51- هؤلاء الجاحدون الذين لم يسعوا في طلب الدين الحق ، بل كان دينهم اتِّباع الهوى والشهوات ، فكان لهواً يتلهون به وعبثاً يعبثونه وخدعتهم الحياة الدنيا بزخرفها فظنوها - وحدها - الحياة ، ونسوا لقاءنا ، فيوم القيامة ننساهم ، فلا يتمتعون بالجنة ، ويذوقون النار ، بسبب نسيانهم يوم القيامة ، وجحودهم بالآيات البينات الواضحات المثبتات للحق .
{ لَهْوًا وَلَعِبًا } أي : لهت قلوبهم وأعرضت عنه ، ولعبوا واتخذوه سخريا ، أو أنهم جعلوا بدل دينهم اللهو واللعب ، واستعاضوا بذلك عن الدين القيم .
{ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } بزينتها وزخرفها وكثرة دعاتها ، فاطمأنوا إليها ورضوا بها وفرحوا ، وأعرضوا عن الآخرة ونسوها .
{ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ } أي : نتركهم في العذاب { كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } فكأنهم لم يخلقوا إلا للدنيا ، وليس أمامهم عرض ولا جزاء .
{ وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } والحال أن جحودهم هذا ، لا عن قصور في آيات اللّه وبيناته .
الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
وقوله تعالى : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } الآية ، أضيف «الدين » إليهم من حيث قولهم أن يلتزموه إذ هو دين الله من حيث أمر به ، ودين جميع الناس من حيث أمروا به ، { وغرتهم الحياة الدنيا } يحتمل أن يكون من كلام أهل الجنة ، ويكون ابتداء كلام الله من قوله : { فاليوم } ، ويحتمل أن يكون الكلام من أوله من كلام الله عز وجل ، ومعنى قوله : { اتخذوا دينهم لهواً } أي بالإعراض والاستهزاء لمن يدعوهم إلى الإسلام ، { وغرتهم الحياة الدنيا } أي خدعتهم بزخرفها واعتقادهم أنها الغاية القصوى ، ويحتمل أن يكون اللفظ من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم وأبطرتهم ، وأما قوله { فاليوم ننساهم } فهو من إخبار الله عز وجل عما يفعل بهم ، والنسيان في هذه الآية هو بمعنى الترك ، أي نتركهم في العذاب كما تركوا النظر للقاء هذا اليوم ، قاله ابن عباس وجماعة من المفسرين ، قال قتادة نسوا من الخير ولم ينسوا من الشر ، وإن قدر النسيان بمعنى الذهول من الكفرة فهو في جهة ذكر الله تسمية العقوبة باسم الذنب ، وقوله : { وما كانوا } عطف على «ما » من قوله : { كما نسوا } ويحتمل أن تقدر { ما } الثانية زائدة ويكون قوله : «وكانوا » عطفاً على قوله { نسوا } .
قد تقدّم القول في معنى اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرّتهم الحياة الدّنيا عند قوله تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا } في سورة الأنعام ( 70 ) .
وظاهر النّظم أنّ قوله : { الذين اتخذوا دينهم } إلى قوله الحياة الدنيا هو من حكاية كلام أهل الجنّة ، فيكون : { اتخذوا دينهم لهواً } إلخ صفة للكافرين .
وجُوز أن يكون : { الذين اتخذوا دينهم لهواً } مبتدأً على أنّه من كلام الله تعالى ، وهو يفضي إلى جعل الفاء في قوله : { فاليوم ننساهم } داخلة على خبر المبتدأ لتشبيه اسم الموصول بأسماء الشّرط ، كقوله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } [ النساء : 16 ] وقد جُعلَ قوله : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } إلى قوله وماكانوا بآياتنا يجحدون آية واحدة في ترقيم أعداد آي المصاحف وليس بمتعيّن .
{ فاليوم ننساهم كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بآياتنا يَجْحَدُونَ } .
اعتراض حكي به كلام يُعْلَن به ، من جانب الله تعالى ، يَسمعه الفريقان . وتغيير أسلوب الكلام هو القرينة على اختلاف المتكلّم ، وهذا الأليق بما رجحناه من جعل قوله : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } إلى آخره حكاية لكلام أصحاب الجنّة .
والفاء للتّفريع على قول أصحاب الجنّة : { إنّ الله حرّمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } الآية ، وهذا العطف بالفاء من قبيل ما يسمّى بعطف التّلقين الممثَّل له غالباً بمعطوف بالواو فهو عطف كلام . متكلّم على كلام متكلّم آخَر ، وتقدير الكلام : قال الله { فاليوم ننساهم } ، فحذف فعل القول ، وهذا تصديق لأصحاب الجنّة ، ومَن جعلوا قوله : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } كلاماً مستأنفاً من قِبل الله تعالى تكون الفاء عندهم تفريعاً في كلام واحد .
والنّسيان في الموضعين مستعمل مجازاً في الإهمال والتّرك لأنّه من لوازم النّسيان ، فإنّهم لم يكونوا في الدّنيا ناسين لقاء يوم القيامة ، فقد كانوا يذكرونه ويتحدّثون عنه حديثَ من لا يصِدّق بوقوعه .
وتعليق الظّرف بفعل : { ننساهم } لإظهار أنّ حرمانهم من الرّحمة كان في أشدّ أوقات احتياجهم إليها . فكان لذكر اليوم أثرٌ في إثارة تحسّرهم وندامتهم ، وذلك عذاب نفساني .
ودلّ معنى كاف التّشبيه في قوله : { كما نسوا } على أنّ حرمانهم من رحمة الله كان مماثلاً لإهمالهم التّصديق باللّقاء ، وهي مماثلَة جزاءِ العملِ للعمل ، وهي مماثلة اعتباريّة ، فلذلك يقال : إنّ الكاف في مثله للتّعليل ، كما في قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] وإنّما التّعليل معنى يتولّد من استعمال الكاف في التّشبيه الاعتباري ، وليس هذا التّشبيه بمجاز ، ولكنّه حقيقة خفيّة لخفاء وجه الشّبه .
وقوله : { كما نسوا } ظرف مستقرّ في موضع الصّفة لموصوف محذوف دلّ عليه { ننساهُم } أي نسياناً كمَا نَسُوا .
و ( مَا ) في : { كما نسوا } وفي { وما كانوا } مصدريّة أي كنسيانهم اللّقاء وكجَحْدهم بآيات الله . ومعنى جحد الآيات تقدّم عند قوله تعالى : { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } في سورة الأنعام ( 33 ) .