء مثولا إذا انتصب بارزا فهو ماثل. ومثل الشيء – بالتحريك – صفته التي توضحه وتكشف عن حقيقته أو ما يراد بيانه من نعومته وأحواله. ويكون حقيقة ومجازا، وأبلغه: تمثيل المعاني المعقولة بالصور الحسية وعكسه ومنه الأمثال المضروبة وتسمى الأمثال السائرة، وسيأتي تحقيق معناها في تفسير {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما} ومنه ما يسميه البيانيون الاستعارة التمثيلية وهو خاص بالمجاز. والتمثيل مثل أساليب البلاغة وأشدها تأثيرا في النفس وإقناعا للعقل، قال تعالى {29: 43 وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} وما رأيت أحدا من علماء البلاغة وفاه حقه من البيان المقنع إلا إمامهم الشيخ عبد القهار الجرجاني في كتابه (أسرار البلاغة). وهاك ما كنت كتبت في تفسير هذا المثل ثم ما بعده إجمالا ثم تفصيلا، مقتبسا معانيه من دروس أستاذنا الإمام:
هذا مثل من مثلين ضربهما الله في هذه الآيات للصنف الثالث من الناس الذين قرع القرآن أبواب قلوبهم. وكان من عناية الله تعالى في بيان حاله أن قفّى على ذلك التفصيل في شر فرقه وأطوارهم بضرب المثل الذي يقصد به تجلى المعنى في أتم مجاليه، وتأثر النفوس بما أودع فيه، ناهيك بما في التنقل في الأساليب من توجيه الذهن إلى سابق القول ودعوة الفكر إلى مراجعة ما مضى منه. ولولا أن بلاء هذا الصنف عظيم، وداءه دفين، وعلاجه متعسر – لأنه متولد من الدواء الذي كان يجب أن تكون فيه الصحة ونعمة العافية – لما كان من البلاغة ولا من الحكمة، أن يعني بشأنه كل هذه العناية، كما قلنا في تزييف رأي من ذهب إلى أن الكلام في تلك الشرذمة من المنافقين في عصر التنزيل ضرب الله تعالى لهذا الصنف في مجموعه مثلين، ينبئان بانقسامه إلى فريقين، خلافا لما في أكثر التفاسير في أن المثلين لفريق واحد، وأن معناهما وموضوعهما واحد.
(الأول) من آتاهم الله دينا وهداية عمل بها سلفهم فجنوا ثمرها، وصلح حالهم بها، أيام كانوا مستقيمين على الطريقة، آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرا وباطنا، ولم ينظروا في حقائق ما جاءهم، بل ظنوا أن ما كان عند سلفهم من نعمة وسعادة إنما كان أمرا خصوا به، أو خيرا سيق إليهم، لظاهر قول أو عمل امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ذلك العمل لم يخالط سرائرهم، ولم تصلح به ضمائرهم، فأخذوا بتقاليد وعادات لم تدع في نفوسهم مجالا لغيرها، ولذلك لم يتفكروا قط في كونهم أحرى بالتمتع بتلك السعادة والسيادة من سلفهم، لأن حفظ الموجود، أيسر من إيجاد المفقود، بل لم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اقتدى من قبلهم بما فيه من شموس العرفان، ونجوم الفرقان، لزعمهم أن فهمه لا يرتقي إليه إلا أفراد من رؤساء الدين، يؤخذ بأقوالهم ما وجدوا، وبكتبهم إذا فقدوا.
فمثل هذا الفريق من الصنف المخذول في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية، وحرمانه من الاهتداء بها بالمرة، وانطماس الآثار دونها عنده – مثل من استوقد نارا الخ. والوجه في التمثيل: أن من يدعي الإيمان بكتاب نزل من عند ربه قد طلب بذلك الإيمان أن توقد له نار يهتدي بها في الشبهات، ويستضئ بها في ظلمات الريب والمشكلات، ويبصر على ضوئها ما قد يهجم عليه من مفترسة الأهواء والشهوات، فلما أضاءت ما حوله بما أودعته من الهدى والرشاد، وكاد بالنظر فيها يمشي على هداية وسداد – هجمت عليه من نفسه ظلمة التقليد الخبيث، وعصب عينيه شيطان الغرور، فذهب عنه ذلك النور، وأطبق عليه جو الضلالة بل طفئ فيه نور الفطرة، وتعطلت قوى الشعور بما بين يديه، فهم بمنزلة الأعمى الأصم الذي لا يبصر ولا يسمع.
وأما الفريق الثاني فقد ضرب الله له المثل في قوله {أو كصيب من السماء} الخ، وهو الذي بقي له بصيص من النور، فله نظرات ترمي إلى ما بين يديه من الهداية أحيانا، ولمعاني التنزيل يسطع على نفسه الفينة بعد الفينة، ويتألق في نظره الحين بعد الحين، عند ما تحركه الفطرة، أو تدفعه الحوادث للنظر فيما بين يديه، ولكنه من التقاليد والبدع في ظلمات حوالك، ومن الخبط فيها على حال لا تخلو من المهالك، وهو في تخبطه يسمع قوارع الإنذار الإلهي ويبرق في عينيه نورا لهداية، فإذا أضاء له ذلك البرق السماوي سار، وإذا انصرف عنه بشبه الضلالات الغرارة قام وتحير لا يدري أين يذهب. ثم إنه ليعرض عن سماع نذر الكتاب ودعاة الحق، كمن يضع إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع إرشاد المرشد ولا نصح الناصح، يخاف من تلك القوارع أن تقتله، ومن صواعق النذر أن تهلكه هذا هو شأن فريقي هذا الصنف بما يشير إليه المثلان إجمالا.
وفي تفسير الآيات تفصيل ما أشرنا إليه.
قال تعالى {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} العرب تستعمل لفظ "الذي "في الجمع كلفظي "ما" و "من" ومنه قوله تعالى {9: 69 وخضتم كالذي خاضوا} وإن شاع في "الذي" الإفراد لأن له جمعا وقد روعي في قوله "استوقد" لفظه، وفي قوله "ذهب الله بنورهم" معناه، والفصيح فيه مراعاة اللفظ أولا، ومراعاة المعنى آخرا. والتفنن في إرجاع الضمائر متفرعة ضرب من استعماله البلغاء، يقرر المعنى في الذهن ويهبه فضل تمكن وتأكيد، بما يحدث فيه من الروية والتوجه إلى الإحاطة بمعاني المختلفات.
أقول: استوقد النار طلب وقودها بفعله أو فعل غيره، وقالوا: إنه بمعنى أوقدها ويرجع إلى الأول بأنه طلب بإضرامها وإيرائها أن تقد. يقال: وقدت النار تقد وتوقدت واتقدت واستوقدت – لازم – ومعني الجملة في منافقي اليهود قد تقدم آنفا بالإجمال، وسيجيء تفصيله. وأما منافقو العرب – الذين قال تعالى فيهم من سورتهم {63: 3 ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا} الآية – فيقال فيهم: مثلهم وصفتهم في إسلامهم أولا وكفرهم آخرا كمثل فريق من الناس أوقد نارا لينتفع بها في ليلة حالكة الظلام، ويبصر ما حوله مما عساه يضره ليتقيه، أو ينفعه ليجتنيه.
{فلما أضاءت ما حوله} يقال ضاءت النار والشمس وأضاءت – لازم – ويقال ضاء المكان وأضاءته النار أي أظهرته بضوئها. قال العباس رضي الله عنه في النبي صلى الله عليه وسلم:
أنت لما ظهرت أشرقت الأر *** ض وضاءت بنورك الأفق
والمعنى المتبادر: فلما أضاءت النار ما حوله من الأمكنة والأشياء وتمكن من الانتفاع والاستضاءة بنورها {ذهب الله بنورهم} بإطفاء نارهم بنحوه مطر شديد نزل عليها، أو عاصف من الريح جرفها وبددها، وهذا بالنسبة إلى المثل، وأما بالنسبة إلى المضروب فيهم المثل من العرب، فالنور نور الإسلام الذي أضاء قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين {39: 22 أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} وذهابه في الدنيا ما عرض لهم من الشك أو الجزم بالكفر حتى لم يعودوا يدركون منافعه وفضائله، وأما ذهابه بعدها فأوله الموت. فإن المنافق يرى بالموت. أو قبيل خروج روحه منزلته بعدها، وبعده ظلمة القبر أي حياة البرزخ، وبعدها موقف الحساب والجزاء {57: 13- 15 يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا: انظرونا نقتبس من نوركم – قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا، فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ينادونهم: ألم نكن معكم؟ قالوا: بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم، وغرتكم الأماني، حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور} الخ الآية التالية، وفي هاتين الآيتين أصدق بيان للمراد من ذهاب الله بنورهم، وكونه ليس إجبارا لهم على الكفر، ولا عبارة عن سلبهم التمكن من الإيمان، وإنما هو تعبير عن سنة الله تعالى في عاقبة فتنتهم لأنفسهم الخ وقال شيخنا في تطبيق المثل على اليهود وأمثالهم من هذه الأمة ما معناه: استوقدوا بفطرتهم السليمة نار الهداية الإلهية بتصديقهم، فلما أضاءت لهم بُروقُها، ووضح لهم طريقها، فاجأتهم التقاليد الموروثة، وباغتتهم العادات المألوفة، وشغلهم ما يتوهمونه فيها من المنافع والفوائد، وما يتوقعونه في الإعراض عنها من المصارع والمفاسد عن الاستعانة بذلك الضوء على سلوك ذلك الصراط المستقيم، والتفرقة بين نهاره المشرق وظلمات ليلها البهيم، بل استبدلوا هذا الديجور، بذلك الضياء والنور، وهذا هو معنى ذهاب نورهم. وإنما قال {ذهب الله بنورهم} ولم يقل ذهب نورهم، أو أذهب الله نورهم للإشعار بأن الله تعالى كان معهم بمعونته وتوفيقه عندما استوقدوا النار فأضاءت، وذلك أنهم كانوا قائمين على سبيل فطرته التي فطر الناس عليها، معتقدين صحة شريعته التي دعا الناس إليها، وبأنه تخلى عنهم عند ما نكبوا عن تلك السبيل، وعافوا ذلك المورد السلسبيل.
ولا شك أن المستوقد تكون له حالة مع الله مرضية في التوجه إليه وقصد اتباع هداه، والاستضاءة بنوره الذي وهبه إياه، فإذا أعرض عنه وكله الله إلى نفسه، وذهب بنوره. وإذا ذهب النور لا يبقى إلا الظلمة، وما كان هؤلاء في ظلمة واحدة، ولكنها ظلمات بعضها فوق بعض، متعددة بتعدد أنواع التقاليد التي فتنوا بها، وبتعدد أنواع الهداية التي أعرضوا عنها، ولذلك قال:
{وتركهم في ظلمات لا يبصرون} شيئا. حذف مفعول يبصرون إيذانا بالعموم، أي لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية ولا يرون طريقا من طرقها، لأنه صرف عنايته عنهم بتركهم سنته، وإهمالهم هدايته، ووكلهم إلى أنفسهم. ويا ويل من وكله الله إلى نفسه، وحرمه توفيقه، نسأل الله العافية.
هذا المثل مضروب لفريق لا ترجى هدايته، لأنه سد على نفسه جميع أبواب الهداية فلا يثق بعقله ولا بحواسه ولا بوجدانه إذا خالفت تقاليده وعدم الإبصار بذهاب النور غير كاف لتمثيل هذا اليأس والحرمان، لجواز أن يلوح بارق، أو يذر شارق، أو يصيح طارق، فتكون الهداية، وتنكشف الغواية، ولذلك عقبه بقوله تعالى {صم بكم عمي فهم لا يرجعون}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية..
ذلك أن كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء وفيه بساطة على معنى من المعاني.. الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها، والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها. أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة. وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات، ومزيد من الخطوط كيما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة.
على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة، ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه؛ كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم، ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم.
وزيادة في الإيضاح، يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه الطائفة ويكشف عن طبيعتها، وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18)
إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء، ولم يصموا آذانهم عن السماع، وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك، كما صنع الذين كفروا. ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه.. لقد استوقدوا النار، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها. عندئذ (ذهب الله بنورهم) الذي طلبوه ثم تركوه: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) جزاء إعراضهم عن النور!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامُه قبل الانتفاع به، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نوراً وبركة، ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكَذب وما يتفرع عن النفاق من المذام، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء، فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عوَّد بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم...