المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (161)

161- ما صح لنبي أن يخون في المغنم كما أشاع المنافقون الكذابون ، لأن الخيانة تنافي النبوة ، فلا تظنوا به ذلك ، ومن يخن يأت يوم القيامة بإثم ما خان فيه ، ثم تُعطى كل نفس جزاء ما عملت وافياً ، وهم لا يظلمون بنقصان الثواب أو زيادة العقاب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (161)

{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

الغلول هو : الكتمان من الغنيمة ، [ والخيانة في كل مال يتولاه الإنسان ]{[171]}  وهو محرم إجماعا ، بل هو من الكبائر ، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص ، فأخبر الله تعالى أنه ما ينبغي ولا يليق بنبي أن يغل ، لأن الغلول -كما علمت- من أعظم الذنوب وأشر العيوب . وقد صان الله تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم ، وجعلهم أفضل العالمين أخلاقا ، وأطهرهم نفوسا ، وأزكاهم وأطيبهم ، ونزههم عن كل عيب ، وجعلهم محل رسالته ، ومعدن حكمته { الله أعلم حيث يجعل رسالته } .

فبمجرد علم العبد بالواحد منهم ، يجزم بسلامتهم من كل أمر يقدح فيهم ، ولا يحتاج إلى دليل على ما قيل فيهم من أعدائهم ، لأن معرفته بنبوتهم ، مستلزم لدفع ذلك ، ولذلك أتى بصيغة يمتنع معها وجود الفعل منهم ، فقال : { وما كان لنبي أن يغل } أي : يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته .

ثم ذكر الوعيد على من غل ، فقال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أي : يأت به حامله على ظهره ، حيوانا كان أو متاعا ، أو غير ذلك ، ليعذب به يوم القيامة ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت } الغال وغيره ، كل يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه ، { وهم لا يظلمون } أي : لا يزاد في سيئاتهم ، ولا يهضمون شيئا من حسناتهم ، وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة .

لما ذكر عقوبة الغال ، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله ، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه ، وكان الاقتصار على الغال يوهم -بالمفهوم- أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون -أتى بلفظ عام جامع له ولغيره .


[171]:- زيادة من هامش ب.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (161)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَمَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَغُلّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة من قراء الحجاز والعراق : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } بمعنى : أن يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم من أموال أعدائهم . واحتجّ بعض قارئي هذه القراءة ، أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قطيفة فقدت من مغانم القوم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم : لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها . ورووا في ذلك روايات . فمنها ما :

حدثنا به محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا خصيف ، قال : حدثنا مقسم ، قال : ثني ابن عباس ، أن هذه الاَية : { وَما كانَ لِبَنِيّ أنْ يَغُلّ } نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، قال : فقال بعض الناس : أخذها ! قال : فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ } .

حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد ، قال : حدثنا خصيف ، قال : سألت سعيد بن جبير : كيف تقرأ هذه الاَية : { وَما ان لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } أو يُغَلّ ؟ قال : لا ، بل يَغُلّ ، فقد كان النبيّ واللّه يُغَلّ ويُقتل .

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس : { وَما كانَ لِنَبِيّ أن يَغُلّ } قال : كان ذلك في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر ، فقال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فلعلّ النبيّ أخذها ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } قال سعيد : بل والله إن النبيّ لُيغلّ ويُقتل .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خلاد ، عن زهير ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت قطيفة فقدت يوم بدر ، فقالوا : أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا خصيف ، عن سعيد بن جبير وعكرمة ، في قوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } قالا : يَغُلّ ، قال : قال عكرمة أو غيره ، عن ابن عباس ، قال : كانت قطيفة فقدت يوم بدر ، فقالوا : أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأنزل الله هذه الاَية : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا قزعة بن سويد الباهلي ، عن حميد الأعرج ، عن سعيد بن جبير ، قال : نزلت هذه الاَية : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من الغنيمة .

حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، قال : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن سليمان الأعمش ، قال : كان ابن مسعود يقرأ : { مَا كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ } فقال ابن عباس : بلى ، ويُقتل . قال : فذكر ابن عباس أنه إنما كانت في قطيفة ، قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غلّها يوم بدر ، فأنزل الله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } .

وقال آخرون ممن قرأ ذلك كذلك بفتح الياء وضمّ الغين : إنما نزلت هذه الاَية في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجههم في وجه ، ثم غنم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يقسم للطلائع ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الاَية على نبيه صلى الله عليه وسلم ، يعلمه فيها أن فعله الذي فعله خطأ ، وأن الواجب عليه في الحكم أن يقسم للطلائع مثل ما قسم لغيرهم ، ويعرّفه الواجب عليه من الحكم فيما أفاء الله عليه من الغنائم ، وأنه ليس له أن يخصّ بشيء منها أحدا ممن شهد الوقعة أو ممن كان ردءا لهم في غزوهم دون أحد . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القيامَةِ } يقول : ما كان للنبيّ أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القسم ، ولكن يقسم بالعدل ، ويأخذ فيه بأمر الله ، ويحكم فيه بما أنزل الله . يقول : ما كان الله ليجعل نبيا يغلّ من أصحابه ، فإذا فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، استنّوا به .

حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، أنه كان يقرأ : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } قال : أن يعطي بعضا ، ويترك بعضا ، إذا أصاب مغنما .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع ، فغنم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يقسم للطلائع ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } يقول : ما كان لنبيّ أن يقسم لطائفة من أصحابه ، ويترك طائفة ، ولكن يعدل ، ويأخذ في ذلك بأمر الله عزّ وجلّ ، ويحكم فيه بما أنزل الله .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } قال : ما كان له إذا أصاب مغنما أن يقسم لبعض أصحابه ويدع بعضا ، ولكن يقسم بينهم بالسوية .

وقال آخرون ممن قرأ ذلك بفتح الياء وضمّ الغين : إنما أنزل ذلك تعريفا للناس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لا يكتم من وحي الله شيئا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القيامَةِ ثُمّ تُوَفّى كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } : أي ما كان لنبيّ أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم عن رهبة من الناس ولا رغبة ، ومن يعمل ذلك يأت به يوم القيامة .

فتأويل قراءة من قرأ ذلك كذلك : ما ينبغي لنبيّ أن يكون غالاّ ، بمعنى : أنه ليس من أفعال الأنبياء خيانة أممهم . يقال منه : غلّ الرجل فهو يغلّ ، إذا خان ، غلولاً ، ويقال أيضا منه : أغلّ الرجل فهو يُغِلّ إغلالاً ، كما قال شريح : ليس على المستعير غير المغلّ ضمان ، يعني : غير الخائن¹ ويقال منه : أغلّ الجازر : إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد .

وبما قلنا في ذلك جاء تأويل أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } يقول : ما كان ينبغي له أن يخون ، فكما لا ينبغي له أن يخون فلا تخونوا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } قال : أن يخون .

وقرأ ذلك آخرون : «ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ » بضم الياء وفتح الغين ، وهي قراءة عُظْم قراء أهل المدينة والكوفة .

واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما كان لنبيّ أن يغله أصحابه . ثم أسقط الأصحاب ، فبقي الفعل غير مسمى فاعله¹ وتأويله : وما كان لنبيّ أن يخان . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن أنه كان يقرأ : «وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ » قال عوف : قال الحسن : أن يُخان .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغْلّ » يقول : وما كان لنبيّ أن يغله أصحابه الذين معه من المؤمنين ، ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وقد غلّ طوائف من أصحابه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : «وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ » قال : أن يغله أصحابه .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : «وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ » قال الربيع بن أنس ، يقول : ما كان لنبيّ أن يغله أصحابه الذين معه ، قال : ذكر لنا والله أعلم أن هذه الاَية أنزلت على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وقد غلّ طوائف من أصحابه .

وقال آخرون منهم : معنى ذلك : وما كان لنبيّ أن يتهم بالغلول فيخون ويسرق . وكأن متأوّلي ذلك كذلك وجهوا قوله : «وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ » إلى أنه مراد به يغلّل ، ثم خففت العين من يُفَعّل فصارت يفعل ، كما قرأ من قرأ قوله : «فإنّهُمْ لا يُكْذِبُونك » بتأوّل يُكَذّبُونك .

وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } بمعنى : ما الغلول من صفات الأنبياء ، ولا يكون نبيا من غلّ . وإنما اخترنا ذلك ، لأن الله عزّ وجلّ أوعد عقيب قوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } أهل الغلول ، فقال : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ } . . . الاَية ، والتي بعدها ، فكان في وعيده عقيب ذلك أهل الغلول ، الدليل الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول ، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلول ، لعقب ذلك بالوعيد على التهمة ، وسوء الظنّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا بالوعيد على الغلول ، وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول بيان بين ، أنه إنما عرف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتف من صفة الأنبياء وأخلاقهم ، لأن ذلك جرم عظيم ، والأنبياء لا تأتي مثله .

فإن قال قائل ممن قرأ ذلك كذلك : فأولى منه : وَما كان لنبيّ أن يخونه أصحابه إن ذلك كما ذكرت ، ولم يعقب الله قوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } إلا بالوعيد على الغلول ، ولكنه إنما وجب الحكم بالصحة لقراءة من قرأ : «يُغَلّ » بضم الياء وفتح الغين ، لأن معنى ذلك : وما كان للنبيّ أن يغله أصحابه ، فيخونوه في الغنائم¹ قيل له : أفكان لهم أن يغلوا غير النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخونوه ، حتى خصوا بالنهي عن خيانة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإن قالوا : نعم ، خرجوا من قول أهل الإسلام ، لأن الله لم يبح خيانة أحد في قول أحد من أهل الإسلام قط .

وإن قال قائل : لم يكن ذلك لهم في نبيّ ولا غيره ؟ قيل : فما وجه خصوصهم إذا بالنهي عن خيانة النبيّ صلى الله عليه وسلم وغلوله وغلول بعض اليهود ، بمنزلة فيما حرّم الله على الغالّ من أموالهما ، وما يلزم المؤتمن من أداء الأمانة إليهما . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا من أن الله عزّ وجلّ نفى بذلك أن يكون الغلول والخيانة من صفات أنبيائه ، ناهيا بذلك عباده عن الغلول ، وآمرا لهم بالاستنان بمنهاج نبيهم ، كما قال ابن عباس في الرواية التي ذكرناها من رواية عطية ثم عقب تعالى ذكره نهيهم عن الغلول بالوعيد عليه ، فقال : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ } . . . الاَيتين معا .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ } .

يعني بذلك تعالى ذكره : ومن يخن من غنائم المسلمين شيئا ، وفيئهم ، وغير ذلك ، يأت به يوم القيامة في المحشر . كما :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يحيى بن سعيد أبي حيان ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قام خطيبا ، فوعظ وذكر ، ثم قال : «ألا عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ شاةٌ لَهَا ثُغاءٌ ، يَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي ، فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا ، قَدْ أبْلَغْتُكَ ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهَا حَمْحَمَةٌ ، يَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي ، فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ . ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ صَامِت ، فَيَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي ، فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ . ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ ، يَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ رِقاعٌ تَخْفِقُ ، يَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي ، فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي حيان ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثل هذا ، زاد فيه : «على رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغاءٌ ، لا أُلْفِيَنّ أحَدَكُمْ على رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِياحٌ » .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أبو حيان ، عن أبي زرعة ، عن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا يوما ، فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره ، فقال : «لا ظأُلْفَينّ أحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ له رُغاءٌ ، يَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي » ثم ذكر نحو حديث أبي كريب ، عن عبد الرحمن .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حفص بن بشر ، عن يعقوب القمي ، قال : حدثنا حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتي يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلَ شاةً لَهَا ثُغاءٌ ، يُنادِي : يا مُحَمّدُ يا مُحَمّدُ ! فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ وَلا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتي يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلُ جَمَلاً لَهُ رُغاءٌ ، يَقُولُ : يا مُحَمّدُ يا مُحَمّدُ ! فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ وَلا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتي يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلُ فَرَسا لَهُ حَمْحَمَةٌ ، يُنادِي : يا مُحَمّدُ يا مُحَمّدُ ! فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ وَلا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتي يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلُ قِشْعا مِنْ أدَمٍ يُناديٍ : يا مُحَمّدُ يا مُحَمّدُ ! فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، قال : حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن عبد الله بن ذكوان ، عن عروة بن الزبير ، عن أبي حميد ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقا ، فجاء بسواد كثير ، قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقبضه منه¹ فلما أتوه ، جعل يقول : هذا لي ، وهذا لكم¹ قال : فقالوا : من أين لك هذا ؟ قال : أهدي إليّ ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه بذلك ، فخرج فخطب ، فقال : «أيّها النّاسُ ، ما بالي أبْعَثُ قَوْما إلى الصّدَقَةِ ، فَيَجِيءُ أحَدُهُمْ بالسّوَادِ الكَثِيرِ ، فإذَا بَعَثْتُ مَنْ يَقْبِضُهُ قالَ : هَذَا لي ، وَهَذَا لَكُمْ ! فإنْ كانَ صَادِقا أفَلا أُهْدِيَ لَهُ وَهُوَ فِي بَيْتِ أبِيهِ ، أوْ فِي بَيْتِ أُمّهِ ؟ » ثُمّ قالَ : «أيّها النّاسُ ، مَنْ بَعَثْناهُ على عَمَلٍ فَغَلّ شَيْئا ، جاءَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ على عُنُقِهِ يَحِملُهُ ، فاتّقُوا اللّهَ أنْ يَأتي أحَدُكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ على عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغاءٌ ، أوْ بَقَرَةٌ تَخُورُ ، أوْ شاةٌ تَثْغُو » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو معاوية وابن نمير وعبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي حميد الساعدي ، قال : استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد ، يقال له ابن الأتبيّة على صدقات بني سليم¹ فلما جاء قال : هذا لكم ، وهذا هدية أهديت لي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفَلاَ يَجْلِسُ أحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ فَتأْتِيهِ هَدِيّتُهُ ! » ثُم حَمِدَ اللّهَ وأثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمّ قالَ : «أمّا بَعْدُ فإنّي أسْتَعْمِلُ رِجالاً مِنْكُمْ على أُمُورٍ مِمّا وَلانّيِ اللّهُ ، فَيَقُولُ أحَدُهُمْ : هَذَا الّذِي لَكُمْ ، وَهَذَا هَدِيّةٌ أهْدِيَتْ إليّ أفَلاَ يَجْلِسُ فِي بَيْتِ أبِيهِ أوْ بَيْتِ أمّهِ فتأْتِيهَ هَدِيّتُهُ ! وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لا يَأْخُذُ أحَدُكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا إلاّ جاءَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلُهُ على عُنُقِهِ ، فَلا أعْرِفَنّ ما جاء رَجُلٌ يَحْمِلُ بَعِيرا لَهُ رُغاءٌ ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أوْ شاةً تَثْغُو » . ثم رفع يده فقال : «ألا هَلْ بَلّغْتُ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي حميد ، حدثه بمثل هذا الحديث ، قال : «أفَلا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أبِيكَ وأُمّكَ حتى تَأْتِيَكَ هَدِيّتُكَ ؟ » ثم رفع يده حتى إني لأنظر إلى بياض إبطيه ، ثم قال «اللّهُمّ هَلْ بَلّغْتُ » قال أبو حميد : بصر عيني ، وسمع أذني .

حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد اللهبن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحرث أن موسى بن جبير ، حدّثه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري ، حدّثه أن عبد الله بن أنيس حدّثه : أنه تذاكر هو وعمر يوما الصدقة ، فقال : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة : «مَنْ غَلّ منها بَعِيرا أو شَاةً فإنّه يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ » ؟ قال عبد الله بن أنيس : بلى .

حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدّقا ، فقال : «إياكَ يا سَعْدُ أنْ تَجِيء يَوْمَ القِيامَةِ بِبَعِيرٍ تَحْمِلُهُ لَهُ رُغاء ! » قال : لا آخذه ولا أجيء به فأعفاه .

حدثنا أحمد بن المغيرة الحمصي أبو حميد ، قال : حدثنا الربيع بن روح ، قال : حدثنا ابن عياش ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر بن حفص ، عن نافع مولى ابن عمر ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : أنه استعمل سعد بن عبادة ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسلم عليه ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إيّاكَ يا سَعْدُ أنْ تَجِيءَ يَوْمَ القِيامَةِ تَحْمِلُ على عُنُقِكَ بَعِيرا لَهُ رُغاءٌ ! » فقال سعد : فإن فعلتُ يا رسول الله إن ذلك لكائن ؟ قال : «نَعَمْ » ، قال سعد : قد علمت يا رسول الله أني أُسْأَلُ فأُعْطِي ، فأعفني ! فأعفاه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا زيد بن حبان ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن الحرث ، قال : ثني جدي عبيد بن أبي عبيد ، وكان أوّل مولود بالمدينة ، قال : استعملت على صدقة دَوْس ، فجاءني أبو هريرة في اليوم الذي خرجت فيه ، فسلم ، فخرجت إليه ، فسلمت عليه ، فقال : كيف أنت والبعير ؟ كيف أنت والبقر ؟ كيف أنت والغنم ؟ ثم قال : سمعت حِبّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أخَذَ بَعِيرا بغَيْرِ حَقّهِ جاءَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ لَهْ رُغاءٌ ، وَمَنْ أخَذَ بَقَرَةً بغَيْرِ حَقّها جاءَ بِها يَوْمَ القِيامَةِ لَهَا خُوَارٌ ، وَمَنْ أخَذَ شاةً بغَيْرِ حَقّها جاءَ بهَا يَوْمَ القِيامةِ على عُنُقِهِ لَهَا ثُغاءٌ فإيّاكَ والبَقَرَ فإنّها أحَدّ قُرُونا وأشَدّ أظْلافا ! » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : ثني محمد ، عن عبد الرحمن بن الحرث ، عن جده عبيد بن أبي عبيد ، قال : استُعملت على صدقة دوس¹ فلما قضيت العمل قدمت ، فجاءني أبو هريرة فسلم عليّ ، فقال : أخبرني كيف أنت والإبل ؟ ثم ذكر نحو حديثه عن زيد ، إلا أنه قال : «جاء بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ على عُنُقِهِ لَهُ رُغاءٌ » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ } قال قتادة : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ، إذا غنم مغنما ، بعث مناديا : «ألا لا يغلّنّ رجل مخيطا فما دونه ! ألا لا يغلنّ رجل بعيرا فيأتي به على ظَهْرِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ له رُغَاءٌ ! ألا لا يغلنّ رَجُلٌ فَرَسا ، فيأتي به على ظهره يوم القيامة له حمحمة ! » .

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ تُوَفّى كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : { ثُمّ تُوَفّى كُلّ نَفْسٍ } : ثم تعطى كل نفس جزاء ما كسبت بكسبها وافيا غير منقوص ما استحقه واستوجبه من ذلك : { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } يقول : لا يفعل بهم إلا الذي ينبغي أن يفعل بهم من غير أن يعتدي عليهم ، فينقصوا عما استحقوه . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ثُمّ تُوَفّي كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } ثم يجزى بكسبه غير مظلوم ولا معتدى عليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (161)

تقدم القول في صيغة : وما كان لكذا أن يكون كذا ، في قوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت } [ آل عمران : 145 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء ، وقرأ باقي السبعة «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء ، واللفظة : بمعنى الخيانة في خفاء ، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح ، قال أبو عمرو : تقول العرب : أغل الرجل يغل إغلالاً : إذا خان ، ولم يؤد الأمانة ، ومنه قول النمر بن تولب{[3670]} : [ الطويل ]

جزى اللَّهُ عنّي جَمْرَة َ ابْنَةَ نَوْفَلٍ . . . جزاءَ مُغِلًّ بالأمانةِ كاذبِ

وقال شريح : ليس على المستعير غير المغل ضمان ، قال أبو علي : وتقول من الغل الذي هو الضغن : غل يغِل بكسر الغين ، ويقولون في الغلول من الغنيمة ، غل يغُل بضم الغين ، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء }{[3671]} { وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك }{[3672]} { وما كان لنفس أن تموت }{[3673]} { وما كان الله ليضل قوماً بعد أن هداهم }{[3674]} { وما كان الله ليطلعكم على الغيب }{[3675]} ولا يكاد يجيء : ما كان زيد ليضرب ، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به ، وفي هذا الاحتجاج نظر ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «يغُل » بضم الغين ، فقيل له : إن ابن مسعود قرأ «يغَل » بفتح الغين ، فقال ابن عباس : بلى والله ويقتل ، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالاً على هذه القراءة - التي هي بفتح الياء وضم الغين ، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم : نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية{[3676]} .

قال القاضي أبو محمد : قيل : كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجاً ، وقيل كانت من منافقين ، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً ، قال النقاش : ويقال : إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد : الغنيمة الغنيمة أيها الناس ، إنما نخشى أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئاً فهو له ، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : خشيتم أن نغل{[3677]} ؟ ونزلت هذه الآية ، وقال الضحاك : بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم ، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع ، فأنزل الله تعالى عليه عتاباً ، { وما كان لنبي أن يغل } أي يقسم لبعض ويترك بعضاً{[3678]} ، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس ، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاماً بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم ، ورداً على الأعراب الذين صاحوا به : اقسم علينا غنائمنا يا محمد ، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه{[3679]} ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال ابن إسحاق : الآية إنما نزلت إعلاماً بأن النبي عليه السلام لم يكتم شيئاً ما أمر بتبليغه .

قال القاضي : وكأن الآية على هذا في قصة - أحد - لما نزل عليه : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه ، وبالجملة فهو تأويل ضعيف ، وكان يجب أن يكون «يُغِل » بضم الياء وكسر الغين ، لأنه من الإغلال في الأمانة ، وأما قراءة من قرأ «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، فمعناها عند جمهور من أهل العلم : أن ليس لأحد أن يغله : أي يخونه في الغنيمة ، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه ، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظوراً مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره ، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلهم حظهم من التوقير ، وقال بعض الناس : معنى «أن يغل » أن يوجد غالاً ، كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً ، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وقال أبو علي الفارس : معنى «يُغَل » بضم الياء وفتح الغين يقال له : غللت وينسب إلى ذلك ، كما تقول أسقيته ، إذا قلت : سقاك الله كما قال ذو الرمة : [ الطويل ]

وَأُسْقيهِ حتى كاد مِمّا أَبُثُّهُ . . . تُكَلِّمُني أحْجَارُه وَمَلاعِبُهْ{[3680]}

وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام ، ونحوه في الكلام : أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر ، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا آكل سمناً حتى يحياً الناس من أول ما يحيون{[3681]} : أي يدخلون في الحيا{[3682]} وقوله تعالى : { ومن يغلل يأتِ بما غل يوم القيامة } وعيد لمن يغل من الغنيمة ، أو في زكاته ، فيجحدها ويمسكها ، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : «ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك{[3683]} ، ثم ذكر ذلك عليه السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء ، وفرس له حمحمة »

وروى نحو هذا الحديث ابن عباس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، الحديث بطوله{[3684]} ، وروى نحوه أبو حميد الساعدي{[3685]} وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس{[3686]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أدوا الخياط والمخيط »{[3687]} ، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين ، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم :< شراك أو شراكان من نار>{[3688]} ، وقال في مدعم{[3689]} ، < إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً > .

قال القاضي : وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر ، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه السلام{[3690]} ، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه ، ألا ترى إلى قول الحادرة{[3691]} : [ الكامل ]

أسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ . . . رفع اللِّواء لَنَا بِهَا في الْمَجمَعِ

وكانت العرب ترفع للغادر لواء ، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته ، وقد تقدم القول في نظير ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }{[3692]} .


[3670]:- هو النمر بن تولب العكلي، أحد الشعراء المخضرمين، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، ومدحه بشعر، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتابا، ثم نزل بعد ذلك البصرة، وكان جوادا، وعمّر طويلا، يقال: عاش مائة سنة. "الإصابة والاستيعاب" و"تهذيب التهذيب" 10/474.
[3671]:- من الآية (38) من سورة يوسف.
[3672]:- من الآية (145) من سورة يوسف.
[3673]:- من الآية (145) من سورة آل عمران.
[3674]:- من الآية (115) من سورة التوبة.
[3675]:- من الآية (179) من سورة التوبة.
[3676]:- أخرجه أبو داود، وعبد بن حميد الترمذي، وحسنه، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق مقسم عن ابن عباس. "الدر المنثور للسيوطي 2/91" و"ابن كثير 1/421".
[3677]:- ذكره الثعلبي، والواحدي عن الكلبي ومقاتل. (الكشاف1/434). والبغوي والخازن في الجزء الأول ص: 369.
[3678]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير من طريق سلمة بن نبيط- عن الضحاك. (الدر المنثور للسيوطي2/91)، وأخرجه الطبري، والواحدي في أسبابه. (الكشاف1/343).
[3679]:- أخرجه أبو داود، والإمام أحمد، ورجال أحد أسانيده ثقات. (مجمع الزوائد6/187) وسيرة ابن هشام 4/928).
[3680]:- سقيت فلانا وأسقيته: إذا قلت له: سقاك الله. وبث الشكوى: جهر بها والملاعب: ملاعب الصبيان في الدار من ديارات العرب حيث يلعبون، والواحد ملعب. وقبله: وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه.
[3681]:- كان ذلك في عام الرمادة، وهو عام أصاب الناس فيه مجاعة وهي سنة: 17 من الهجرة. (تاريخ الخلفاء للسيوطي 130.ط. السعادة بمصر)
[3682]:- والحيا، مقصور: الخصب، والجمع أحياء، وقد جاء ممدودا بمعنى المطر والخصب، والحياة: نقيض الموت. والحياء: التوبة والحشمة.
[3683]:- أخرجه بطوله ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وابن جرير، والبيهقي، في الشعب- عن أبي هريرة قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظّم أمره، ثم قال: ألا لا ألفين أحدكم). (الدر المنثور للسيوطي 6/92)
[3684]:-أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (4/159)، وذكره ابن كثير بطوله وقال: لم يروه أحد من أهل الكتب الستة (1/421).
[3685]:- هو أبو حميد الساعدي الأنصاري الصحابي المشهور، عبد الرحمان بن سعد، له ذكر في الصحيحين، شهد أحدا وما بعدها، وتوفي آخر خلافة معاوية. "الاستيعاب" و"الإصابة" 4/46"
[3686]:- لعله عبد الله بن أنيس الجهني لأنه أشهر الخمسة الذين شاركوه في اسمه واسم أبيه، قاله الزرقاني على "المواهب اللدنية" في سرية "عبد الله بن أنيس"، وقال: لا معنى للتردد في أنه غيره (2/63). وترجم له في سيرة ابن هشام، وذكر قصيدته التي قالها في قتل ابن نبيح (4/267). وترجم له الحافظ في "الفتح" في "باب الخروج في طلب العلم" من البخاري:(1/127). كما ترجم له في الإصابة أيضا بطول (2/278) وقال فيه صاحب "الاستيعاب": كان مهاجريا أنصاريا عقبيا. وترجم له السيوطي في إسعاف المبطا (197).
[3687]:- أخرجه الدرامي في سننه، بن عبادة بن الصامت (2/230) وأخرجه الموطأ في باب ما جاء في الغلول (3/29) كما أخرجه أبو داود باختصاره، ورواه الإمام أحمد ورجال أحد أسانيده ثقات. (مجمع الزوائد 6/187) وكذا ورد في (سيرة ابن هشام: 4/928).
[3688]:- أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي- عن أبي هريرة بطوله. (الترغيب والترهيب2/309). وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أيضا. (الدر المنثور 2/92)، كما أخرجه الداروردي عن ثور. (شرح الزرقاني على الموطأ 3/31).
[3689]:- مدعم الأسود كان مولى لرفاعة الجذامي، فأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذكره في الموطأ، والصحيحين، وهو الذي أغل الشملة يوم خيبر، أصيب بسهم غرب فمات عام خيبر. (الإصابة 3/394).
[3690]:- أخرجه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم-عن أنس، والإمام أحمد، ومسلم- عن ابن مسعود، ومسلم- عن ابن عمر بلفظ: (لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة). وأخرجه مسلم- عن أبي سعيد بلفظ: (لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة) (الجامع الصغير 2/356). وفي "مجمع الزوائد" بروايات وأسانيد متعددة عن الطبراني (1/230) كما أخرجه المنذري والدارمي.
[3691]:- الحادرة: لقب غلب عليه، واسمه قطبة بن أوس، وهو شاهر جاهلي مقل، ذكر أنه خرج هو وزبان الفزاري يصطادان، فاصطادا جميعا فخرج زبان يشوي ويأكل وحده في الليل فقال فيه شعرا، فوقع هجاء بينهما (الأغاني 3/265. والحيوان للجاحظ 6/358).
[3692]:- عند تفسير قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون]. وهي الآية (281) من سورة (البقرة).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (161)

الأظهر أنَّه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض رعلى الغرض وموقعه عقب جملة : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } [ آل عمران : 160 ] . الآية لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذْل بيده ، وذلك يستلزم التَّحريض على طلب مرضاته ليكون لطيفاً بمن يُرضونه . وإذ قد كانت هذه النَّصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم ، نبّهوا إلى شيء يستخفّ به الجيش في الغزوات ، وهو الغُلول ليعلموا أنّ ذلك لا يُرضي الله تعالى فيحذَروه ويكونوا ممّا هو أدعى لغضب الله أشدّ حذراً فهذه مناسبة التَّحذير من الغلول ويعضّد ذلك أنّ سبب هزيمتهم يوم أُحُد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم . والغلُول : تعجّل بأخذ شيء من غال الغنيمة .

ولا تجد غير هذا يصلح لأن يكون مناسباً لتعقيب آية النصر بآية الغلول ، فإنّ غزوة أحُد الَّتي أتت السورة على قصّتها لم يقع فيها غُلول ولا كائن للمسلمين فيها غنيمة وما ذكره بعض المفسِّرين من قضية غلولٍ وقعت يومَ بدر في قطيفة حمراء أو في سيف لا يستقيم هنا لبعد ما بين غزوة بدر وغزوة أُحُد فضلاً على ما ذكره بعضهم من نزول هذه الآية في حرص الأعراب على قسمة الغنائم يوم حُنين الواقعِ بعد غزوة أحُد بخمس سنين .

وقرأ جمهور العشرة : يُغَلّ بضمّ التحتية وفتح الغين وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو وعاصم بفتح التحتية وضَمّ الغين .

والفعل مشتقّ من الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة بدون إذن أمير الجيش ، والغلول مصدر غير قياسي ، ويطلق الغلول على الخيانة في المال مطلقاً .

وصيغة { وما كان لنبي أن يُغلّ } صيغة جحود تفيد مبالغة النَّفي . وقد تقدّم القول فيها عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنُّبَوة } [ آل عمران : 79 ] في هذه السورة فإذا استعملت في الإنشاء كما هنا أفادت المبالغة في النَّهي . والمعنى على قراءة الجمهور نهي جيش النَّبيء عن أن يَغلُو لأنّ الغلول في غنائم النَّبيء صلى الله عليه وسلم غلول للنَّبيء ، إذ قسمة الغنائم إليه ، وأمَّا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم فمعنى أن النَّبيء لا يَغُلّ أنَّه لا يقع الغلول في جيشه فإسناد الغُلول إلى النَّبيء مجاز عقلي لملابسة جيش النَّبيء نبيئَهم ولك أن تجعله على تقدير مضاف . والتقدير : ما كَان لجيش نَبيء أن يَغُلّ .

ولبعض المفسّرين من المتقدّمين ومن بعدهم تأويلات للمعنى على هذه القراءة فيها سَماجة .

ومعنى و { من يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أنَّه يأتي به مشهَّراً مفضوحاً بالسرقة .

ومن اللَّطائف ما في البيان والتبيين للجاحظ : أنّ مَزْيَداً رجلاً من الأعراب سرق نافجة مسك فقيل له : كيفَ تسرقها وقد قال الله تعالى : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ؟ فقال : إذَنْ أحمِلُها طيّبةَ الريح خفيفة المحمل .

وهذا تلميح وتلقي المخاطب بغير ما يترقّب . وقريب منه ما حكي عن عبد الله بن مسعود والدرك على مَن حكاه قالوا : لمّا بعث إليه عثمان ليسلم مصحفه ليحرقه بعد أن اتَّفق المسلمون على المصحف الَّذي كُتب في عهد أبي بكر قال ابن مسعود : إنّ الله قال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وإنِّي غالّ مصحفي فمن استطاع منكم أن يَغُلّ مصحفه فليفعل . ولا أثق بصحَّة هذا الخبر لأنّ ابْن مسعود يعلم أنّ هذا ليس من الغلول .

وقوله : { ثم توفى كل نفس ما كسبت } تنبيه على العقوبة بعد التفضيح ، إذ قد علم أنّ الكلام السابق مسوق مساق النَّهي ، وجيء ب ( ثمّ ) للدّلالة على طول مهلة التفضيح ، ومن جملة النُّفوس الَّتي توفَّى ما كسبت نفس من يغلل ، فقد دخل في العموم .

وجملة { وهم لا يظلمون } حال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها وهي { توفى كل نفس ما كسبت } .

والآية دلّت على تحريم الغلول وهو أخذ شيء من المغنم بغير إذن أمير الجيش ، وهو من الكبائر لأنَّه مِثل السرقة ، وأصحّ ما في الغلول حديث « الموطأ » : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من خيبر قاصداً وادي القُرى وكان له عبد أسود يدعى مِدْعَما ، فبينما هو يحطّ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر فقتله ، فقال النَّاس : هنيئاً له الجنَّةُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلاّ والَّذي نفسي بيده إن الشَّملة التي أخذها يومَ خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً "

ومن غلّ في المغنم يؤخذ منه مَا غَلَّه ويؤدّب بالاجتهاد ، ولا قطع فيه باتِّفاق ، هذا قول الجمهور ، وقال الأوزاعي ، وإسحاق ، وأحمد بن حنبل ، وجماعة : يحرق متاع الغالّ كُلّه عدَا سِلاحَه وسرجه ، ويردّ ما غلّه إلى بيت المال ، واستدلّوا بحديث رواه صالح بن محمد بن زائدة أبو واقد الليثي ، عن عمر بن الخطاب : أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه " وهو حديث ضعيف ، قال الترمذي سألت محمداً يعني البخاري عنه فقال : « إنَّما رواه صالح بن محمد ، وهو منكر الحديث . على أنَّه لو صَحّ لوجَبَ تأويله لأنّ قواعد الشَّريعة تدلّ على وجوب تأويله فالأخذ به إغراق في التعلّق بالظواهر وليس من التفقّه في شيء .