قال تعالى : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذا جزاء لهم ، على استهزائهم بعباده ، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة ، حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين ، لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم ، ومن استهزائه بهم يوم القيامة ، أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا ، فإذا مشي المؤمنون بنورهم ، طفئ نور المنافقين ، وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين ، فما أعظم اليأس بعد الطمع ، { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } الآية .
قوله : { وَيَمُدُّهُمْ } أي : يزيدهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي : فجورهم وكفرهم ، { يَعْمَهُونَ } أي : حائرون مترددون ، وهذا من استهزائه تعالى بهم .
وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم ، حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الرواسي :
( الله يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) . .
وما أبأس من يستهزيء به جبار السماوات والأرض وما أشقاه ! ! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رعيب . وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب .
وهو يقرأ : ( الله يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) . . فيدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته ، واليد الجبارة تتلقفهم في نهايته ، كالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ ، غافلة عن المقبض المكين . . وهذا هو الاستهزاء الرعيب ، لا كاستهزائهم الهزيل الصغير .
وهنا كذلك تبدو تلك الحقيقة التي أشرنا من قبل إليها . حقيقة تولي الله - سبحانه - للمعركة التي يراد بها المؤمنون . وما وراء هذا التولي من طمأنينة كاملة لأولياء الله ، ومصير رعيب بشع لأعداء الله الغافلين ، المتركين في عماهم يخبطون ، المخدوعين بمد الله لهم في طغيانهم ، وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم ، والمصير الرعيب ينتظرهم هنالك ، وهم غافلون يعمهون !
{ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
قال أبو جعفر : اختلف في صفة استهزاء الله جل جلاله الذي ذكر أنه فاعله بالمنافقين الذين وصف صفتهم . فقال بعضهم : استهزاؤه بهم كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعل بهم يوم القيامة في قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ للّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم } قيل { ارجعُوا وراءكم فالْتَمِسُوا نُورا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يُنادُونَهُمْ ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلَى } الآية ، وكالذي أخبرنا أنه فعل بالكفار بقوله : { وَلا يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأِنْفُسِسِهمْ إنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثما } . فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به ، عند قائلي هذا القول ومتأوّلي هذا التأويل . وقال آخرون : بل استهزاؤه بهم : توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصي الله والكفر به ، كما يقال : إن فلانا ليهزأ منه اليوم ويسخر منه يراد به توبيخ الناس إياه ولومهم له ، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم ، كما قال عَبِيد بن الأبرص :
سائِلْ بِنا حُجْرَ ابْنَ أُمّ قَطامِ إذ *** ْظَلّتْ بهِ السّمْرُ النّوَاهلُ تَلْعَبُ
فزعموا أن السمر وهي القنا لا لعب منها ، ولكنها لما قتلتهم وشردتهم جعل ذلك من فعلها لعبا بمن فعلت ذلك به قالوا : فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بمن استهزأ به من أهل النفاق والكفر به ، إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم ، وإما إملاؤه لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتة ، أو توبيخه لهم ولأئمته إياهم . قالوا : وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسخرية .
وقال آخرون : قوله : { يُخادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ } على الجواب ، كقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به : أنا الذي خدعتك ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذْ صار الأمر إليه . قالوا : وكذلك قوله : { ومَكَرُوا ومَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ } والله يستهزىء بهم على الجواب ، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء . والمعنى : أن المكر والهزء حاق بهم .
وقال آخرون : قوله : { إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } وقوله : { يُخادِعُونَ اللّهَ وهُوَ خادِعُهُمْ } وقوله : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَنَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ } أشبه ذلك ، إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ، ومعاقبهم عقوبة الخداع . فأخرج خبره عن جزائه وما إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان ، كما قال جل ثناؤه : وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها ومعلوم أن الأولى من صاحبها سيئة إذ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية ، وأن الأخرى عدل لأنها من الله جزاء للعاصي على المعصية . فهما وإن اتفق لفظاهما مختلفا المعنى . وكذلك قوله : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدوا عَلَيْهِ } . فالعدوان الأول ظلم ، والثاني جزاء لا ظلم ، بل هو عدل لأنه عقوبة للظالم على ظلمه وإن وافق لفظه لفظ الأول . وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك مما هو خبر عن مكر الله جلّ وعزّ بقوم ، وما أشبه ذلك .
وقال آخرون : إن معنى ذلك أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا : إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم صدّقنا بمحمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به مستهزءون . يعنون : إنّا نظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حقّ ولا هُدًى . قالوا : وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء . فأخبر الله أنه يستهزىء بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي لهم عنده في الاَخرة ، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم .
والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا ، أن معنى الاستهزاء في كلام العرب : إظهار المستهزىء للمستهزإ به من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهرا ، وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطنا ، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله المُدْخِل لهم في عداد من يشمله اسم الإسلام وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين من أحكام المسلمين المصدقين إقرارهم بألسنتهم بذلك بضمائر قلوبهم وصحائح عزائمهم وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم ، مع علم الله عز وجل بكذبهم ، واطلاعه على خبث اعتقادهم وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم أنهم مصدقون حتى ظنوا في الاَخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا أنهم واردون موردهم وداخلون مدخلهم ، والله جلّ جلاله مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الملحقهم في عاجل الدنيا وآجل الاَخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه وتفريقه بينهم وبينهم ، معدّ لهم من أليم عقابه ونكال عذابه ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وأشرّ عباده ، حتى ميز بينهم وبين أوليائه فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الأسفل . كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم ، وإن كان جزاء لهم على أفعالهم وعدلاً ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له ، كان بهم بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء ، وحشره إياهم في الاَخرة مع المؤمنين وهم به من المكذّبين إلى أن ميز بينهم وبينهم ، مستهزئا وساخرا ولهم خادعا وبهم ماكرا . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل ، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزىء بصاحبه له ظالم أو عليه فيها غير عادل ، بل ذلك معناه في كل أحواله إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره . وبنحو ما قلنا فيه رُوي الخبر عن ابن عباس .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ قال : يسخر بهم للنقمة منهم .
وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره : اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ إنما هو على وجه الجواب ، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة فنافون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه وأوجبه لها . وسواء قال قائل : لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزىء ويسخر ويمكر به ، أو قال : لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم ، ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم . ويقال لقائل ذلك : إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم ، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم ، وعن آخرين أنه أغرقهم ، فصدقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك ، ولم نفرّق بين شيء منه ، فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به ، ولم يمكر به أخبر أنه قد مكر به ؟ ثم نعكس القول عليه في ذلك فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاَخر مثله . فإن لجأ إلى أن يقول إن الاستهزاء عبث ولعب ، وذلك عن الله عزّ وجلّ منفيّ . قيل له : إن كان الأمر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء ، أفلست تقول : اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وسخر الله منهم مكر الله بهم ، وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية ؟ فإن قال : «لا » كذّب بالقرآن وخرج عن ملة الإسلام ، وإن قال : «بلى » ، قيل له : أفتقول من الوجه الذي قلت : اللّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وسخر الله منهم يلعب الله بهم ويعبث ، ولا لعب من الله ولا عبث ؟ فإن قال : «نعم » ، وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه وعلى تخطئة واصفه به ، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه . وإن قال : لا أقول يلعب الله به ولا يعبث ، وقد أقول يستهزىء بهم ويسخر منهم قيل : فقد فرقت بين معنى اللعب ، والعبث ، والهزء ، والسخرية ، والمكر ، والخديعة . ومن الوجه الذي جازَ قِيلُ هذا ولم يَجُزْ قِيلُ هذا افترق معنياهما ، فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الاَخر .
وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَيَمُدّهُمْ .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ويَمُدّهُمْ فقال بعضهم بما :
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : يمُدّهُمْ : يُملي لهم .
حدثني به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قراءة عن مجاهد : يَمُدّهُمْ قال : يزيدهم .
وكان بعض نحويي البصرة يتأوّل ذلك أنه بمعنى : يمدّ لهم ، ويزعم أن ذلك نظير قول العرب : الغلام يلعب الكعاب ، يراد به يلعب بالكعاب . قال : وذلك أنهم قد يقولون قد مددت له وأمددت له في غير هذا المعنى ، وهو قول الله : وأمْدَدْناهُمْ وهذا من أمددناهم ، قال : ويقال قد مدّ البحر فهو مادّ ، وأمدّ الجرح فهو مُمِدّ .
وحكي عن يونس الجرمي أنه كان يقول : ما كان من الشرّ فهو «مددت » ، وما كان من الخير فهو «أمددت » . ثم قال : وهو كما فسرت لك إذا أردت أنك تركته فهو مددت له ، وإذا أردت أنك أعطيته قلت : أمددت .
وأما بعض نحويي الكوفة فإنه كان يقول : كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو «مددت » بغير ألف ، كما تقول : مدّ النهر ، ومدّه نهر آخر غيره : إذا اتصل به فصار منه . وكل زيادة أحدثت في الشيء من غيره فهو بألف ، كقولك : «أمدّ الجرح » ، لأن المدة من غير الجرح ، وأمددت الجيش بمدد .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله : ويمُدّهُمْ أن يكون بمعنى يزيدهم ، على وجه الإملاء والترك لهم في عتوّهم وتمرّدهم ، كما وصف ربنا أنه فعل بنظرائهم في قوله : وَنُقَلّبُ أفْئِدَتَهُمْ وأبْصَارَهُمْ كما لم يُؤْمِنوا بِهِ أوّل مرّةٍ ونَذرُهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يعني نذرهم ونتركهم فيه ونملي لهم ليزدادوا إثما إلى إثمهم . ولا وجه لقول من قال ذلك بمعنى «يمدّ لهم » لأنه لا تَدَافُع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها أن يستجيزوا قول القائل : مدّ النهر نهر آخر ، بمعنى : اتصل به فصار زائدا ماء المتصل به بماء المتصل من غير تأوّل منهم ، ذلك أن معناه مدّ النهر نهر آخر ، فكذلك ذلك في قول الله : وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ .
القول في تأويل قوله تعالى : في طُغْيانِهِمْ .
قال أبو جعفر : والطغيان الفُعْلان ، من قولك : طغى فلان يَطْغَى طغيانا إذا تجاوز في الأمر حده فبغى . ومنه قوله الله : كَلاّ إنّ الإنْسانَ لَيَطْغَى أنْ رآهُ اسْتَغْنى : أي يتجاوز حدّه . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
ودعا اللّهَ دَعْوَةً لاتَ هَنّا *** بَعْدَ طُغْيانِهِ فَظَلّ مُشِيرا
وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله : ويمُدّهُمْ في طُغْيانِهِمْ أنه يملي لهم ويذرهم يبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون . كما :
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قال : في كفرهم يترددون .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : في طُغْيانِهِمْ : في كفرهم .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهونَ أي في ضلالتهم يعمهون .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : في طُغْيانِهِمْ في ضلالتهم .
وحدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : في طُغْيانِهِمْ قال : طغيانهم ، كفرهم وضلالتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : يَعْمَهُونَ .
قال أبو جعفر : والعَمَهُ نفسه : الضلال ، يقال منه : عَمِهَ فلانٌ يَعْمَهُ عَمَهانا وعُمُوها : إذا ضل . ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مَضَلّةً من المهامة :
ومُخْفِقٍ مِنْ لُهْلُهٍ ولُهْلُهِ مِنْ مَهْمَه يُجْتَبْنَهُ في مَهْمَهِ
أعمَى الهدى بالجاهلينَ العُمّهِ
والعُمّهُ : جمع عامِهِ ، وهم الذين يضلون فيه فيتحيرون . فمعنى قوله جل ثناؤه : وَيَمُدّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه ، وعلاهم رجسه ، يترددون حيارى ضُلاّلاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلاً . وبنحو ما قلنا في «العَمَه » جاء تأويل المتأولين .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : يَعْمَهُونَ : يتمادون في كفرهم .
وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يَعْمَهُونَ قال : يتمادون .
وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله يَعْمَهُونَ قال : يترددون .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : يَعْمَهُونَ : المتلدد .
وحدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قال : يترددون .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وحدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد مثله .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة عن مجاهد مثله .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : يَعْمَهُونَ قال : يترددون .
{ الله يستهزئ بهم } يجازيهم على استهزائهم ، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة ، إما لمقابلة اللفظ باللفظ ، أو لكونه مماثلا له في القدر ، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم أو ينزل بهم ، الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء ، أو الغرض منه ، أو يعاملهم معاملة المستهزئ : أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم ، واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان ، وأما في الآخرة : فبأن يفتح لهم وهم في النار بابا إلى الجنة فيسرعون نحوه ، فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب ، وذلك قوله تعالى : { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أن الله تعالى تولى مجازاتهم ، ولم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم ، وأن استهزاءهم لا يؤبه به في مقابلة ما يفعل الله تعالى بهم ولعله لم يقل : الله مستهزئ بهم ليطابق قولهم ، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالا فحالا ويتجدد حينا بعد حين ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم كما قال تعالى : { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } . { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } من مد الجيش وأمده إذا زاده وقواه ، ومنه مددت السراج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد ، لا من المد في العمر فإنه يعدى باللام كأملى له . ويدل عليه قراءة ابن كثير { ويمدهم } . والمعتزلة لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره قالوا : لما منعهم الله تعالى ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، وسدهم طرق التوفيق على أنفسهم فتزايدت بسببه قلوبهم رينا وظلمة ، تزايد قلوب المؤمنين انشراحا ونورا ، وأمكن الشيطان من إغوائهم فزادهم طغيانا ، أسند ذلك إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى المسبب مجازا ، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة ، ومصداق ذلك أنه لما أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي وقال { وإخوانهم يمدونهم في الغي } . أو أصله يمد لهم بمعنى يملي لهم ويمد في أعمارهم كي يتنبهوا ويطيعوا ، فما زادوا إلا طغيانا وعمها ، فحذفت اللام وعدي الفعل بنفسه كما في قوله تعالى : { واختار موسى قومه } . أو التقدير يمدهم استصلاحا ، وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم . والطغيان بالضم والكسر كلقيان ، والطغيان : تجاوز الحد في العتو : والغلو في الكفر ، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه قال تعالى : { إنا لما طغى الماء حملناكم } . والعمه في البصيرة كالعمى في البصر ، وهو : التحير في الأمر يقال رجل عامه وعمه ، وأرض عمهاء لا منار بها ، قال
{ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } .
لم تعطف هاته الجملة على ما قبلها لأنها جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال مقدر ، وذلك أن السامع لحكاية قولهم للمؤمنين { آمنا } [ البقرة : 14 ] وقولهم لشياطينهم { إنا معكم } [ البقرة : 14 ] الخ . يقول لقد راجت حيلتهم على المسلمين الغافلين عن كيدهم وهل يتفطن متفطن في المسلمين لأحوالهم فيجازيهم على استهزائهم ، أو هل يرد لهم ما راموا من المسلمين ، ومَن الذي يتولى مقابلة صنعهم فكان للاستئناف بقوله : { الله يستهزىء بهم } غاية الفخامة والجزالة ، وهو أيضاً واقع موقع الاعتراض والأكثر في الاعتراض ترك العاطف . وذكر { يستهزىءُ } دليل على أن مضمون الجملة مجازاة على استهزائهم . ولأجل اعتبار الاستئناف قُدم اسم الله تعالى على الخبر الفعلي . ولم يقل يستهزىء اللَّهُ بهم لأن مما يجول في خاطر السائل أن يقول مَن الذي يتولى مقابلة سُوء صنيعهم فأُعلم أن الذي يتولى ذلك هو رب العزة تعالى ، وفي ذلك تنويه بشأن المنتصَر لهم وهم المؤمنون كما قال تعالى : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } [ الحج : 38 ] فتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوي الحكم لا محالة ثم يفيد مع ذلك قصر المسند على المسند إليه فإنه لما كان تقديم المسند إليه على المسند الفعلي في سياق الإيجاب يأتي لتقوي الحكم ويأتي للقصر على رأي الشيخ عبد القاهر وصاحب « الكشاف » كما صَرح به في قوله تعالى : { والله يقدر الليل والنهار } في سورة المزمل ( 20 ) ، كان الجمع بين قصد التقوي وقصد التخصيص جائزاً في مقاصد الكلام البليغ وقد جوزه في عند قوله تعالى : { فلا يخاف بخساً ولا رهقاً } في سورة الجن ( 13 ) ، لأن ما يراعيه البليغ من الخصوصيات لا يترك حملُ الكلام البليغ عليه فكيف بأبلغ كلام ، ولذلك يقال النكتُ لا تتزاحم .
كان المنافقون يغرهم ما يرون من صفح النبيء عنهم وإعراض المؤمنين عن التنازل لهم فيحسبون رواج حيلتهم ونفاقهم ولذلك قال عبد الله بن أبيّ : { ليُخرجَن الأعزُّ منها الأَذَلَّ } [ المنافقون : 8 ] فقال الله تعالى : { ولله العزة ولرسوله } [ المنافقون : 8 ] فتقديم اسم الجلالة لمجرد الاهتمام لا لقصد التقوي إذ لا مقتضي له .
وفعل : { يستهزىء } المسند إلى الله ليس مستعملاً في حقيقته لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يُسمى بالاستهزاء بدليل قوله : { ويمدهم في طغيانهم } ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين ، بما يشبه فعل المستهزىء بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راضٍ عنهم أو أن أَصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلافَ ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم . والمضارع في قوله : { يستهزىء } لزمن الحال .
ولا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في الدنيا ، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة . ويجوز أن يكون { يستهزىء بهم } حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في { يستهزىء } للاستقبال ، وإلى هذا المعنى نَحَا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية ، ويجوز أن يكون مراداً به جزاءُ استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازاً ومشاكلة ، أو مراداً به مآلُ الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم . وهذا كله وإن جاز فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه المعتزلة أيضاً لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعلٌ قبيحٌ ينزه الله تعالى عنه كما في « الكشاف » وهو مبني على المتعارف بين الناس .
وجيء في حكاية كلامهم بالمسند الاسمي في قولهم { إنما نحن مستهزئون } [ البقرة : 14 ] لإفادة كلامهم معنى دوام صدور الاستهزاء منهم وثباته بحيث لا يحولون عنه .
وجيء في قوله : { الله يستهزىء بهم } بإفادة التجدد من الفعل المضارع أي تجدد إملاء الله لهم زماناً إلى أن يأخذهم العذاب ، ليعلم المسلمون أن ما عليه أهل النفاق من النعمة إنما هو إملاء وإن طال كما قال تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 ] .
{ وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } .
يتعين أنه معطوف على { الله يستهزىء بهم } .
و ( يمد ) فعل مشتق من المَدَد وهو الزيادة ، يقال مَدَّه إذا زاده وهو الأصل في الاشتقاق من غير حاجة إلى الهمزة لأنه متعد ، ودليله أنهم ضموا العين في المضارع على قياس المضاعف المتعدي ، وقد يقولون أمده بهمزة التعدية على تقدير جعله ذا مَدد ثم غلب استعمال مَد في الزيادة في ذات المفعول نحو مَدَّ له في عُمره ومَدَّ الأرض أي مططها وأطالها ، وغلب استعمال أمد المهموز في الزيادة للمفعول من أشياء يحتاجها نحو أمده بجيش : { أمدكم بأنعام وبنين } [ الشعراء : 133 ] . وإنما استعمل هذا في موضع الآخر على الأصل فلذلك قيل لا فرق بينهما في الاستعمال وقيل يختص أمد المهموز بالخير نحو : { أتُمِدُّونني بمالَ } [ النمل : 36 ] { أن ما نُمِدُّهم به من مال } [ المؤمنون : 55 ] ، ويختص مَد بغير الخير ونقل ذلك عن أبي علي الفارسي في كتاب « الحجة » ، ونقله ابن عطية عن يونس بن حَبيب ، إلا المعدَّى باللام فإنه خاص بالزيادة في العمر والإمهالِ فيه عند الزمخشري وغيره خلافاً لبعض اللغويين فاستغنوا بذكر اللام المؤذنة بأن ذلك للنفع وللأجْل ( بسكون الجيم ) عن التفرقة بالهمز رجوعاً للأصل لئلا يجمعوا بين ما يقتضي التعدية وهو الهمزة وبين ما يقتضي القصور وهو لام الجر ، وكل هذا من تأثير الأمثلة على الناظرين وهي طريقة لهم في كثير من الأفعال التي يتفرع معناها الوضعي إلى معان جزئية له أو مقيدة أو مجازية أن يخصوا بعْض لغاته أو بعض أحواله ببعض تلك المعاني جرياً وراء التنصيص في الكلام ودفع اللبس بقدر الإمكان .
وهذا من دقائق استعمال اللغة العربية ، فلا يقال إن دعوى اختصاص بعض الاستعمالات ببعض المعاني هي دعوى اشتراك أو دعوى مجاز وكلاهما خلاف الأصل كما أورد عبد الحكيم ؛ لأن ذلك التخصيص كما علمت اصطلاح في الاستعمال لا تعدد وضع ولا استعمالٌ في غير المعنى الموضوع له ونظير ذلك قولهم فَرقَ وفَرَّق ووعَد وأوْعد ونَشَد وأنشد ونَزَّل ( المضاعف ) وأنزل ، وقولهم العِثار مصدر عثر إذ أريد بالفعل الحقيقة ، والعُثور مصدر عثر إذ أريد بالفعل المجاز وهو الاطلاع ، وقد فرقت العرب في مصادر الفعل الواحد وفي جموع الاسم الواحد لاختلاف القيود .
وتعدية فعل ( يمد ) إلى ضميرهم الدال على أدب أو ذوق مع أن المد إنما يتعدى إلى الطغيان جاءت على طريقة الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليتمكن التفصيل في ذهن السامع مثل طريقة بدل الاشتمال وجعل الزجاج والواحدي أصله ويمد لهم في طغيانهم فحذف لام الجر واتصل الفعل بالمجرور على طريقة نزع الخافض وليس بذلك .
والطغيان مصدر بوزن الغفران والشكران ، وهو مبالغة في الطغْي وهو الإفراط في الشر والكِبْر وتعليق فعل { يمدهم } هنا بضمير الذوات تعليق إجمالي يفسره قوله : { في طغيانهم } ويجوز أن يكون على تقدير لام محذوفة أي يمد لهم في طغيانهم أي يمهلهم فيكون نحو بعض ما فسر به قوله : { الله يستهزىء بهم } وهذا قول الزجاج والواحدي وفيه بُعد .
والعَمَهُ انطماس البصيرة وتحير الرأي وفعله عَمِهَ فهو عامه وأعمه .
وإسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى على الوجه الأول في تفسير قوله : { ويمدهم } إسناد خلق وتكوين منوط بأسباب التكوين على سنة الله تعالى في حصول المسببات عند أسبابها . فالنفاق إذا دخل القلوب كان من آثاره أن لا ينقطع عنها ، ولما كان من شأن وصف النفاق أن تنمي عنه الرذائل التي قدمنا بيانها كان تكونها في نفوسهم متولدا من أسباب شتى في طباعهم متسلسلاً من ارتباط المسببات بأسبابها وهي شتى ومتفرعة وذلك بخلق خاص بهم مباشرة ولكن الله حرمهم توفيقه الذي يقلعهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم ، فكان حرمانه إياهم التوفيق مقتضياً استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ فإسناد ازدياده إلى الله لأنه خالق النظم التي هي أسباب ازدياده ، وهذا يعد من الحقيقة العقلية الشائعة وليس من المجاز لعدم ملاحظة خلق الأسباب بحسب ما تعارفه الناس من إسناد ما خفي فاعله إلى الله تعالى لأنه الخالق للأسباب الأصلية والجاعل لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها ولا شاهدوا من تسند إليه على الحقيقة غيره وهذا بخلاف نحو : بنى الأمير المدينة لا سيما بعد التصريح بالإسناد إليه في الكلام بحيث لم يبق للبناء على عرف الناس مجال وهذا بخلاف نحو : يزيدك وجهه حسناً وسرتني رؤيتك ؛ لأن ذلك وإن كان في الواقع من فعل الله تعالى إلا أنه غير ملتفت إليه في العرف فلذلك قال الشيخ عبد القاهر : إنه من المجاز الذي لا حقيقة له .
وإنما أضاف الطغيان لضمير المنافقين ولم يقل في الطغيان بتعريف الجنس كما قال في سورة الأعراف : ( 202 ) { وإخوانُهم يُمِدُّونهم في الغيّ } إشارة إلى تفظيع شأن هذا الطغيان وغرابته في بابه وإنهم اختصوا به حتى صار يعرف بإضافته إليهم . والظرف متعلق بيمدهم و{ يعمهون } جملة حالية .