وليس هذا فحسب . ولكنها خصلة أخرى في يهود ، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنضح بالتحقير والمهانة : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) . . أية حياة ، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق ! حياة فقط ! حياة بهذا التنكير والتحقير ! حياة ديدان أو حشرات ! حياة والسلام ! إنها يهود ، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء . وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة . فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس ، وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة . . أي حياة !
( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، والله بصير بما يعملون ) . .
يود أحدهم لو يعمر ألف سنة . ذلك أنهم لا يرجون لقاء الله ، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة . وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها ، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة . . إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة . نعمة يفيضها الإيمان على القلب . نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني . المحدود الأجل الواسع الأمل وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود ، إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة . فالإيمان بالآخرة - فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق ، وجزائه الأوفى - هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية ، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض ؛ إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق ، الذي لا يعلم إلا الله مداه ، وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صعدا إلى جوار الله .
{ وَلَتَجِدَنّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلَىَ حَيَاةٍ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَلَتَجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ على حَياةٍ } اليهود يقول : يا محمد لتجدن أشدّ الناس حرصا على الحياة في الدنيا وأشدّهم كراهة للموت اليهود . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { وَلَتَجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ } على حَياةٍ يعني اليهود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن أبي العالية : { وَلَتَجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ على حَياةٍ } يعني اليهود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
وإنما كراهتهم الموت لعلمهم بما لهم في الاَخرة من الخزي والهوان الطويل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا .
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا } وأحرص من الذين أشركوا على الحياة ، كما يقال : هو أشجع الناس ومن عنترة ، بمعنى : هو أشجع من الناس ومن عنترة ، فكذلك قوله : { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا } لأن معنى الكلام : ولتجدنّ يا محمد اليهود من بني إسرائيل أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا . فلما أضيف «أحرص » إلى «الناس » ، وفيه تأويل «من » أظهرت بعد حرف العطف ردّا على التأويل الذي ذكرناه .
وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة لعلمهم بما قد أعدّ لهم في الاَخرة على كفرهم بما لا يقرّ به أهل الشرك ، فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث لأنهم يؤمنون بالبعث ، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب ، وأن المشركين لا يصدّقون بالبعث ، ولا العقاب . فاليهود أحرص منهم على الحياة وأكره للموت .
وقيل : إن الذين أشركوا الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة هم المجوس الذين لا يصدّقون بالبعث . ذكر من قال هم المجوس :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } يعني المجوس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } قال : المجوس .
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا } قال : يهود أحرص من هؤلاء على الحياة . ذكر من قال : هم الذين ينكرون البعث :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { وَلَتَجِدنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ على حَياةٍ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا } وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت فهو يحبّ طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ما له في الاَخرة من الخزي بما ضيع مما عنده من العلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } . .
هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا ، الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة ، يقول جل ثناؤه : يودّ أحد هؤلاء الذين أشركوا إلا بعد فناء دنياه وانقضاء أيام حياته أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور لو يعمر ألف سنة حتى جعل بعضهم تحية بعض عشرة آلاف عام حِرْصا منهم على الحياة . كما :
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي عليا ، أخبرنا أبو حمزة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } قال : هو قول الأعاجم سأل زه نوروز مهرجان حر .
وحدثت عن نعيم النحوي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } قال : هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس : زه هزارسال .
حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح عن قتادة في قوله : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } قال : حُببت إليهم الخطيئة طول العمر .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثني ابن معبد ، عن ابن علية ، عن ابن أبي نجيح في قوله : { يَوَدّ أحَدُهُمْ } فذكر مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : { وَلَتَجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ على حَياةٍ } حتى بلغ : { لَوْ يُعَمّرُ ألْف سَنَةٍ } يهود أحرص من هؤلاء على الحياة ، وقد ودّ هؤلاء لو يعمّر أحدهم ألف سنة .
وحدثت عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ }قال : هو قول أحدهم إذا عطس زه هزار سال ، يقول : عشرة آلاف سنة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ } : يعني جل ثناؤه بقوله : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ وما التعمير وهو طول البقاء بمُزَحْزِحه من عذاب الله . وقوله : هُوَ عماد لطلب «ما » الاسم أكثر من طلبها الفعل ، كما قال الشاعر :
*** فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بِمَا هَهُنَا رأسُ ***
و«أن » التي في : أنْ يُعَمّرَ رفع بمزحزحه ، أو هو الذي مع «ما » تكرير عماد للفعل لاستقباح العرب النكرة قبل المعرفة . وقد قال بعضهم إن «هو » الذي مع «ما » كناية ذكر العمر ، كأنه قال : يودّ أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب . وجعل «أن يعمر » مترجما عن «هو » ، يريد : ما هو بمزحزحه التعمير .
وقال بعضهم : قوله : وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ نظير قولك : ما زيد بمزحزحه أن يعمر . وأقرب هذه الأقوال عندنا إلى الصواب ما قلنا ، وهو أن يكون هو عمادا نظير قولك : ما هو قائم عمرو .
وقد قال قوم من أهل التأويل : إن «أن » التي في قوله : «أن يعمر » بمعنى : وإن عمّر ، وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع عن أبي العالية : { ومَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ }يقول : وإن عمر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أن يعمر ولو عمر .
وأما تأويل قوله : بِمُزَحْزِحِهِ فإنه بمبعده ومُنَحّيه ، كما قال الحُطَيئة :
وقالُوا تَزَحْزَحْ ما بِنا فَضْلُ حاجَةٍ *** إلَيْكَ وَما مِنّا لِوَهْيِكَ رَاقِعُ
يعني بقوله تزحزح : تباعد ، يقال منه : زحزحه يزحزحه زحزحةً وزِحزاحا ، وهو عنك متزحزح : أي متباعد .
فتأويل الآية : وما طول العمر بمبعده من عذاب الله ولا منحيه منه لأنه لا بد للعمر من الفناء ومصيره إلى الله . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد فيما أرى ، عن سعيد بن جبير ، أو عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَمَا هُوَ بِمُزَحْزحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ أي ما هو بمنحّيه من العذاب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ }يقول : وإن عمر ، فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجّيه .
حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ }فهم الذين عادوا جبريل عليه السلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ } ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء ، وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة ، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عُمّر كما عُمّر إبليس لم ينفعه ذلك ، إذ كان كافرا ولم يزحزحه ذلك عن العذاب .
القول في تأويل قوله تعالى : { واللّهُ بَصِير بِمَا يَعْمَلُونَ } يعني جل ثناؤه بقوله : وَاللّهُ بَصِير بِمَا يَعْمَلُونَ والله ذو إبصار بما يعملون ، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، بل هو بجميعها محيط ولها حافظ ذاكر حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها . وأصل بصير مبصر من قول القائل : أبصرت فأنا مبصر ولكن صرف إلى فعيل ، كما صرف مسمع إلى سميع ، وعذاب مؤلم إلى أليم ، ومبدع السماوات إلى بديع ، وما أشبه ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا}، أي: وأحرص الناس على الحياة من الذين أشركوا، أي مشركي العرب.
{لو يعمر} في الدنيا {ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} فيها
{والله بصير بما يعملون} فأبوا أن يتمنوه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله جل ثناؤه: {وَلَتَجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ على حَياةٍ} اليهود؛ يقول: يا محمد لتجدن أشدّ الناس حرصا على الحياة في الدنيا وأشدّهم كراهة للموت اليهود... وإنما كراهتهم الموت لعلمهم بما لهم في الاَخرة من الخزي والهوان الطويل.
{وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا}: وأحرص من الذين أشركوا على الحياة، كما يقال: هو أشجع الناس ومن عنترة، بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة، فكذلك قوله: {وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا} لأن معنى الكلام: ولتجدنّ يا محمد اليهود من بني إسرائيل أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا. فلما أضيف «أحرص» إلى «الناس»، وفيه تأويل «من» أظهرت بعد حرف العطف ردّا على التأويل الذي ذكرناه.
وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة لعلمهم بما قد أعدّ لهم في الاَخرة على كفرهم بما لا يقرّ به أهل الشرك، فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث لأنهم يؤمنون بالبعث، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب، وأن المشركين لا يصدّقون بالبعث، ولا العقاب. فاليهود أحرص منهم على الحياة وأكره للموت.
وقيل: إن الذين أشركوا الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة هم المجوس الذين لا يصدّقون بالبعث.
{يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ}: هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا، الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة، يقول جل ثناؤه: يودّ أحد هؤلاء الذين أشركوا إلا بعد فناء دنياه وانقضاء أيام حياته أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور لو يعمر ألف سنة حتى جعل بعضهم تحية بعض عشرة آلاف عام حِرْصا منهم على الحياة... عن قتادة في قوله: {يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ} قال: حُببت إليهم الخطيئة طول العمر.
{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ}: وما التعمير -وهو طول البقاء- بمُزَحْزِحه من عذاب الله... كأنه قال: يودّ أحدهم لو يعمر ألف سنة، وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب.
وقد قال قوم من أهل التأويل: إن «أن» التي في قوله: «أن يعمر» بمعنى: وإن عمّر، وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف.
" بِمُزَحْزِحِهِ": بمبعده ومُنَحّيه...فتأويل الآية: وما طول العمر بمبعده من عذاب الله ولا منحيه منه لأنه لا بد للعمر من الفناء ومصيره إلى الله... "بِمُزَحْزِحِهِ": فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجّيه.
{واللّهُ بَصِير بِمَا يَعْمَلُونَ}: والله ذو إبصار بما يعملون، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، بل هو بجميعها محيط ولها حافظ ذاكر حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها. وأصل "بصير "مبصر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والله بصير بما يعملون} هو على الوعيد أيضا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال بعض المفسرين: ان تأويل قوله: {لتجدنهم أحرص الناس على حياة} أي: من الناس أجمع، ثم قال وأحرص من الذين أشركوا على وجه التخصيص، لأن من لا يؤمن بالبعث والنشور، يكون حرصه على البقاء في الدنيا أكثر ممن يعتقد الثواب والعقاب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
حُبُّ الحياة في الدنيا نتيجة الغفلة عن الله، وأشد منه غفلة أَحبُّهم للبقاء في الدنيا.. وحالُ المؤمن من هذا على الضدِّ. وأما أهل الغفلة وأصحاب التهتك فإنما حرصهم على الحياة لعلمهم بما فقدوا فيها من طاعتهم؛ فالعبد الآبِق لا يريد رجوعاً إلى سَيِّده. والانقلابُ إلى مَنْ هو خيرُه مَرجوٌ خيرٌ للمؤمنين من البقاء مع مَنْ شَرُّه غيرُ مأمون، ثم إن امتداد العمر مع يقين الموت لا قيمة له إذا فَاجَأ الأمرُ وانقطع العُمْرُ. وكلُّ ما هو آتٍ فقريب، وإذا انقضت المُدَّةُ فلا مردَّ لهجوم الأجل على أكتاف الأمل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم قال: {على حياة} بالتنكير؟ قلت: لأنه أراد حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبيّ «على الحياة»
{وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس: أحرص من الناس.
فإن قلت: ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس؟ قلت: بلى، ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد... وفيه توبيخ عظيم: لأنّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقرّ بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ.
وليس المراد من ذكر ألف سنة قول الأعاجم عش ألف سنة، بل المراد به التكثير وهو معروف في كلام العرب.
[و] اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت أخبر في هذه الآية أنهم في غاية الحرص على الحياة لأن ههنا قسما ثالثا وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنى الموت ولا يتمنى الحياة فقال: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة}...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
{والله بصير بما يعملون} أي بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمر ألف سنة فالتقدير عنده؛ قل لهم يا محمد الله بصير بما تعملون. وقال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور. والبصير في كلام العرب: العالم بالشيء الخبير به.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
هذا المعنى وإن كان موجوداً في الحول والعام والحجة غير أن مأخذ الاشتقاق ملاحظ في الجملة، فلبلاغة القرآن لا يطلق واحد من هذه الألفاظ إلا فيما يناسب السياق من أصل اشتقاق هذه الألفاظ، فهذا السياق لما كان المراد به ذمهم بتهالكهم على بقائهم في الدنيا على أي حالة كانت علماً منهم بأنها ولو كانت أسوأ الأحوال خير لهم مما بعد الموت لتحقق شقائهم، عبر بما منه الإسنات وهو القحط وسوء الزمان. أو ما منه الدوران الذي فيه كد وتعب إن كان أصلها من سنا يسنو إذا دار حول البئر قال السهيلي في الروض: وقد تسمى السنة داراً في الخبر: إن بين آدم ونوح ألف دار -أي سنة، ثم قال: فتأمل هذا فإن العلم بتنزيل الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها يفتح باباً من العلم بإعجاز القرآن والله المستعان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين حقيقة حالهم في الإخلاد إلى الأرض، والفناء في حب البقاء وأنهم ليسوا على بينة مما يدعون، ولا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون، فقال {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} كذلك كانوا وكذلك هم الآن. والظاهر من سيرتهم ونظام معيشتهم أنهم كذلك يكونون إلى ما شاء الله وإن كان الظاهر أن الكلام خاص بمن كانوا في عصر التنزيل يحاجهم النبي صلى الله عليه وسلم ويشاغبونه ويجاحدونه، معتزين بشعبهم مغترين بكتابهم، بل ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد علماؤهم فقط.
{يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} أي يتمنى لو يعمره الله ويبقيه ألف سنة، أو أكثر، فإن لفظ الألف عند العرب منتهى أسماء العدد فيعبر به عن المبالغة في الكثرة لأنه يعرف من نفسه أنه مخالف لكتابه ويتوقع سخط الله وعقابه فيرى أن الدنيا على ما فيها من المنغصات خير له من الآخرة وما يتوقعه فيها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وليس هذا فحسب. ولكنها خصلة أخرى في يهود، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنضح بالتحقير والمهانة:
(ولتجدنهم أحرص الناس على حياة).. أية حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق! حياة فقط! حياة بهذا التنكير والتحقير! حياة ديدان أو حشرات! حياة والسلام! إنها يهود، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء. وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة. فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس، وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة.. أي حياة!