28- ومن الناس والدواب والإبل والبقر والغنم مختلف ألوانه كذلك في الشكل والحجم واللون . وما يتدبر هذا الصنع العجيب ويخشى صانعه إلا العلماء الذين يدركون أسرار صنعه ، إن الله غالب يخشاه المؤمنون ، غفور كثير المحو لذنوب من يرجع إليه{[188]} .
ومن ذلك : الناس والدواب ، والأنعام ، فيها من اختلاف الألوان والأوصاف والأصوات والهيئات ، ما هو مرئي بالأبصار ، مشهود للنظار ، والكل من أصل واحد ومادة واحدة .
فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة اللّه تعالى ، التي خصصت ما خصصت منها ، بلونه ، ووصفه ، وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها كذلك ، وحكمته ورحمته ، حيث كان ذلك الاختلاف ، وذلك التفاوت ، فيه من المصالح والمنافع ، ومعرفة الطرق ، ومعرفة الناس بعضهم بعضا ، ما هو معلوم .
وذلك أيضا ، دليل على سعة علم اللّه تعالى ، وأنه يبعث من في القبور ، ولكن الغافل ينظر في هذه الأشياء وغيرها نظر غفلة لا تحدث له التذكر ، وإنما ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى ، ويعلم بفكره الصائب وجه الحكمة فيها .
ولهذا قال : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } فكل من كان باللّه أعلم ، كان أكثر له خشية ، وأوجبت له خشية اللّه ، الانكفاف عن المعاصي ، والاستعداد للقاء من يخشاه ، وهذا دليل على فضيلة العلم ، فإنه داع إلى خشية اللّه ، وأهل خشيته هم أهل كرامته ، كما قال تعالى : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }
{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } كامل العزة ، ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات .
ثم ألوان الناس . وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر . فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه . بل متميز من توأمه الذي شاركه حملاً واحداً في بطن واحدة !
وكذلك ألوان الدواب والأنعام . والدواب أشمل والأنعام أخص . فالدابة كل حيوان . والأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز ، خصصها من الدواب لقربها من الإنسان . والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل كمعرض الثمار ومعرض الصخور سواء .
هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين ، يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول :
إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله :
( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) . .
وهذه الصفحات التي قلبها في هذا الكتاب هي بعض صفحاته ، والعلماء هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب . ومن ثم يعرفون الله معرفة حقيقية . يعرفونه بآثار صنعته . ويدركونه بآثار قدرته . ويستشعرون حقيقة عظمته برؤية حقيقة إبداعه . ومن ثم يخشونه حقاً ويتقونه حقاً ، ويعبدونه حقاً . لا بالشعور الغامض الذي يجده القلب أمام روعة الكون . ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر . . وهذه الصفحات نموذج من الكتاب . . والألوان والأصباغ نموذج من بدائع التكوين الأخرى وبدائع التنسيق التي لا يدركها إلا العلماء بهذا الكتاب . العلماء به علماً واصلاً . علماً يستشعره القلب ، ويتحرك به ، ويرى به يد الله المبدعة للألوان والأصباغ والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل .
إن عنصر الجمال يبدو مقصوداً قصداً في تصميم هذا الكون وتنسيقه . ومن كمال هذا الجمال أن وظائف الأشياء تؤدى عن طريق جمالها . هذه الألوان العجيبة في الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح . ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح ، لتنشأ الثمار . وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها ! . . والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه ، لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان . وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال .
الجمال عنصر مقصود قصداً في تصميم هذا الكون وتنسيقه . ومن ثم هذه اللفتات في كتاب الله المنزل إلى الجمال في كتاب الله المعروض .
عزيز قادر على الإبداع وعلى الجزاء . غفور يتدارك بمغفرته من يقصرون في خشيته ، وهم يرون بدائع صنعته .
وقوله : وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَابّ والأنْعامِ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ كما من الثمرات والجبال مختلف ألوانه بالحُمرة والبياض والسواد والصفرة ، وغير ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفا ألْوَانُها أحمر وأخضر وأصفر . وَمِنَ الجِبالِ جُددٌ بِيضٌ : أي طرائق بيض وحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُها أي جبال حمر وبيض وَغَرابِيبُ سُودٌ هو الأسود ، يعني لونه كما اختلف ألوان هذه اختلف ألوان الناس والدوابّ والأنعام كذلك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ طرائق بيض ، وحمر وسود ، وكذلك الناس مختلف ألوانهم .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا مروان ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك قوله وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ قال : هي طرائق حمر وسود .
وقوله : إنّمَا يَخْشى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ يقول تعالى ذكره : إنما يخاف اللّهَ فيتقي عقابه بطاعته العلماءُ ، بقدرته على ما يشاء من شيء ، وأنه يفعل ما يريد ، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته ، فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ قال : الذين يعلمون أن الله على كلّ شيء قدير .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ قال : كان يقال : كفى بالرهبة عِلما .
وقوله : إنّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ يقول تعالى ذكره : إن الله عزيز في انتقامه ممن كفر به ، غفور لذنوب من آمن به وأطاعه .
{ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك } كاختلاف الثمار والجبال . { إنما يخشى الله من عباده العلماء } إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله ، فمن كان اعلم به كان أخشى منه ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " أني أخشاكم لله وأتقاكم له " ولذلك أتبعه بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته ، وتقديم المفعول لأن المقصود حصر الفاعلية ولو آخر انعكس الأمر . وقرئ برفع اسم الله ونصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيبا . { إن الله عزيز غفور } تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه .