{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه ، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفي الرءوف بالعباد ، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك ، وقد وعد الوفاء بذلك ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } إلى آخر الآية . وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها ، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا ، وبذل ما به رغبوا ، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم ، وما ينالهم من الفوز والتكريم{[134]} .
. . . ذلك نموذج من الناس . يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس :
( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله . والله رؤوف بالعباد ) . .
ويشري هنا معناها يبيع . فهو يبيع نفسه كلها لله ؛ ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية ، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله . ليس له فيها شيء ، وليس له من ورائها شيء . بيعة كاملة لا تردد فها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن ، ولا استبقاء بقية لغير الله . . والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية . .
يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا ، ليعتقها ويقدمها خالصة لله ، لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه . فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله . وقد ذكرت الروايات سببا لنزول هذه الآية يتفق مع هذا التأويل الأخير :
قال ابن كثير في التفسير : قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة : نزلت في صهيب بن سنان الرومي . وذلك أنه لما أسلم بمكة ، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر لماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ؛ فتخلص منهم ، وأعطاهم ماله ؛ فأنزل الله فيه هذه الآية ؛ فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة ، فقالوا له : ربح البيع . فقال : وأنتم . فلا أخسر الله تجارتكم . وما ذاك ؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية . . ويروى أن رسول الله [ ص ] قال له : " ربح البيع صهيب " . . قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن مردويه ، حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبي ، حدثنا عوف ، عن أبي عثمان النهدي ، عن صهيب ، قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي [ ص ] قالت لي قريش : يا صهيب . قدمت إلينا ولا مال لك ؛ وتخرج أنت ومالك ؟ والله لا يكون ذلك أبدا . فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا : نعم ! فدفعت إليهم مالي ، فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي [ ص ] فقال " : ربح صهيب . . ربح صهيب " . . مرتين . .
وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث ، أو أنها كانت تنطبق عليه ، فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد . وهي ترسم صورة نفس ، وتحدد ملامح نموذج من الناس ؛ ترى نظائره في البشرية هنا وهناك
والصورة الأولى تنطبق على كل منافق مراء ذلق اللسان ؛ فظ القلب ، شرير الطبع ، شديد الخصومة ، مفسود الفطرة . . والصورة الثانية تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان ، متجرد لله ، مرخص لأعراض الحياة . . وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس ؛ ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز ؛ وتقيمهما أمام الأنظار يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن ، ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان . ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول ، وطلاوة الدهان ؛ وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة ، والنبرة المتصنعة ، والنفاق والرياء والزواق ! كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }
يعني جل ثناؤه : ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله : إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ بأنّ لَهُمُ الجَنّةَ وقد دللنا على أن معنى شرى باع في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فإنه يعني أن هذا الشاري يشري إذا اشترى طلب مرضاة الله . ونصب «ابتغاء » بقوله «يشري » ، فكأنه قال : ومن الناس من يشري من أجل ابتغاء مرضاة الله ، ثم ترك «من أجل » وعمل فيه الفعل . وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل على يشري كأنه قال : لابتغاء مرضاة الله ، فلما نزع اللام عمل الفعل . قال : ومثله : حَذَر المَوتِ وقال الشاعر وهو حاتم :
وأغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَريم ادّخارَهُ *** وأُعْرضُ عَنْ قَوْل اللّئِيم تَكَرّما
وقال : لما أذهب اللام أعمل فيه الفعل .
وقال بعضهم : أيما مصدر وضع موضع الشرط وموضع «أن » فتحسن فيها الباء واللام ، فتقول : أتيتك من خوف الشرّ ، ولخوف الشرّ ، وبأن خفت الشرّ فالصفة غير معلومة ، فحذفت وأقيم المصدر مُقامها . قال : ولو كانت الصفة حرفا واحدا بعينه لم يجز حذفها كما غير جائز لمن قال : فعلت هذا لك ولفلان ، أن يسقط اللام .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها ، فقال بعضهم : نزلت في المهاجرين والأنصار ، وعنى بها المجاهدون في سبيل الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ قال : المهاجرون والأنصار .
وقال بعضهم : نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ قال : نزلت في صهيب بن سنان وأبي ذرّ الغفاريّ جندب بن السكن أخذ أهل أبي ذرّ أبا ذرّ ، فانفلت منهم ، فقدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما رجع مهاجرا عرضوا له ، وكانوا بمر الظهران ، فانفلت أيضا حتى قدم على النبيّ عليه الصلاة والسلام . وأما صهيب فأخذه أهله ، فافتدى منهم بماله ، ثم خرج مهاجرا فأدركه منقذ بن عمير بن جدعان ، فخرج له مما بقي من ماله ، وخلى سبيله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ الآية ، قال : كان رجل من أهل مكة أسلم ، فأراد أن يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم ويهاجر إلى المدينة ، فمنعوه وحبسوه ، فقال لهم : أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء فخلوا عنى فألحق بهذا الرجل فأبوا . ثم إن بعضهم قال لهم : خذوا منه ما كان له من شيء وخلوا عنه ففعلوا ، فأعطاهم داره وماله ، ثم خرج فأنزل الله عز وجل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ الآية فلما دنا من المدينة تلقاه عمر في رجال ، فقال له عمر : ربح البيع ، قال : وبيعك فلا يخسر ، قال : وما ذاك ؟ قال : أنزل فيك كذا وكذا .
وقال آخرون : بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهاد في سبيله أو أمر بمعروف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حسين بن الحسن أبو عبد الله ، قال : حدثنا أبو عون ، عن محمد ، قال : حمل هشام بن عامر على الصفّ حتى خرقه ، فقالوا : ألقى بيده ، فقال أبو هريرة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن قيس بن أبي حازم ، عن المغيرة ، قال : بعث عمر جيشا فحاصروا أهل حصن ، وتقدم رجل من بجيلة ، فقاتل ، فقتل ، فأكثر الناس فيه يقولون : ألقى بيده إلى التهلكة . قال : فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : كذبوا ، أليس الله عز وجل يقول : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ واللّه رَءُوفٌ بالعِبادِ ؟ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا هشام ، عن قتادة ، قال : حمل هشام بن عامر على الصفّ حتى شقه ، فقال أبو هريرة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ .
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا حزام بن أبي حزم ، قال : سمعت الحسن قرأ : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِبادِ أتدرون فيم أنزلت ؟ نزلت في أن المسلم لقي الكافر فقال له : قل لا إله إلا الله ، فإذا قلتها عصمت دمك ومالك إلا بحقهما . فأبى أن يقولها ، فقال المسلم : والله لأشرينّ نفسي لله . فتقدّم فقاتل حتى قتل .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زياد بن أبي مسلم ، عن أبي الخليل ، قال : سمع عمر إنسانا قرأ هذه الآية : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ الله قال : استرجع عمر فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل .
والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل ، ما روي عن عمر بن الخطاب وعن عليّ بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم ، من أن يكون عنى بها الاَمر بالمعروف والناهي عن المنكر . وذلك أن الله جل ثناؤه وصف صفة فريقين : أحدهما منافق يقول بلسانه خلاف ما في نفسه وإذا اقتدر على معصية الله ركبها وإذا لم يقتدر رامها وإذا نهي أخذته العزّة بالإثم بما هو به آثم ، والاَخر منهما بائع نفسه طالب من الله رضا الله . فكان الظاهر من التأويل أن الفريق الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه ، إنما شراها للوثوب بالفريق الفاجر طلب رضا الله . فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية .
وأما ما رُوي من نزول الآية في أمر صهيب ، فإن ذلك غير مستنكر ، إذ كان غير مدفوع جواز نزول آية من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب ، والمعنّي بها كل من شمله ظاهرها .
فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عز ذكره وصف شاريا نفسه ابتغاء مرضاته ، فكل من باع نفسه في طاعته حتى قتل فيها أو استقتل وإن لم يقتل ، فمعنيّ بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ، في جهاد عدوّ المسلمين كان ذلك منه أو في أمر بمعروف أو نهي عن منكر .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِباد .
قد دللنا فيما مضى على معنى الرأفة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وأنها رقة الرحمة فمعنى ذلك : والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حادّه في أمره من أهل الشرك والفسوق وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم ، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا ، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته .