152- وإن نصر الله محقق واقع ، ولقد صدقكم الله الوعد بالنصر حين قتلتم كثيرين منهم أول الأمر بإرادته ، حتى إذا ضعف رأيكم في القتال ، واختلفتم في فهم أمر النبي إياكم بالمقام في مراكزكم ، فرأي بعضكم ترك موقعه حيث ظهر النصر ، ورأي البعض البقاء حتى النهاية ، وعصى فريق منكم أمر الرسول فمضى لطلب الغنيمة من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر ، وصرتم فريقين منكم من يريد متاع الدنيا ، ومنكم من يريد ثواب الآخرة ، لما كان ذلك ، منعكم نصره ثم ردكم بالهزيمة عن أعدائكم ، ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره . ولقد تجاوز عنكم لما ندمتم . والله ذو الفضل عليكم بالعفو وقبول التوبة .
{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
أي : { ولقد صدقكم الله وعده } بالنصر ، فنصركم عليهم ، حتى ولوكم أكتافهم ، وطفقتم فيهم قتلا ، حتى صرتم سببا لأنفسكم ، وعونا لأعدائكم عليكم ، فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور { وتنازعتم في الأمر } الذي فيه ترك أمر الله بالائتلاف وعدم الاختلاف ، فاختلفتم ، فمن قائل نقيم في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قائل : ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو ، ولم يبق محذور ، فعصيتم الرسول ، وتركتم أمره من بعد ما أراكم الله ما تحبون وهو انخذال أعدائكم ؛ لأن الواجب على من أنعم الله عليه بما أحب ، أعظم من غيره .
فالواجب في هذه الحال خصوصًا ، وفي غيرها عموما ، امتثال أمر الله ورسوله .
{ منكم من يريد الدنيا } وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب ، { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذين لزموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا حيث أمروا .
{ ثم صرفكم عنهم } أي : بعدما وجدت هذه الأمور منكم ، صرف الله وجوهكم عنهم ، فصار الوجه لعدوكم ، ابتلاء من الله لكم وامتحانا ، ليتبين المؤمن من الكافر ، والطائع من العاصي ، وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة ما صدر منكم ، فلهذا قال : { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } أي : ذو فضل عظيم عليهم ، حيث منَّ عليهم بالإسلام ، وهداهم لشرائعه ، وعفا عنهم سيئاتهم ، وأثابهم على مصيباتهم .
ومن فضله على المؤمنين أنه لا يقدر عليهم خيرا ولا مصيبة ، إلا كان خيرا لهم . إن أصابتهم سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين ، وإن أصابتهم ضراء فصبروا ، جازاهم جزاء الصابرين .
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها . فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها . ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار ، وتركوا وراءهم الغنائم ، وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة ! . . ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم ؛ وتنازعوا فيما بينهم ، وخالفوا عن أمر رسول الله [ ص ] نبيهم وقائدهم . . وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها ، في حيوية عجيبة :
( ولقد صدقكم الله وعده ، إذ تحسونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ، وعصيتم - من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . ثم صرفكم عنهم ليبتليكم . ولقد عفا عنكم ، والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم ، فأثابكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم ، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، يقولون : هل لنا من الأمر من شيء ؟ قل : إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم . وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم . إن الله غفور حليم ) . .
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة ، ولتداول النصر والهزيمة . مشهدا لا يترك حركة في الميدان ، ولا خاطرة في النفوس ، ولا سمة في الوجوه ، ولا خالجة في الضمائر ، إلا ويثبتها . . وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر ، ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة . وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل ، والهروب في دهش وذعر ، ودعاء الرسول [ ص ] للفارين المرتدين عن المعركة ، المصعدين للهرب . يصحب ذلك كله حركة النفوس ، وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع . . ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة ، تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن ، ومنهج القرآن التربوي العجيب :
( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) . .
وكان ذلك في مطالع المعركة ، حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين ، أي يخمدون حسهم ، أو يستأصلون شأفتهم . قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة . وكان رسول الله [ ص ] قد قال لهم : " لكم النصر ما صبرتم " فصدقهم الله وعده على لسان نبيه .
( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . .
وهو تقرير لحال الرماة . وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ؛ ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله [ ص ] وانتهى الأمر إلى العصيان . بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه . فكانوا فريقين : فريقا يريد غنيمة الدنيا ، وفريقا يريد ثواب الآخرة . وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة ، ولم يعد الهدف واحدا . وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة . فمعركة العقيدة ليست ككل معركة . إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير . ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير . إنها معركة لله ، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له .
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها ، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ؛ كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية . ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد ، فلا يمنحهم الله النصر أبدا ، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا . . وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة ، وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة ، وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح !
( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . .
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب ، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم . . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله [ ص ] يريد الدنيا ، حتى نزل فينا يوم أحد : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . . وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ؛ ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها !
وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره ، وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ؛ ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة :
( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) . .
لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر . فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين ، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل ، وصرف المقاتلين عن الميدان ، فلاذوا بالفرار . . وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم ؛ ولكن مدبرا من الله ليبتليهم . . ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح ؛ وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب ، ومن تمحيص النفوس ، وتمييز الصفوف - كما سيجيء .
وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها ، وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها . بلا تعارض بين هذا وذاك . فلكل حادث سبب ، ووراء كل سبب تدبير . . من اللطيف الخبير . .
عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان ؛ وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد . . عفا عنكم فضلا منه ومنة ، وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة . . عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله ، والاستسلام له ، وتسليم قيادكم لمشيئته :
( والله ذو فضل على المؤمنين ) . .
ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم ، ما داموا سائرين على منهجه ، مقرين بعبوديتهم له ؛ لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم ، ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم ، ولا موازينهم إلا منه . . فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة . . فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص . .
{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّىَ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مّا تُحِبّونَ مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مّن يُرِيدُ الاَخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
يعني بقوله تعالى ذكره : ولقد صدقكم الله أيها المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأُحد وعده الذي وعدهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم . والوعد الذي كان وعدهم على لسانه بأُحد قوله للرماة : «اثْبُتُوا مَكانَكُمْ وَلا تَبْرَحُوا وَإنْ رأيْتُمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ ، فإنّا لَنْ نَزاَلَ غالبينَ ما ثَبَتّمْ مَكانَكُمْ » ، وكان وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره¹ كالذي :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأُحد ، أمر الرماة ، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين ، وقال : «لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ إنْ رأيْتُمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ ، فإنّا لَنْ نَزَالَ غالِبِينَ ما ثَبَتّمْ مَكانَكُمْ » وأمّر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوّات بن جبير ، ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد ، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة ، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة ، أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟ فقام إليه عليّ بن أبي طالب ، فقال : والذي نفسي بيده ، لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار ، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة ! فضربه عليّ ، فقطع رجله فسقط ، فانكشفت عورته ، فقال : أنشدك الله والرحم يا ابن عم ! فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال لعليّ أصحابه : ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال : إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه . ثم شدّ الزبير بن العوّام والمقداد بن الأسود على المشركين ، فهزماهم ، وحمل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فهزموا أبا سفيان ، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل ، فرمته الرماة ، فانقمع¹ فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه ، بادروا الغنيمة ، فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانطلق عامتهم ، فلحقوا بالعسكر¹ فلما رأى خالد قلة الرماة ، صاح في خيله ، ثم حمل فقتل الرماة ، ثم حمل على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم¹ فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل ، تنادوا ، فشدّوا على المسلمين ، فهزموهم وقتلوهم .
حدثنا هارون بن إسحاق ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء ، قال : لما كان يوم أُحد ولقينا المشركين ، أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً بإزاء الرماة ، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوّات بن جبير ، وقال لهم : «لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ ! إنْ رأيْتُمُونا ظَهَرْنا عَلَيْهِمْ فَلا تَبْرَحُوا ، وَإنْ رأيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنا فَلا تُعِينُونا » فلما التقى القوم ، هُزم المشركون حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن ، وبدت خلاخلهن ، فجعلوا يقولون : الغنيمة الغنيمة ! قال عبد الله : مهلاً ، أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأبوا ، فانطلقوا ، فلما أتوهم صرف الله وجوههم ، فأصيب من المسلمين سبعون قتيلاً .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي أسحاق ، عن البراء ، بنحوه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، ابن عباس قوله : { وَلَقَدْ صَدقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسّونهُمْ بإذْنِهِ } فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوّال ، حتى نزل أُحدا ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن في الناس ، فاجتمعوا ، وأمّر على الخيل الزبير بن العوّام ، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلاً من قريش يقال له مصعب بن عمير ، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحُسّر ، وبعث حمزة بين يديه ، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير ، وقال : «اسْتَقْبِلْ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ فَكُنْ بإزَائِهِ حَتّى أوذِنْكَ ! » وأمر بخيل أخرى ، فكانوا من جانب آخر ، فقال : «لا تَبْرَحُوا حتى أوذِنَكُمْ ! » وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزّى ، فأرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الزبير أن يحمل ، فحمل على خالد بن الوليد ، فهزمه ومن معه ، كما قال : { لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسّونَهُمْ بإذْنِهِ حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ في الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } وإن الله وعد المؤمنين أن ينصرهم ، وأنه معهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري ، أن محمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا في قصة ذكرها عن أُحد ، ذكر أن كلهم قد حدّث ببعضها ، وأن حديثهم اجتمع فيما ساق من الحديث ، فكان فيما ذكر في ذلك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عُدْوة الوادي إلى الجبل ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وقال : «لا تُقَاتِلُوا حَتّى نَأْمُرَ بالِقَتال » ، وقد سرحت قريش الظهر والكُراع في زروع كانت بالصّمْغة من قناة للمسلمين ، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال : أتُرْعى زروع بني قيلة ولما نُضارب ! وصفّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال ، وهو في سبعمائة رجل ، وتصافّ قريش وهم ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس قد جَنَبُوها ، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل . وأمّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف ، وهو يومئذ معلم بثياب بيض ، والرماة خمسون رجلاً ، وقال : «انْضَحْ عَنّا الخَيْلَ بالّنْبِل لا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا ! إنْ كَانَتْ لنا أو عَلَيْنَا فاثْبُتْ مَكَانَكَ ، لا نُؤْتَيَنّ مِنْ قَبِلِكَ ! » فلما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، واقتتلوا حتى حميت الحرب ، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعليّ بن أبي طالب في رجال من المسلمين ، فأنزل الله عزّ وجلّ نصره ، وصدقهم وعده ، فحسّوهم بالسيوف حتى كشفوهم ، وكانت الهزيمة لا شك فيها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال الزبير : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات هوازم ، ما دون إحداهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه ، يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأُتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ : ألا إن محمدا قد قُتل ! فانكفأنا وأنكفأ علينا القوم بعد أن هزمنا أصحاب اللواء ، حتى ما يدنو منه أحد من القوم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ } : أي لقد وفيت لكم بما وعدتكم من النصر على عدوّكم .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللّهُ وَعْدَهُ } ، وذلك يوم أُحد ، قال لهم : «إنّكُمْ سَتَظْهَرُونَ فَلاَ تَأْخُذُوا ما أصَبْتُمْ مِنْ غَنائمهِمْ شَيْئا حتى تَفْرُغُوا » فتركوا أمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وعصوا ، ووقعوا في الغنائم ، ونسوا عهده الذي عهده إليهم ، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به .
القول في تأويل قوله تعالى : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : ولقد وفى الله لكم أيها المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وعدكم من النصر على عدوّكم بأحُد ، حين تحسّونهم ، يعني : حين تقتلونهم . يقال منه : حَسّهُ يَحُسّهُ حَسّا : إذا قتله . كما :
حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي ، قال : حدثنا يعقوب بن عيسى ، قال : ثني عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله : { إذْ تَحُسّوَنهُمْ بإذْنِهِ } قال : الحَسّ : القتل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : سمعت عبيد الله بن عبد الله يقول في قول الله عزّ وجلّ : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ } قال : القتل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إذْ تَحُسّوَنهُمْ بإذْنِهِ } قال : تقتلونهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسّوَنهُمْ } أي قتلاً بإذنه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ } يقول : إذ تقتلونهم .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ } والحَسّ القتل .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ } يقول : تقتلونهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ } بالسيوف : أي بالقتل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن : { إذْ تَحُسّونَهُمْ بإذْنِهِ } يعني : القتل .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ } يقول : تقتلونهم .
وأما قوله : { بإذْنِهِ } فإنه يعني : بحكمي وقضائي لكم بذلك وتسليطي إياكم عليهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ } بإذني وتسليطي أيديكم عليهم ، وكفي أيديهم عنكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أراكُمْ ما تُحِبّونَ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ } : حتى إذا جبنتم وضعفتم ، { وتَنازَعتمْ في الأمْرِ } بقول : واختلفتم في أمر الله¹ يقول : وعصيتم وخالفتم بنيكم ، فتركتم أمره ، وما عهد إليكم . وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرهم صلى الله عليه وسلم بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشعب بأُحد ، بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين الذين ذكرنا قبلُ أمرهم .
وأما قوله : { مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } فإنه يعني بذلك : من بعد الذي أراكم الله أيها المؤمنون بمحمد من النصر والظفر بالمشركين ، وذلك هو الهزيمة التي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعدهم فيها ، وقبل خروج خيل المشركين على المؤمنين من ورائهم .
وبنحو الذي قلنا تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل ، وقد مضى ذكر بعض من قال ، وسنذكر قول بعض من لم يذكر قوله فيما مضى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ } أي اختلفتم في الأمر ، { وعصيتمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } وذاكم يوم أُحد ، عهد إليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بأمر ، فنسوا العهد وجاوزوا وخالفوا ما أمرهم بنيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فانصرف عليهم عدوّهم بعد ما أراهم من عدوّهم ما يحبون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناسا من الناس يعني : يوم أُحد فكانوا من ورائهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كُونُوا هَهُنا فَرُدّوا وَجْهَ مَنْ قَدِمَنا ، وكُونُوا حَرَسا لَنا مِنْ قِبَلِ ظُهُورِنا » وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه ، اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم ، فقال بعضهم لبعض لما رأوا النساء مصعدات في الجبل ، ورأوا الغنائم ، قالوا : انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوا الغنيمة قبل أن تسبقوا إليها ! وقالت طائفة أخرى : بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا . فذلك قوله : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا } للذين أرادوا الغنيمة ، { وِمِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الاَخِرَةَ } للذين قالوا : نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونثبت مكاننا . فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فكان فشلاً حين تنازعوا بينهم¹ يقول : { وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْد مَا أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ } يقول : جبنتم عن عدوّكم ، { وَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ } يقول : اختلفتم وعصيتم ، { مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } وذلك يوم أُحد ، قال لهم : «إنّكَم سَتَظْهَرُونَ فلا أعَرِفنّ ما أصَبْتُمْ مِنْ غَنَائمهم شَيْئا حتى تفَرغُوا » ، فتركوا أمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ، ووقعوا في الغنائم ، ونسوا عهده الذي عهده إليهم ، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به ، فانصرف عليهم عدوّهم من بعد ما أراهم فيهم ما يحبون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ } قال ابن جريج : قال ابن عباس : الفشل : الجبن .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } من الفتح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ } : أي تخاذلتم ، { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ } أي اختلفتم في أمري ، { وَعَصَيْتُمْ } : أي تركتم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم وما عهد إليكم ، يعني : الرماة . { مِنْ بَعْد ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } أي الفتح لا شكّ فيه ، وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن المبارك ، عن الحسن : { مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ مَا تُحِبّونَ } يعني : من الفتح .
وقيل : معنى قوله : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْد ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون أنه من المقدّم الذي معناه التأخير ، وإن الواو دخلت في ذلك ، ومعناها : السقوط كما قلنا في : { فَلَمّا أسْلَما وَتَلّهُ للْجَبِينِ وَنادَيْناهُ } معناه : ناديناه ، وهذا مقول في «حتى إذا » وفي «فلما أنْ » ، ومنه قول الله عزّ وجلّ : { حتى إذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمأجُوجُ } ثم قال : { وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقّ } ومعناه : اقترب ، وكما قال الشاعر :
حتى إذَا قَمِلَتْ بُطُونُكُمُ *** وَرأيْتُمُ أبْناءَكُمْ شَبّوا
وَقلبْتُمْ ظَهْرَ المِجَنّ لنَا *** إنّ اللّئِيمَ العاجِزُ الخَبّ
القول في تأويل قوله تعالى : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا } : الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب من أحد لخيل المشركين ، ولحقوا بمعسكر المسلمين طلب النهب إذ رأوا هزيمة المشركين { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } يعني بذلك : الذين ثبتوا من الرماة في مقاعدهم التي أقعدهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا أمره ، محافظة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابتغاء ما عند الله من الثواب بذلك من فعلهم ، والدار الاَخرة . كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } فالذين انطلقوا يريدون الغنيمة ، هم أصحاب الدنيا والذين بقوا ، وقالوا : لا نخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادوا الاَخرة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { مِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } فإن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم أُحد طائفة من المسلمين ، فقال : «كُونُوا مَسْلَحَةً للنّاسِ » بمنزلة أمرهم أن يثبوا بها ، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم ، فلما لقي بنيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أبا سفيان ومن معه من المشركين ، هزمهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : فلما رأى المسلحةُ أن الله عزّ وجلّ هزم المشركين ، انطلق بعضهم وهم يتنادون : الغنيمة الغنيمة لا تفتكم ! وثبت بعضهم مكانهم ، وقالوا : لا نريم موضعنا حتى يأذن لنا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . ففي ذلك نزل : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } فكان ابن مسعود يقول : ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعَرَضها حتى كان يوم أحد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس : لما هزم الله المشركين يوم أُحد ، قال الرماة : أدركوا الناس ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم لا يسبقوكم إلى الغنائم فتكون لهم دونكم ! وقال بعضهم : لا نريم حتى يأذن لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { مِنكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } قال ابن جريج : قال ابن مسعود : ما علمنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يومئذٍ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن المبارك ، عن الحسن : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا } هؤلاء الذين يحوزون الغنائم ، { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } الذين يتبعونهم يقتلونهم .
حدثنا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ عن عبد خير ، قال : قال عبد الله : ما كنت أرى أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا ، حتى نزل فينا يوم أُحد : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن عبد خير ، قال : قال ابن مسعود : ما كنت أظن أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ أحدا يريد الدنيا حتى قال الله ما قال .
حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال عبد الله بن مسعود لما رآهم وقعوا في الغنائم : ما كنت أحسب أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان اليوم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : كان ابن مسعود يقول : ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وَعَرَضها حتى كان يومئذٍ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنيْا } أي الذين أرادوا النهب رغبة في الدنيا وترك ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الاَخرة ، { وَمِنْكُمْ مَنْ يَرِيدُ الاَخرَةَ } : أي الذين جاهدوا في الله لم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا رغبة في رجاء ما عند الله من حسن ثوابه في الاَخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ثم صرفكم أيها المؤمنون عن المشركين بعد ما أراكم ما تحبون فيهم ، وفي أنفسكم من هزيمتكم إياهم ، وظهوركم عليهم ، فردّ وجوهكم عنهم لمعصيتكم أمر رسولي ، ومخالفتكم طاعته ، وإيثاركم الدنيا على الاَخرة ، عقوبة لكم على ما فعلتم ، ليبتليكم ، يقول : ليختبركم ، فيتميز المنافق منكم من المخلص ، الصادق في إيمانه منكم . كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ثم ذكر حين مال عليهم خالد بن الوليد : { ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَليكُمْ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن في قوله : { ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } قال : صرف القوم عنهم ، فقتل من المسلمين بعدّة من أسروا يوم بدر ، وقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وشجّ في وجهه ، وكان يمسح الدم عن وجهه ، ويقول : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى رَبّهِمْ ؟ »¹ فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } . . . الاَية ، فقالوا : أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدنا النصر ؟ فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ } إلى قوله : { ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلَيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلَيكُمْ } : أي صرفكم عنهم ليختبركم ، وذلك ببعض ذنوبكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ على المُؤْمِنِين } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ } : ولقد عفا الله أيها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتاركون طاعته ، فيما تقدم إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم بلزومه عنكم ، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه عما هو أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم ، وصرف وجوهكم عنهم إذ لم يستأصل جمعكم . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن ، في قوله : { وَلَقَد عَفا عَنْكُمْ } قال : قال الحسن وصفق بيديه : وكيف عفا عنهم وقد قتل منهم سبعون ، وقتل عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وشجّ في وجهه ؟ قال : ثم يقول : قال الله عزّ وجلّ : قد عفوت عنكم إذ عصيتموني أن لا أكون استأصلتكم . قال : ثم يقول الحسن : هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فصنعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغمّ ، فأفسق الفاسقين اليوم يتجرأ على كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه ، فسوف يعلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ } قال : لم يستأصلكم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ } : ولقد عفا الله عن عظيم ذلك لم يهلككم بما أتيتم من معصية نبيكم ، ولكن عُدْت بفضلي عليكم .
وأما قوله : { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ على المُؤْمِنِينَ } فإنه يعني : والله ذو طول على أهل الإيمان به وبرسوله بعفوه لهم عن كثير ما يستوجبون به العقوبة عليه من ذنوبهم ، فإن عاقبهم على بعض ذلك ، فذو إحسان إليهم بجميل أياديه عندهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ على المُؤْمِنِينَ } يقول : وكذلك منّ الله على المؤمنين أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبا وموعظة ، فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحقّ له عليهم ، لما أصابوا من معصيته ، رحمة لهم ، وعائدة عليهم لما فيهم من الإيمان .
{ ولقد صدقكم } عطف على قوله : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وهذا عود إلى التَّسلية على ما أصابهم ، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين ، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين : تطميناً لهم بذكر نظيره ومماثله السابقِ ، فإنّ لذلك موقعاً عظيماً في الكلام على حدّ قولهم ( التَّاريخ يعيد نفسه ) وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تَبِعة الهزيمة عليهم ، وأنّ الله لم يُخلفهم وعده ، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله : { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ] .
وصِدق الوعد : تحقيقُه والوفاءُ به ، لأنّ معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع ، وقد عدّي صدق هنا إلى مفعولين ، وحقّه أن لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد . قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة [ الأحزاب : 23 ] : { من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه } يقال : صدقني أخوك وكذَبني إذا قال لك الصدق والكذب ، وأمَّا المثَل ( صَدَقَنِي سِنّ بَكْرِه ) فمعناه صدقني في سنّ بَكره بطرح الجارّ وإيصال الفعل . فنصب { وعدَه } هنا على الحذف والإيصال ، وأصل الكلام صدقَكم في وعده ، أو على تضمين صَدَق معنى أعطى .
والوعد هنا وعد النصر الواقعُ بمثل قوله : { يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] أو بخبر خاصّ في يوم أحُد .
وإذْن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب .
و ( إذ ) في قوله : { إذ تحسونهم } نصب على الظرفية لقوله : { صدقكم } أي : صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسّونهم بإذنه فإنّ ذلك الحسّ تحقيق لوعد الله إيّاهم بالنَّصر ، و ( إذْ ) فيه للمضيّ ، وأتى بعدها بالمضارع لإفادة التجدّد أي لحكاية تجدّد الحسّ في الماضِي .
والحَسّ بفتح الحاء القَتل أطلقه أكثر اللغويين ، وقَيّده في « الكشاف » بالقتل الذريع ، وهو أصوب .
وقوله : { حتى إذا فشلتم } ( حتَّى ) حرف انتهاء وغاية ، يفيد أنّ مضمون الجملة الَّتي بعدها غاية لمضمون الجملة الَّتي قبلها ، فالمعنى : إذ تقتلونهم بتيسير الله ، واستمرّ قتلكم إيّاهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم .
و ( حتَّى ) هنا جارّة و ( إذا ) مجرور بها .
و ( إذا ) اسم زمان ، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقاً كما هنا ، ولعلّ نكتة ذلك أنَّه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعاً لقوله : { تحسونهم } .
و ( إذا ) هنا مجرّدة عن معنى الشرط لأنَّها إذا صارت للمضيّ انسلخت عن الصلاحية للشرطية ، إذ الشرط لا يكون ماضياً إلاّ بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلّف تقديره : انقسمتم ، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلاً عليه وهو قوله : { منكم من يريد الدنيا } إلى آخرها .
والفشل : الوهن والإعياء ، والتنازع : التخالف ، والمُراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول ، وقد رتّبت الأفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول ، إذ كان الفشل ، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة ، قد حصل أولاً فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة ، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الَّذي أمرهم الرسول عليه الصلاة والسّلام بملازمته وعدم الانصراف منه ، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه .
والتعريف في قوله : { في الأمر } عوض عن المضاف إليه أي في أمركم أي شأنكم .
ومعنى { من بعد ما أراكم ما تحبون } أراد به النَّصر إذ كانت الريح أوّل يوم أُحُد للمسلمين ، فهزموا المشركين ، وولوا الأدبار ، حتَّى شوهدت نساؤهم مشمّرات عن سوقهنّ في أعلى الجبل هاربات من الأسر ، وفيهنّ هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان ، فلمَّا رأى الرماة الَّذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين ، الغنيمة ، التحقوا بالغزاة ، فرأى خالد بن الوليد ، وهو قائد خيل المشركين يومئذ ، غرّة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا ، فذلك قوله تعالى : { من بعد ما أراكم ما تحبون } فيكون المجرور متعلّقاً بفشلهم . والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم .
والأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبّون هو الغنيمة فإنّ المال محبوب ، فيكون المجرور يتنازعه كُلّ من ( فشلتم ، وتنازعتم ، وعصيتم ) ، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها ، إلى الموصول تنبيهاً على أنَّهم عجّلوا في طلب المَال المحبوب ، والكلام على هذا تمهيد لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعصيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبّر عنه ب ( إحدى الحسنيين ) ولم يكن ذلك عن جبن ، ولا عن ضعف إيمان ، أو قصد خذلان المسلمين ، وكلّه تمهيد لما يأتي من قوله : { ولقد عفا عنكم } .
وقوله : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة } تفصيل لتنازعتم ، وتبيين ل ( عصيتم ) ، وتخصيص له بأنّ العاصين بعض المخاطبين المتنازعين ، إذ الَّذين أرادوا الآخرة ليسوا بعاصين ، ولذلك أخّرت هاته الجملة إلى بعد الفعلين ، وكان مقتضى الظاهر أن يعقب بها قوله : { وتنازعتم في الأمر } وفي هذا الموضع للجملة ما أغنى عن ذكر ثلاث جمل وهذا من أبدع وجوه الإعجاز ، والقرينة واضحة .
والمراد بقوله : { منكم من يريد الدنيا } إرادة نعمة الدنيا وخيرها ، وهي الغنيمة ، لأنّ من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل ، وليس هو مفرّطاً في الآخرة مطلقاً ، ولا حاسباً تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتاً عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل ، فليس في هذا الكلام ما يدلّ على أنّ الفريق الَّذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدّوا عن الإيمان حينئذ ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال ، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بِدالَ على استخفاف بالآخرة ، وإنكار لها ، كما هو بيّن ، ولا حاجة إلى تقدير : منكم من يريد الدنيا ، فقط .
وإنَّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصياناً ، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف ، إذ كانوا قالوا : إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين ، فلمَّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتَّى تفوتنا الغنائم ، فكانوا متأوَّلين ، فإنَّما سمّيت هنا عصياناً لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد ، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل ، أو لأنّ التأويل كان بعيداً فلم يعذروا فيه ، أو لأنَّه كان تأويلاً لإرضاء حبّ المال ، فلم يكن مكافئاً لدليل وجوب طاعة الرّسول .
وإنَّما قال : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره ، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء ، ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره ، ولأنّ في الابتلاء أسراراً عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه .
وعُقب هذا الملام بقوله : { ولقد عفا عنكم } تسكيناً لخواطرهم ، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين ، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول عليه السلام في قوله تعالى : { عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] ، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو ، وفيه أيضاً دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفاً من غضب الله تعالى .
وفي تذييله بقوله : { والله ذو فضل على المؤمنين } تأكيد ما اقتضاه قوله : { ولقد عفا عنكم } والظاهر أنَّه عفو لأجل التأويل ، فلا يحتاج إلى التَّوبة ، ويجوز أن يكون عفواً بعدما ظهر منهم من الندم والتَّوبة ، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان .